يندرج المقال في ملف عن السحر أعدته وأشرفت عليه أحلام الطاهر
glich
هذا ما حدث لي. ابتلعتني تلك الحروف اللاتينية التي نطقتها إيزابيل ولم أعد أعرف أين أنا... في شارع، في بار، في تاكسي، على سطح بناية، في حوض استحمام؟ تهشّم كل شيء. ذرته رياحٌ لا كالرياح، ورأيت جدتي أمام بيتنا في الجنوب تقول: "ادخلي، ادخلي"، وهي تقف في ممر الباب، ولا تتحرّك لكي تفسح لي مجالاً للدخول.
ولشدة رغبتي في تذكر ما حدث، انتهى الأمر بذاكرتي إلى افتعال ما يشبه اللقطة المُكبّرة لأصابع رقيقة تمسك بيدي اليسرى، وشممت رائحة طلاء حديث، ثم عادت جدران الغاليري تدريجياً ومعها كلام يدور حول آندي وارهول الذي كان يُدعى "دريلا" ليكون اختصاراً لاسمين؛ سندريلا الفتاة الوحيدة التي تُركت في المطبخ بينما ذهب الجميع للرقص، والثاني لدراكولا الذي يتغذى ويعيش على الآخرين.
كنت أقول ببطء واضح في النطق إن ماري ورونوف وصفته في مذكراتها بأنه مصاص دماء أبيض فارغ، يترقب أن يمتلئ، غير قادر على إشباع ذاته. كان "الدودة البيضاء" جائعاً دائماً، بارداً دائماً، لا يعرف السكينة، في حركة دائمة للاستحواذ على الآخرين، خاصة إذا كانوا جذابين أو موهوبين. وخلال سنوات المصنع جمع حوله وفداً مُرافقاً، أرادهم أن يُطلعوه على مناطقهم الخفية وأن يشاركوه مشاكلهم واعترافاتهم وأن يصبحوا أصدقاءه، ليكتشف فيما بعد أنهم كانوا يبحثون عن شخص ما يدفع عنهم الإيجار. وهنا لا أعرف كيف تغيرت دفة الحديث وشبّه أحد الأصدقاء وارهول بصبية أعرفها، ثم نظر إليّ بتواطؤ، فلم ألتفت نحو الكلام حتى أُوغر الجرح في قلبه.
إذا كانت اللغة لعبة فأنا أكثر اللاعبين خطورة، لأني لا أخاف الخلل والنقص في المحادثات والكلمات المشوهة الفارغة التي تحوم حولها الوحدة كالضباب
إذا كانت اللغة لعبة فأنا أكثر اللاعبين خطورة، لأني لا أخاف الخلل والنقص في المحادثات والكلمات المشوهة الفارغة التي تحوم حولها الوحدة كالضباب. بل أميل إلى انقطاعات التواصل، سوء الفهم، سوء الاستماع، حلقات من الكتمان والتمتمة والتأتأة، نسيان الكلمات وحتى ادعاء عدم القدرة على فهم النكات. كل هذه الأشياء توقظ وحدة الآخر وتجبره على الانتباه للطريقة التي يُعبّر بها عن نفسه، وتُبقي وحدتي مصقولة لامعة كحد السيف. والآن تحتدّ رغبتي في أن ألصق صفّاً من الطوابع البريدية على جبهته، بعد أن ألعق كل طابع بطرف لساني، ثمّ أحمله إلى مكتب البريد. أضعه برفقٍ على المنضدة مثل الدمية المحشوّة، وأطلب من العاملة أن ترسله إلى الشيطان، فتمتعض وتقول، بذلك التصنّع الخاص الذي تمتاز به جميع عاملات البريد، إنه من المستحيل تنفيذ طلبي لأنه ينقصني أربعة طوابع للطرود الضخمة.
وكنت أعُدّ الطوابع وأحاول تعبئة الرمز البريدي الكامل للعنوان، حين أمسكت يدي سيدة لم يسعفني الفضول كي أتعرف عليها، كانوا ينادونها إيزابيل، وقالت بنبرة متكسرة: "لم يمضِ على وجودي هنا أكثر من نصف ساعة لكنني متيقنة أنك لو عشت زمن محاكم التفتيش لجرّوك إلى تلك الأعمدة المشتعلة في ساحات القُرى، وبقيت عظامك البيضاء النظيفة تلمع تحت الشمس". ثم تمتمت بضع كلمات لاتينية غامضة، ورفعت يدها إلى وجهها الناعم لترسل قبلة.
لقد تعلمت. لا بأس أن أكون عمياء البصر مفتوحة البصيرة. هذا أحسن لي. من عماي ولدتُ وفتحت عيني على ما حولي. وها أنا أقبض على زمن ضائع وأرى جدتي تحكي حكايتها وهي تقف في ممر الباب، لا تتحرّك لكي تفسح لي مجالاً للدخول. تقول "حسبي الله ونعم الوكيل"، فأمرّر أصابعي على عنقها الرخامي وشعرها المتدفق وأهمس لها بخبث: "سحّارة... أعطينا الأمان. يْشِدُّوك حْجارِك وبِيبانْ دارِك. يشدّوك حجارك وبيبان دارك".
الساحرة: أيقونة نسوية؟
فيما بعد، عرفت أن إيزابيل التي كانت معنا في تلك السهرة هي الناشرة إيزابيل كامبوراكيس التي أصدرت مجموعة نسوية تحت عنوان "ساحرات". وجدتها في بريدي، ومن بينها كتاب تطبيقي "دليل العِرافة النسوية" لكامي دوساليي، مخرجة الشريط الوثائقي "الساحرات، أخواتي". ابتسمتُ وأنا أقلب الهدية، ورفعت من أسفل الصندوق قميصاً كُتب عليه ذلك الشعار النسوي "نحن حفيدات الساحرات اللواتي لم تنجحوا في حرقهن". ولو وضعنا كلمة "نساء" هنا بدل "ساحرات" لتوصلنا إلى فهم أفضل للفظاعات التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية. ومن بين المجازر الموثقة في الأرشيف، حملة صيد الساحرات التي نفذت في قرية مجاورة لمنطقة "تريف" في ألمانيا ولم تُبق سوى على امرأة واحدة، في حين تم إحراق 368 أخريات. وضعتنا المؤرخة آن بارستو وجهاً لوجه أمام الحقيقة، حين شبّهت عمليات القتل بأنها "انفجار لمشاعر العداء تجاه المرأة"، فقد كانت أغلب الضحايا معالجات وقابلات وعالمات، شكّلن بذلك قوّة معرفيّة، في وجه سلطة رجال الكنيسة الذين أرادوا احتكار المعرفة والشفاء والحكمة.
وكان يمكن لأيّ امرأة أن تلقى مصير الحرق بتهمة السحر، إن كانت ضحية اغتصاب يريد الجاني التخلّص منها أو أرملة تريد عائلتها الاستيلاء على الميراث، أو عشيقة تثير مخاوف شريكها (خاصة إذا كان منصبه حسّاساً)، أو امرأة صعبة المراس ومستقلة بشكل غير مريح. كاتبةُ سيرة آنا غولدي (وهي على الأرجح آخر ساحرة في أوروبا، تم إعدامها بقطع رأسها في غلاريس بسويسرا سنة 1782) تقول إنها وجدت أثراً لشكاية من أجل التحرش الجنسي قدمتها غولدي ضد الطبيب والقاضي الذي كان يشغّلها كمعينة منزلية، وفي كتابها "ساحرات، قدرة النساء التي لا تُقهر" تقول مونا شوليه: "كان يكفي أن تكوني جميلة أكثر من اللازم، أو قبيحة أكثر من المعقول، عزباء، غير متزوجة أو زوجة لم تنجب، أن تتصرفي بطريقة غير مألوفة، لكي تُربطي إلى عمود، وتتركي لألسنة اللهب". عرضٌ عقابي مبتكر للردع وبثّ الرعب في القلوب، فمن رأت جارتها تتحول إلى كومة من رماد، باتت تعرف أنّ عليها ألاّ تستسلم للفردانية وتتصرّف بطريقة تلفت النظر، كأن ترفع صوتها، أو تبدو أكثر ذكاءً وقوة من المتوقّع.
الطفولة.. أرض السحر
كنت أودُّ أن أُدوّن ما حدث لبيت جدتي في الصيف الذي بلغتُ فيه الحادية عشرة من العمر، ولكني لست متأكدة من أنه قد حدث فعلاً. إنني في حاجة إلى إعطاء شهادة على حدثٍ غير مؤكَّد؛ وأشعر بهذا الأمر الذي يمكن ألاّ يكون قد وقع يضجّ داخلي، بل إنني لا أعلم ماذا أسمّيه. لا يهم. أنا لا أعرف الحقيقة، أو لا أعرف كيف أُخبر الحقيقة. كل ما لديّ قصص، أفكار ليليّة، قناعات مُفاجئة يبذرها الشك. كل ما لديّ، بالأحرى، هذيان. أتذكر ذلك الإحساس الذي يُولّده الفجر، عندما يجافيني النوم. أبقى على درج العِليّة بينما العائلة تتنفّس تحتي وأنا أدوِّن كلمات غامضة، أسبك الحرف مع الحرف وأصوغُ عظامي البيضاء، النظيفة كلها، بلغة جديدة.
وكان يوم عيد. طلع النهار ولا شمس. توزعنا نحن الأطفال أمام ضراوة الريح الشرقية وبدأنا نرِق ونحن نحدّق في النساء يحملن الحلوى إلى الفرن، والشموع إلى الضريح. اتّسعت المدينة لكل شيء حتى لم يبق هنالك شيء لم تتسع له هذه المدينة، وبعد أن عانقنا العيون والروائح خطر لنا أن نشارك في بهجة الاحتفال بتعويذة "نادي الحمام يأتي من كل فج إلى سطح بيتك"، ومالت رقابنا نحو الولي:
سيدي يا صاحب الكرامات، ها أنت حاضر معي
في نهار هو كالليل، تنظر إليّ بعينيك المطفأتين
ترفع صوتك فوق صوتي، تمتد في دمي من الميلاد إلى آخر الرمق
أتعبتني كثيراً
أعطني شيئاً منك دعني أدخل حماك، زودني بطيورك الشمعيّة
أنشدني نشيدك، علمني كيف أَفتِن
وأُفتَن، قدني نحو مراتع الجنيات
أورزعث اس وقضبان ننحاس ارنيغاس اسوين نالذكير.
مئة ألف ولي
الأشياء العصية عن الوصف، يمكن تذكرها وكأن يداً راعشة تمسك بكاميرا عمياء، وليس مهماً الآن أن أرتّب ذاكرتي في خانات عقلانية، وأضع الأخيلة تحت بند الحمّى التي كانت ولا تزال تتربص بي عند أي انفعال حاد. لا ترتيب لما لا يُرتَّب. حتى حين أستعين بأنثروبولوجيا المعتقدات وأقرأ درمنغم، ج.هربر، لاوست ومارسيل موس، الذين درسوا الطقوس والممارسات الدينية في شمال إفريقيا، ألاحظ أن الأطروحات تسير غالباً في اتجاهين، الأول يركز على نقاط اختلاف الدين الشعبي عن الدين الفقهي في بلاد المغرب، والثاني يؤكد التداخل التام بين الديني والسحري عند العامة، وهو ما خلص إليه إدموند دوتيه في كتابه "السحر والدين في شمال إفريقيا"، فغالباً ما ترتبط الممارسات السحرية بظاهرة الأولياء، المتصوفة والزوايا واسعة النفوذ الروحي، وتعتبر "بركة" هذه الأضرحة هي القوة السحرية التي تُفعّل كل شيء؛ تطرد الشر المُسلّط من الآخر، تشفي أمراض البدن والعقل وتقضي الأغراض وتضمن استمرارها في الزمن. وقد لا يكون الشعار القائل بأن "المغرب أرض المئة ألف ولي" شعاراً مُغالياً، فلا وجود لهضبة لا يتوّجها مزار، وقليلة هي القرى أو المقابر التي لا يوجد بها ضريح يمجّد ولياً أو أكثر من ولي. إلا أن تزاحم الأولياء الضخم هذا يملك تاريخه وجغرافيته وتراتبيته التي تضم منازل/ أمهات على شكل زوايا قوية، وفروعاً في محطات نائية تُفتح في الموسم من قبل خُدّام الزاوية، كي يتجمّع فيها الزوّار في أيام محددة من العام. ضحكتُ حتى سقطت من الصوفا حين اعترضتني عبارة: "شبكة الأضرحة التي تحبك أدق خيوط الشَرَك السحري الديني الممدود فوق البلاد، لازالت تخترقها الهياكل القوية للزوايا".
بين السحر والدين في بلاد المغرب، لم تُعقد الغلبة أبداً لأحدهما على الآخر، وإنما هناك في غالب الأحيان تعايُش، إن لم يكن تحالف وإبدال
لكن المؤكد أن بين السحر والدين في بلاد المغرب، لم تُعقد الغلبة أبداً لأحدهما على الآخر، وإنما هناك في غالب الأحيان تعايُش، إن لم يكن تحالف وإبدال. ولعل صورة الإله، كما طرحها الإسلام، مغرقة في التجريد، وبسطاء الناس في حاجة إلى وسائط أقرب، إلى شفعاء يتكلمون بلغة أقل باطنية، والأولياء هم رجال الله المقرّبون إليه، وإذا تفحصنا الأمر وجدنا أنه لا يُنظر إليهم باعتبارهم هم من يقومون بالفعل والتأثير، وإنما يعتبرون مجرد وسطاء، كذلك فإن الأضرحة الكبرى هي أماكن للتقوى ولتعميق الإيمان والتفقه في شؤون الدين. ولكي يكون بمستطاع سقف المزار أن يصعد إلى حدود السماء، ينبغي ألاّ تكون استقامة مؤسسته، من حيث المعتقد، موضع شك. لذا فإن مجمل الممارسات، سواء منها الأكثر انضباطاً (كحفظ القرآن) أو الأكثر قابلية للنقاش (كالحضرة وعلاج المس والسحر وكتابة الأحجبة والتمائم) يمكنها أن تنعقد في نفس المكان، حيث تغطّي الأولى الثانية.
في الزاوية، حفظنا بدقة أماكن أولياء المغرب وفضائلهم الخارقة، وحين سُئلنا في المدرسة عن شجرة أرغان قال أحدنا إنها كرامة سيدي أحمد أوموسى، وضحك الأستاذ ضحكة حادة قاسية، امتدت كموج لا يتوقف، أوغلت في الرمل وفي شجيرات الدفلى ذات الزهور البيضاء، ثم عادت الضحكة وصفعتني على الخد الأيمن ولم أستطع أن أدير لها الأيسر، فسألت إن كان سيدي أحمد أوموسى، ولي الجنوب الغربي، الكبير، مدعاة للضحك؟
ثم أنه بنى حظوته لدى الناس بعدد لا يحصى من الكرامات، وحين تحدته جماعة من علماء بغداد أن يثبت مقدرته الروحية، ضرب بقدمه ضربة، فإذا بشجرة أرغان تنتصب واقفة وسط معارضيه، ولازال هناك، إلى اليوم، من يدلّك بمدينة سوس على الحفرة المتخلفة بالمكان الذي خرجت منه الشجرة. انحسرت الضحكة ونظر إليّ برعب من شعر أنه خطا في فضاء وثني، فنظرت بحقد مُعلَن في عينيه الزجاجيتين كعيون الدمى.
من أين يأتي هؤلاء الناس؟ ألن ننتهي من متاعب أهل الشمال، مُهادني السلطة؟ وإن كان متيقظاً هكذا لتحطيم الأصنام لماذا لا يبدأ من هناك؟ من زين العابدين بن علي؟ وماذا لو سمع أخبار عين الماء الكبريتية الشافية لسيدي زرّوق هنا، أو طقوس الهادي بن عيسى الدموية للتغلب على الأمراض العقلية والعصبية، أو سيدي عمر الذي نشر جناحيه وحلّق فوق سوق الجمعة ولا زال حتى اليوم يحوم حول القبب... لكن لا يراه إلاّ من تعلموا كيف يرون. هل سيستعين بالبوليس كي يتحالفوا ضدنا ويقدموا الشكاوى الخطيّة للمعلم الكبير؟ والسعيد منهم من تصل شكواه المكتوبة إلى يده المنورة بالنور الإلهي.
القدرة والشقاء
لو ألقينا نظرة على الحكايات والأشعار التي تجد انتشاراً كبيراً في الأوساط الشعبية سنجد أنها تظلّ دائرة في فلك نماذج محددة لوصف المرأة، فهي الغاوية واللعوب والخائنة والعجوز الساحرة والحماة الشريرة. هذا الخطاب التمييزي ترعاه وتساعد على استمراريته تلك الحكم والنصائح "المهضومة" التي تشجع الرجل على سحب ثقته من الكائن المؤذي، مصدر الفتنة، فـ"اللي يعملو الشيطان في عام، تعملو المرا في ليلة"، وتستند أحياناً إلى شرعية دينية، فها هي زوجة العزيز تتحالف مع الشيطان كي تغوي الرجل/ العابد يوسف.
تختلف المجتمعات في نقطة أساسية، هي مدى إدانتها العنف أو تبريرها إياه باسم مبادئ رمزية مستمدة من الدين أو من العادات والتقاليد، كما تختلف في الأشكال الثقافية التي يتخذها هذا العنف. فالعنف يشتد عندما يُمارس باسم مبدأ رمزي يعتبر أسمى من مُمارس العنف ومن ضحيته معاً، وعندما يفرض نفسه على الجميع. وهو "العنف الرمزي" الذي يحدثنا عنه عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في كتابه عن الهيمنة الذكورية، ويقول عنه إنه "عنف هادئ لا مرئي لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه". وخلافاً لبعض التعريفات المعتمدة، ليس العنف ضد النساء فعلاً لا اجتماعياً منافياً للأخلاق السائدة، بل قد يكون فعلاً مُغرقاً في الاجتماعية وفي الانسجام مع الأخلاق السائدة. مصدره خوف مزدوج، أولاً من طاقة المرأة الجنسية (الجامحة؟) الذي تبرره مفاهيم الشرف والتمسك بالعرض، وفي جزء آخر هو خوف من ممارستها السحرية الشريرة، وللمفارقة، كلما زاد الخوف والحصار والعنف الذي ينفي حق المرأة في أن يكون لها حق في تقرير مصيرها، لجأت إلى السحر كسُلطة خفية لإعادة الاعتبار لذاتها وقلب ميزان الطاعة.
مطبخ سحري نسوي
بات من السذاجة اليوم أن نقول إن السحر يهاجم بشكل ما المرتكزات الثقافية التي تستند إليها الرأسمالية. صحيح أن هذه الأخيرة فرضت، بالقوة وبالإغراء، رؤية العالم على أنه مجموعة موارد جامدة يتعلق الأمر باستغلالها قدر الإمكان، بينما يستجيب السحر للحاجة إلى إيجاد صيغة جديدة للتفاعل مع المحيط الحيوي؛ فنجد أن "الساحرات المعاصرات" يبحثن عن الارتباط بالعناصر، ويبدين الاهتمام بدورة الفصول ودورة القمر وبالطاقة في الكون، ويبتكرن شكلاً من الروحانية التي تجدد الروابط مع الأرض الأم، لكن الرأسمالية أحكمت قبضتها على الموضوع برمته، وحولته إلى هاشتاغ على انستغرام (witchofinstagram#) يستعرض الجمالية المرتبطة بممارسة السحر، بينما نبتت كالفطر، تلك المتاجر الإلكترونية التي تبيع الشموع وكتب التعاويذ والحشائش والبلورات الكريستالية.
حتى تطوير الذات اكتسب بدوره بعداً روحانياً "تجارياً" خالصاً في ظل وجود كتب مثل "روح الساحرة" لأوديل شابرياك أو "قوة الأنثوي" لكامي سفيز. ونلاحظ أن اللواتي أو الذين يسطون على السحر اليوم كبروا مع "هاري بوتر" ومسلسل "بوفي ضد مصاصي الدماء" الذي تحولت فيه ويلو، وهي تلميذة في الثانوي، من فتاة منعدمة الشخصية وخجولة، إلى ساحرة قوية، وهو حلم جميع المراهقين الذين باتوا يراكمون الوصفات من "witchtok". لكن ثمة فرق بين الفعل التقني والفعل الطقوسي، وهو ما يشرحه الإثنوغرافي شارل ليكور في "الطقس والأداة". فهذه العشبة هي مجرد عشبة حتى يتم استحضار القوة الغيبية التي تمكنها من الاشتغال أو الاشتعال، وتسمح بتفعيل الوصفة.
قبل مذابح الويكا، كان المطبخ يمثل المعمل التجريبي لسحر المرأة، فيه تُعد وصفاتها العلاجية والسحرية البسيطة والمكونة عادة من الأعشاب التي يتم جمعها والاحتفاظ بها في البيوت، مثل الشيح والزعتر والعرعار، وقد تضاف إليها بعض المعادن (ملح، شب...) وبعض المواد الحيوانية كأضحية العيد ودمها، بالإضافة إلى أصناف مختلفة من الأبخرة الشائعة والمواد التي يعتقد أن استنشاق روائحها يدفع الأذى والمرض.
وتقف المراجع عند أكثر أشكال السحر الدفاعي الذي تمارسه المرأة شيوعاً، وهو سحر المحبة، الذي تنتشر وصفاته الشعبية في الكتب الصفراء، لكننا نجده أيضاً في مصنفات السحر الرسمي، ككتاب "شمس المعارف" للبوني، الذي يذكر الخواص العجيبة للقمر في تيسير العلاقات والبهجة والقبول؛ فمن كتب الأسماء السبعة للقمر وأوقده بزيت طيب وأطلق من البخور عوداً وكندراً، حضر إليه مطلوبه طائش العقل، هائماً من شدة الوجد.
وإذا كان السحر الرسمي يمنح للقمر خصائص تأثيرية إيجابية، فإن السحر الشعبي على العكس من ذلك، يمنحه قدرات رهيبة توظف في مجالات الشعوذة، مثل طقس "إنزال القمر" الأسطوري، حيث تأخذ الساحرة الماء من سبع عيون أو سبعة آبار مغطاة، وتمضي ليلة اكتمال البدر إلى المقبرة بعد أن تكون قد استحمت وتجملت بشكل خاص؛ تضع الكحل في العين اليمنى والأحمر على الخد الأيمن وتمرر السواك على النصف الأيمن من فمها فقط.
وفي المقبرة تتعرى بشكل كامل وتوقد بعض الأبخرة المستطابة من الجن، وتضع فوق قبر حديث الدفن صحناً كبيراً به ماء، ثم تتوجه صوب القمر مرددة: "يا قمرة، يا طالعة من مرارة/ يا لابسة الدنيا كيف الغرارة/ اعطيني ثلاثة يهود وثلاثة نصارى/ يجيبولي فلان ولد فلانة". في نهاية الطقس السحري، يكون القمر قد "سقط" في صحن الماء مثل قطعة فضيّة.
تضعها الساحرة على النار فتتحول إلى رغوة كثيفة شبيـهة برغوة الصابون تحتفظ بها لاستعمالاتها اللاحقة. كما تنتشر الطقوس الشفوية التي تعتمد على قوة الكلمة وتتضمن كلاماً موزوناً يُتلى بشكل طقوسي، فلاستدعاء حبيب غائب تقول المرأة: "من وِحشي بْكَى/ ومن وحشي شْكا/ من وحشي طرطق السلاسل وجا"، ويسمى هذا السجع في مصنفات السحر "دعوة الشمس" التي تؤلب طاقات الكلام ونفوذ العاطفة لاستثارة الأشخاص.
نصل إلى أكثر مواضيع السحر الأسود صعوبة وهو "السحر المأكول"، أو السحر الباطني الجسدي الذي راكمت المرأة وصفاته عبر التاريخ، ويُستخدم للتصفية والانتقام أو لتحويل "المطعوم"، أي ذلك الذي وُضع له الطعم السحري قصد اصطياده خفية، إلى كائن وديع يطيع الساحرة وينصاع لإرادتها. تُطلق عليه الباحثة المغربية نادية بلحاج في كتابها "التطبيب والسحر في المغرب" مصطلح "التسميم الشعبي" الذي يتم عن قصد ودون مواجهة وتُستعمل فيه مواد قذرة تُبقي المسموم دائم الألم والأسقام، أما هنري كولومب فيسمّيه "نظام السحر الأنثروبوفاجيا" ويربطه بأكل لحوم البشر، لأن الساحرة / الأنثربوفاجيا تنفذ إلى فريستها عبر الحواس، تخترقها وتلتهمها رمزياً، وتسبب لها الاعتلال والحمق وأحياناً الموت البطيء.
ولا تخلو ترسانة المستحضرات السحرية من الدم ومواد الدفن والحنوط، وحتى مني الرجل الذي يسعف المرأة للتحكم في قدرته الجنسية، إما بتعطيلها أو جعله طيعاً كالحرير لا يقدر على معاشرة غيرها، ويرتبط "العَقد" بمعاني العنف والسيطرة التي تشلّ إحدى الذّوات في العلاقة، وبغض النظر عن احتمالات المعنى والرمزيات الاجتماعية والنفسية خلف هذا الطقس، كمتلازمة توتر الأداء الجنسي، تبقى طرق الربط في التصور الشعبي كثيرة وسهلة التطبيق، إذ يكفي أن تعمد المرأة إلى حمل علبة أو قفل وتنادي على "الحبيب" باسمه، فإن استجاب لندائها، أغلقت العلبة أو القفل، وتلت تعزيماً خاصّاً، ليتم "الإخصاء" هنا بـ"حرف" اللّغة لا بحدّ السكّين.
الأمازيغيات والكلمة الحيّة
يقول روسو، إن الكلام، باعتباره أولى المؤسسات الاجتماعية، مدين في تشكّله للعوامل الطبيعية، وأن الدوافع الأولى على انبثاقه كانت دوافع الرغبة والرهبة. فإذا استخدمنا هذا المنظار التاريخي، وقفنا على أن الانسان القديم حاول في تدبير عيشه من الطبيعة والانتفاع بها وإخضاعها لحاجته ودفع شرورها ومخاوفها، أن يتحكم فيها، وكان أعزلاً إلا من الكلام، فتكلم "عليها"، وقد رأى في الكلمة أوّل قوة حية. لذلك تفسح الممارسات السحرية مجالاً واسعاً لتأثير الكلمة، فالطقس الصامت لا وجود له، وكل حركة سحرية تتضمن جملة لغوية يتم فيها التعبير عن طبيعة الطقس وغاياته. وعادة ما يتم حجب هذه الملفوظات وتناقلها سراً، لأن الكلمة هنا ليست مجرد قول، إنها فعل، ولها قدرتها على تغيير الواقع وصرفه عن حقيقته إلى حقيقة جديدة.
تدرك الأمازيغيات النفوذ العجيب الذي تملكه الكلمة في موافقة طبيعة ما يُحمل عليها، ويستخدمن الكلام الموزون والشعر كتعويذات علاجية، تُصاحبها عادة وصفات من الطب الشعبي، وأيضاً كتعازيم ترمي إلى إحداث تأثير سلبي أو إيجابي في الأشخاص وإرادتهم وعواطفهم. وثمة فرق بين الاثنين، فالتعويذة تستعيذ، أي تستعين وتستجير بقوة (الوصف والكلمة) لتحارب قوة أخرى مثل المرض، بينما التعزيم من العزم والإرادة، أي بفعل هذا الكلام والوصفة أريد لفلان أو لشيء ما أن يصبح كما أريده أنا.
سفسذع ميات مرا/ روح آب ريذيك ينجر
حرزغك سي يال الشر/ ثيمساليك اسعانت ثيفرا
وهو ما يعني تقريباً: "أزلتُ هذا الاصفرار عن وجهك، أزلته ولن يعود ثانية، غداً سيضيئ وجهك ويغدو أبيض ناصعاً"، أما الوصفة التي تشكل الجانب المادي، فتتكون من عصير الرمان الحامض الممزوج بالعسل وبعض الأعشاب. هذه الوصفات العلاجية المصحوبة بتعويذات، أي بملفوظ شعري سحري، قد تفقد سحريتها بمجرد الاستغناء عن الكلام والاكتفاء بالوصفة. فإذا ما أثبتت نجاعتها تصبح معرفة دنيوية متاحة للجميع، وتخرج من دائرة السحر لتلج دائرة الطب الشعبي.
يعتبر المنطق السحري الكلمة وما تُحيل عليه شيئاً واحداً، ولعله توماس غرين من قال إن "الكلام قدرة على تحويل ما يراه الإنسان حقيقة إلى حقيقة". وليس التعزيم مجرد الطموح إلى إحراز شيء أو إيجاده بعد عدم أو إحضاره بعد غيبة أو صرفه عن وجه إلى وجه، وإنما هو أكثر من ذلك: إنه الإخراج المعقّد المتقن لأبنية حدسية والتركيز الذهني الحاد الصادر عن إيمان لا يكاد يُداخله شك، في قدرة الذات على التحكم في الأشياء والذوات والظواهر، وإجبارها على الامتثال لرغبتنا في أن يكون الشيء ما نريده أن يكون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...