"الله يزينهم بأخ". "الله يحيي ذكرك". "الله يبعتلك صبي". هذه عبارات شكر يقذفها عليّ المجتمع مهما عظم المعروف الذي أسديته له، حتى في حال إغلاق ثقب الأوزون بإصبعي.
أن تكون المرأة أماً لبنات فقط يعني أن توضع في موضع الكشّاف لخرافة المساواة "الجندرية" بين الذكور والإناث، وخاصة في المجتمعات التي تدّعي الوعي والانفتاح والثقافة. تعليقات كثيرة تعرّي أفكار أصحابها، وتظهرهم بعباءة الجهل بدلاً من ثياب التمدّن والتحضّر التي يرتدونها. تخطر ببالي هذه الأفكار في الشارع، بعد أن صادفتني زميلة متقاعدة أتمّت أوراق انفصالها في فترة حملي بابنتي الثانية. تسلم عليّ بحرارة وتقول "نشالله جبتي الصبي؟".
فأجيب: "لا و...".
تقاطعني "شو لكن؟ بنت؟".
لم يلفتني سؤالها الغريب "بنت؟" وكأن هنالك احتمالاً ثالثاً، بل انتبهت إلى "أل التعريف" المقرونة بالصبي. وأما بالنسبة لـ "بنت"، فتقال دونها وكأنها أولى محاولات إنكارها وتهميشها حتى قبل أن تولد. تضحك الزميلة وتبرر باعتذار مبطن: "أنا طالعة لأمي بحب الصبيان". أمها التي حكت لنا مطوّلاً وبفخر عن تفضيلها العلني ابنها الصغير على البنات السبع اللواتي يكبرنه، وكانت واحدة منهن زميلتي.
أن تكون المرأة أماً لبنات فقط يعني أن توضع في موضع الكشّاف لخرافة المساواة "الجندرية" بين الذكور والإناث، وخاصة في المجتمعات التي تدّعي الوعي والانفتاح والثقافة
على موقع فيسبوك، يظهر لي منشور يحتوي على صورتين، واحدة لأم أنيقة معها ابنتان كأنهما أميرتان، وأخرى لأم بثياب فوضوية وشعر أشعث وحولها صبيّان. وهناك عبارة مكتوبة فوق الصور: "الفرق بين أم الصبيان وأم البنات". أقرأ التعليقات بفضول، وتدهشني تلك التي تبرر لأم الصبيان هيئتها الفوضوية، وتجعل أناقة أم البنات واجباً لزاماً حتى تعوض نقصاً لم تستطع ملئه، وحتى لا يتخلى زوجها عنها ويبحث عن أخرى تنجب له الصبيان. وأما أم الصبيان، فقد أنجبت مسامير فولاذية تثبت العلاقة بينها وبين زوجها.
في الجلسات النسائية القليلة التي أجد متسعاً للمشاركة فيها، تتم مناقشة موضوع "الخلفة" بطريقة أو بأخرى. وباعتبار أن ابنتي الصغيرة تكاد تكمل الرابعة، تغمزني النساء دائماً ويسألنني: "في شي عالطريق؟". وحين أجيب بالنفي وأتطرّق للحديث عن أولوية تأمين حياة كريمة تفرض علينا أعمالاً بدوام كامل وعدد أطفال قليلاً، تلومني النساء كثيراً. وتستهجن أخريات اقتناع زوجي بابنتين، وتلمّح أخرى إلى أنها خطة ماكرة منه ليتزوج بعد بلوغي سن اليأس، خاصة أنه يكبرني بعامين فقط، وسيكون في قمة نشاطه وشبابه.
في الجلسات النسائية القليلة التي أجد متسعاً للمشاركة فيها، تتم مناقشة موضوع "الخلفة" بطريقة أو بأخرى. وباعتبار أن ابنتي الصغيرة تكاد تكمل الرابعة، تغمزني النساء دائماً ويسألنني: "في شي عالطريق؟"
أزور جدتي كثيراً، وهي تحبني حبّاً لا حدود له، لدرجة أنني كلما ذهبت إليها تعطيني وصفة مجهولة المصدر لإنجاب صبي "كي أرتاح". وتقترح وضعيات في العلاقة، تلمحها لي بدافع الحياء الذي يستدعي نبل الغاية انتهاكه. كما تقترح مقامات دينية لأزورها حافية في الفجر، وآيات من القرآن يجب عليّ ترديدها في أوقات معينة، وحميات غذائية، وأطعمة محددة...
وفي كل مرة أودعها تدعو لي قائلة: "الله لا يموتني قبل ما شوف على حضنك صبي". وفي مرات أخرى، تيأس جدتي وتحاول تخفيف عني "مصيبة" لا أشعر بها، فتعدّ لي كل الذين تعرفهم ولم يرزقوا ذكوراً.
تستهجن أخريات اقتناع زوجي بابنتين، وتلمّح أخرى إلى أنها خطة ماكرة منه ليتزوج بعد بلوغي سن اليأس، خاصة أنه يكبرني بعامين فقط.
تضع صديقتي حداً لزميلها في العمل كلما حاول التودد لها عن طريق مناداتها باسم دلع، فتجيبه بصرامة: "ناديني أم فلان". يتبادر إلى ذهن الزميل صورة "فلان"، ووالده "أبو فلان". ويتحول صوت صديقتي في أذنيه إلى زئير أسد. أتخيل نفسي مكانها وأنا أخبره بالصرامة ذاتها: " نادنِي أم نيسان". هل سيكون صوتي زئيراً مخيفاً أم زمور بطة بلاستيكية مضحكاً؟
في قاعة الانتظار عند الطبيبة النسائية، دارَ سجال سفسطائي (مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان) بين النساء المنتظرات حول أجناس الأجنة. تناقشت في هذا الموضوع مع سيدة تجلس بجانبي وتدافع عن البنات ضد التمييز المجتمعي. وأعربت عن التساوي بين الأبناء بعبارة: "الصبي ما بشيل رجل أهلو من القبر". أعجبتُ بشجاعتها في دخول سجال خاسر، وتبادلنا الأرقام الهاتفية. كنتُ وإياها أمّين لبنت واحدة. بعد أشهر قليلة، وضعتْ صورتها العائلية على مواقع التواصل الاجتماعي ومعها وليدها "الذكر" الجديد. ومنذ ذلك الحين، لم تعد تشارك سوى صوره في كل مرحلة عمرية، وتوقفتْ عن مشاركة أي صور عائلية أخرى.
عالم تربية الطفل الذي أقحمت نفسي فيه لأربي أطفالاً لا يحملون عُقَد "نقصي"، يرميه الآخرون في القمامة. يخبرني هذا العالم بأنّ كل هذه "الفذلكات" لا تجدي نفعاً، ويتمنى لو أنّي أنجبت ذكراً بدلاً من أنثى، "لأن الصبيان اسم الله حولهم بيخلقوا شاقين الأرض". ولا تنفع معهم الحوارات و"خزعبلات" التربية بالحب.
أزور جدتي كثيراً، وهي تحبني حبّاً لا حدود له، لدرجة أنني كلما ذهبت إليها تعطيني وصفة مجهولة المصدر لإنجاب صبي "كي أرتاح". وتقترح وضعيات في العلاقة، تلمحها لي بدافع الحياء الذي يستدعي نبل الغاية انتهاكه. كما تقترح مقامات دينية لأزورها حافية في الفجر
النجاحات المهنية، والترقيات الوظيفية، والتطورات الذاتية، والحفاظ على الأناقة الشكلية، كلها ليست ذات معنى في نظر المجتمع. إنها مجرد محاولات لتعويض نقص معين وتشتيت انتباه الناس عنه. ولا أزال أحاول فهم العلاقة بين الأم وابنها الذكر، على وجه الخصوص، بعدما حدّثتني عنها كل النساء اللواتي أعرفهنّ واختبرن هذا الشعور. ولا أجد تبريراً لها سوى الشعور بالأمان من هجوم مجتمعي وأصابع اتهام ممدودة دائماً.
في الحقيقة، لا أشعر بالنقص لأنني لم أنجب ولداً. وفي الوقت ذاته، لا أشعر بالكمال. أشعر بالاكتفاء فقط، والملل من حصر الحياة الواسعة في الحصول على أمر واحد لتحقيق السعادة المطلقة والفوز العظيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...