قبل عقود، أصدر الكاتب السوداني الكبير، د. منصور خالد، سِفراً ذائع الصيت بعنوان "النخبة السودانية وإدمان الفشل"، يرصد فيه الأخطاء المكررة للساسة السودانيين من دون أي تعلّم، وهو أمر يصح إسقاطه على أداء الشرطة السودانية التي أدمنت الكذب مؤخراً، ما يجعل أداءها محل شك ونظر، ليس من قبل المواطن فحسب، بل من قيادات السلطة الحاكمة حالياً.
تورطت الشرطة السودانية في سلسلة طويلة من الأكاذيب في الفترة منذ الثورة على البشير (كانون الأول/ ديسمبر 2019)، وحتى الحقبة الحالية التي تشهد ثورةً جديدةً على نظام الجنرال عبد الفتاح البرهان، على أمل استعادة المسار المدني والديموقراطي.
واستولى البرهان على السلطة في البلاد، صبيحة 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، قبل موعد نقل سلطات مجلس السيادة الانتقالي إلى المدنيين.
أشهر الأكاذيب
خلال احتجاجات 5 أيار/ مايو الجاري المتوجهة إلى القصر الرئاسي، وفي نقطة تجمع المحتجين في موقف مواصلات (شروني)، وسط الخرطوم، وثّقت كاميرا قناة العربية-الحدث، حادثة قتل أحد المحتجين (مجتبى عبد السلام 23 عاماً)، دهساً بعربة عسكرية تتبع لقوات الشرطة.
ولكن بياناً صادراً عن شرطة ولاية الخرطوم، وصف الحادثة كالتالي: "وقعت بعض التفلتات في أثناء هذه التظاهرات، إلا أن قوات الشرطة قد تعاملت معها بالقدر المعقول من القوة القانونية اللازمة لتفريقها، وأفادت المعلومات بوقوع حالة وفاة واحدة للمواطن مجتبى عبد السلام نتيجة حادث مروري في أثناء التظاهرات".
الكذبة الأشهر في تاريخ الشرطة إبان حقبة الثورة على البشير، فقالها مدير شرطة ولاية كسلا، إذ ادّعى أن وفاة المعلم أحمد الخير في أقبية الأمن، كانت جراء إصابته بالمرض، ليتضح لاحقاً مقتل الشاب بعد تعرضه للتعذيب، وقتله بحشر "خازوق" في أعضائه التناسلية
وبعد السخط والسخرية من البيان، حررت رئاسة قوات الشرطة بياناً، أعلنت خلاله عن شروعها في "تحقيق عادل وشفاف من دون تردد، وهو واجب حتمي والتزام أخلاقي وقانوني تقوم به الشرطة في مثل هذه التصرفات الفردية التي صاحبت تعامل القوات بجوار موقف شروني".
وقبلها، في تاريخ 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، نفذت القوى الأمنية مجزرةً في منطقة بحري، راح ضحيتها 15 محتجاً على استيلاء الجيش على السلطة، طبقاً للجنة أطباء السودان المركزية (مستقلة).
لكن بيان الشرطة، خرج يومها بالقول إن المحتجين استخدموا "العنف غير المبرر"، وادّعت قيامهم بحرق ناقلة للجند، وأربع عربات تتبع لدورياتها، بجانب إصابة 89 من عناصرها، هذا مقابل رصد حالة وفاة مواطن في بحري، و30 شخصاً نتيجة الاختناق بالغاز المسيل للدموع.
وعقب ذلك، ظهر مدير الشرطة، الجنرال خالد مهدي، في مؤتمر صحافي، ليقول إن المواطن القتيل تردّى من مكان عالٍ في أثناء ممارسته أعمال البناء.
لذا، كان من أول القرارات التي أصدرها رئيس الوزراء المستقيل، عبد الله حمدوك، بعد التسوية السياسية التي أبرمها مع البرهان، إصدار قرار يقضي بإعفاء خالد مهدي من منصبه.
أما الكذبة الأشهر في تاريخ الشرطة إبان حقبة الثورة على البشير، فقالها مدير شرطة ولاية كسلا (شرق البلاد)، إذ ادّعى أن وفاة المعلم أحمد الخير في أقبية الأمن، كانت جراء إصابته بالمرض، ليتضح لاحقاً مقتل الشاب بعد تعرضه للتعذيب، وقتله بحشر "خازوق" في أعضائه التناسلية.
واضطر نظام البشير إلى تكوين لجنة تحقيق في الواقعة التي انتهت بإصدار حكم بإعدام عناصر الأمن المتورطين في الحادثة، إبان حقبة الحكومة المعزولة.
لا تنتهي أزمات الشرطة السودانية عند الأكاذيب المفضوحة، وإنما تمتد لتشمل مجمل أداء الجهاز.
في آذار/ مارس الماضي، أقرّت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على قوات الاحتياطي المركزي التابعة للشرطة، بسبب ارتكاب عناصرها انتهاكات لحقوق الإنسان، وقمعاً مفرطاً للمتظاهرين السلميين.
وأظهر محتجون صوراً لعناصر الشرطة في أثناء استخدامهم السلاح الناري ضد المحتجين العزَّل، هذا بجانب سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تشمل إلحاق الأذى، والسطو المسلح، وصولاً إلى الاغتصاب.
ولم تكن انتقادات أداء الشرطة حكراً على المعارضين والمحتجين، وإنما من قادة نظام 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
وقال البرهان في تصريحات لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، عقب أيام من مجزرة 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، "إن عناصر في الشرطة قد تكون وراء قتل المتظاهرين".
وقبل أيام، اتهم نائب البرهان، محمد حمدان حميدتي، الشرطة بالتقاعس في أداء مهامها، لأجل إنهاء التفلتات الأمنية التي تؤرق سكان العاصمة.
وانتشرت عصابات النهب والسطو المسلح، المعروفة شعبياً بـ(9 طويلة)، الأمر الذي اضطر السكان إلى اللجوء إلى التسلح الشخصي، والانتظام في مجموعات لحماية الأحياء، وصولاً إلى تنفيذ حملات انتقامية تظهر في عمليات التنكيل بعناصر التشكيلات الإجرامية الذين يتم توقيفهم من قبل المواطنين.
سر انتكاسة الشرطة
يفسر الخبير الأمني، والمقدم المتقاعد سالم النجيب، التراجع المريع في أداء الشرطة، مؤخراً، بعمليات التسييس الممنهجة على مدار العقود الماضية.
ويقول لرصيف22، إن نظام البشير المعزول، درج على إلحاق الإسلاميين الموالين للنظام في الدفعات التي تلت انقلابه في حزيران/ يونيو 1989، مع إحالة كافة العناصر المهنيين في الرتب العليا على التقاعد.
"أكبر دليل على تسييس الشرطة، كان في اللقاء الذي جمع البشير بقياداتها إبان الثورة التي أطاحت به إذ أكد أصحاب الرتب والياقات المرصعة بالدبور، انحيازاتهم بتقديمهم الدعم الكامل لرئيس الجمهورية وعدم سماحهم بالفوضى والتخريب"
وأشار إلى أن أكبر دليل على تسييس الشرطة، كان في اللقاء الذي جمع البشير بقياداتها إبان الثورة التي أطاحت به (كانون الأول/ ديسمبر 2018-نيسان/ أبريل 2019)، إذ أكد أصحاب الرتب والياقات المرصعة بالدبور، انحيازاتهم بتقديمهم الدعم الكامل لرئيس الجمهورية وعدم سماحهم بالفوضى والتخريب".
ونبّه إلى أن آخر الأثافي، تمثلت في إقحام نظام البرهان للشرطة في عمليات القمع ضد المتظاهرين السلميين، على الرغم من أن البشير بكل سجلاته التي أوصلته إلى الجنائية الدولية، لم يقحم الشرطة ولا الجيش في مسألة التعاطي مع المتظاهرين، مكتفياً بترك الأمر لجهاز الأمن، ومليشيات النظام.
خلل بنيوي
يعتقد الخبير الأمني، مصطفى عبد الرحمن، أن مشكلات الشرطة السودانية بنيوية في الأساس.
ويتحدث إلى رصيف22، عن عدم وجود ضوابط مهنية وراء عمليات اختيار عناصر الشرطة، لا سيما في الرتب الدنيا، الأمر الذي يفسر حالة عدم الثقة المتفشية تجاه الجهاز الأمني الإستراتيجي.
مضيفاً أن ضم الشرطة عناصر لم تتلقَ تعليماً نظامياً، ولم تخضع لاختبارات نفسية وسلوكية، نجم عنه تفشٍ لحالات الكره للمدنيين، إلى حد توصيف العنصر المخالف بأنه محض (ملكي) أو مدني.
وقدّم عبد الرحمن، دليلاً ثانياً على حالة الاختلال بين الشرطة والمواطن، إثر ذيوع عبارة "دي المدنية الدايرنها" التي تعني "أليست هذه المدنية التي تريدونها" إبان حقبة الحكومة الانتقالية بقيادة المدنيين (آب/ أغسطس 2019-تشرين الأول/ أكتوبر 2021)، في رد عناصر الشرطة على الشكاوى التي تصلهم من المواطنين.
حوادث كثيرة، قادت إلى عدم ثقة المواطنين بالشرطة السودانية، إلى حد تفضيلهم إنفاذ القانون بأيديهم، ما يهدد بإمكانية دخول البلاد في نفق مظلم من الانفلات المفضي إلى الحرب الأهلية.
"عمليات إصلاح الشرطة رهن بتغيير النظام في البلاد، واستعادة النظام المدني الذي تخضع الشرطة فيه لرئيس الوزراء، وليس للقادة العسكريين"
فهل يمكن بعد وصولنا إلى هذه النقطة، تصويب علاقة الشرطة بالجمهور وتحسينها؟
سؤال يرد عليه ضابط رفيع في الشرطة، تحدث إلى رصيف22، مشترطاً حجب اسمه، قائلاً إن إصلاح الشرطة رهن بإبعاد قادتها الواقعين تحت إسار الساسة والحكام.
مضيفاً: إن صَلُح قادة الجهاز، فهم قادرون على ضبط منظومة الشرطة كاملةً.
وحث المواطنين على ضرورة وقف حملات الاستعداء والاستفزاز لرجال الشرطة، الأمر الذي يزيد من حالة الجفاء بين الجانبين.
بيد أن مصطفى عبد الرحمن، قال إن الحل الوحيد متمثل في حل جهاز الشرطة برمته، وتكوين آخر بديل، وفقاً لمعايير صارمة.
وتابع: "أي عمليات إصلاح فوقية أو لحظية، لن يكون لها أثر، إذ إن الفساد تغلغل من رأس الجهاز وحتى أخمص قدميه".
من جانبه، يقول المقدم سالم النجيب، إن عمليات إصلاح الشرطة رهن بتغيير النظام في البلاد، واستعادة النظام المدني الذي تخضع الشرطة فيه لرئيس الوزراء، وليس للقادة العسكريين، مشدداً على ضرورة أن تكون الشرطة جهازاً مهنياً، وبعيداً عن الانحيازات السياسية كما هو واضح مؤخراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...