شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"الفهرس"... في أثر خريطة المحتويات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 10 مايو 202205:25 م

محاولة أولى فاشلة للفهم: الفهرس المُشفّر

بدأ الأمر عام 2012 أو 2013، بدأت أنا وأصدقاء لي (كنا طلاباً حينها) بالإصرار على د.جمال شحيد، الناقد، ومترجم "البحث عن الزمن المفقود"، كي يقوم بترجمة كتاب "ضد أوديب" لكل من جيل دولوز وفيليكس غوتاري، بعضنا ممن يتقنون الفرنسية أو الإنكليزية اطّلع عليه، ولم يفهم شيئا منه، امتد الأمر لسنوات، وجواب شحيد لم يتغير، أحياناً كان يوجهه لي، أو لأحد السائلين، ترجمه أنت وأنا أدقق الترجمة، ليبتسم بعدها ويتابع مسيره.

حاولت لاحقاً أنا وصديق لي بعد أن أصبحنا نُأخذ على محمل الجدّ كصحفيين مهتمين بالشأن الثقافي، أن نقترح ترجمة فهارس بعض الكتب التي لم تترجم إلى العربية بعد، كنوع من أنواع النداء الذي لا بد أن يستمع إليه أحد، بالطبع كان خيار "ضد أوديب" هو الأول، لكن يبدو أننا لم نمتلك (ربما لن نمتلك أبدا) الاعتراف الكافي كي ننال الموافقة على هكذا اقتراحات تجريبيّة، فنهايةً، من سيقرأ فهرس كتاب فقط!.

المهم من هذه القصة أن الكتاب صدر لاحقاً عام 2020 عن دار الجمل بترجمة عبد العزيز العيادي باسم "أوديب- مضادّاً : الرأسمالية والفصام 1"، واشتعلت الرغبة بالقراءة لدي ولدى صديقي الذي أيضاً له نفس الحكاية مع شحيد، لكن الاختلاف بيني وبينه أنه حصل على النسخة العربية قبلي، بالطبع في هذه المرحلة توصلت إلى نتيجة مفادها بعد الاطلاع على النسخ الفرنسية والانكليزيّة أني بالتأكيد لن أكون مُترجمه وهناك من هو أكفأ مني، لكن ما حرك فضولي هو الفهرس ذاته كوني لم أحصل على الكتاب إلى الآن، فطلبت من الصديق أن يرسل لي نسخة من فهرس الكتاب لأطلع عليه، لابد أن أقول بداية أن هذا المقال ليس عن الترجمة، بل عن الفهرس، وقدرته على تلخيص الكتاب واختزال زمن البحث عن الفقرات، لكن كتاب كـ"ضد أوديب" أو "أديب مضاداً" حتى فهرسه عصي على الفهم، بالرغم من عمل المترجم الواضح في محاولة تعريب المصطلحات إذ نقرأ مثلاً الإحالة رقم 6 التي تبدأ بالصفحة 271 العنوان التالي: "المكنة الاستبدادية الهمجيّة"، لتتابع بعدها المُدخلات "الجسد المليء للمستبد-المصاهرة الجديدة والنسب المباشر-الذهانيّ الهذياني-الإنتاج الآسيوي-الآجرّات-احتيالات الدّولة- اللاأرضنة الاستبدادية والدين اللانهائي-التقنين المشطّ للاندفاقات".

لم لا تمتلك بعض الروايات فهارس؟ هل تحتاج الرواية إلى فهرس؟ إلى أي حد يمتلك الفهرس طاقة إبداعيّة؟ هل الفهرس جزء من الكتاب؟ أم مجرد علامة "فوق نصيّة" تستخدم ككشاف للمحتويات؟

محاولة ثانية للفهم: براغماتية الفهرس وضرورة تحديد المكان

صدر هذا العام للناقد والأستاذ الجامعي دينيس دانكن كتاب "الفهرس، تاريخ مغامرة بين الكتب من مخطوطات العصور الوسطى إلى العصر الرقميّ"، و كما هو واضح من العنوان يستعرض الكتاب تاريخ الفهرس، تلك الخريطة التي تختزل زمن القراءة والبحث، وتدلّنا على ما نريده من الكتاب،  بصورة أدق هي خريطة نحو "المعرفة" و أسلوب لتجزيئها بحيث نصل إلى ما نريد من "الجزء" دون الاضطرار إلى قراءة "الكل".

يشير الكتاب إلى ممارسة قراءة الفهارس منتقداً إياها بوصفها لا تنتمي إلى عالم "القرّاء"، لكنها ضرورة براغامتية ، خصوصاً أن الفهارس، فعل جمالي وسياسي في الكثير من الأحيان،  وتكشف عن عمارة الكتاب و توزع الأفكار والمفاهيم فيه، دون الإحاطة بدقة بما يحويه، فالفهرس جزء من العديد من العلامات التي تدلنا على "مواقع" الأفكار والمفاهيم في الكتاب و ترتيبها، أما صياغتها، أي الفهارس، فليست مهمة الكاتب، بل المحرر أو المفهرس، فنحن أمام جهد بشري للاختزال والتلخيص حد جملة، ثم الترتيب حسب الصفحات أو أبجدياً، هو نوع من القراءة التي لا يحسنها الكثيريون.

يعرفنا الكتاب على تاريخ ترقيم الصفحات، وضرورة الفهرس الذي أصبح رائجاً مع ظهور الطباعة، فالملفوفات لا يمكن فهرستها، و ترافقت بالتالي الفهرسة مع الترقيم أو الترتيب الأبجدي في بعض الأحيان، ذاك الذي كان يعتبر في العصور الوسطى خال من احترام المنطق، بل ربما حلّ سهل لا يكسب الفهرس قيمة سوى أن يكون دليلاً، يحيلنا هذا الاحتقار للترتيب الأبجدي إلى مفاهيم  جاك دريدا حول أصل اللغة والغراماتولجيا، والعلاقة بينها وبين الكتابة، وكيف أن الكتابة في بنيتها تحيل إلى مركزية مقدسة لا يمكن تحطيمها بسهولة، فالتفكير بالكتابة يحضر في الكتابة وقواعدها (منها الترتيب الأبجدي)، لا في اللغة المحكية، والفهرسة على أساس ترتيب الأحرف مهرب وتسليم بسلطة غائبة، وانصياع لسلطة الكتابة لا سلطة المعنى.

الملفت أن ولادة الفهرس كانت أشبه بحاجة تاريخيّة ومعرفية لتسهيل عمل الطلاب والباحثين، إذ يشير دانكن أن الفهرس ولد ذات العام (حوالي 1230) على يد شخصين مختلفين لا يعرفان بعضهما البعض، ولا نتحدث هنا عن الكوديكس أو الترتيب الأبجدي، بل بصورة أدق "جدول المحتويات"، الأب الأول للفهرس كان الراهب الانكليزيّ Robert Grosseteste، الذي صنع جدولاً مفاهيمياً مُرمزاً يحيل إلى المفاهيم الدينية وغير الدينية في الكتب التي يمتلكها ورتبها بأسلوب يسهل عليه البحث عنها لاحقاً، أما الأب الثاني هو الراهب الفرنسي  Hugh of Saint-Cher الذي قدم فهرساً لكلمات الإنجيل وفق الترتيب الأبجدي.

بناء الفهرس محاولة للتجزيء والتشظية، ونزع صفة "الكلّ" عن الكتاب بمعناه الفيزيائي، أي مجموعة من ملازم من ورق مصفوفة بشكل متتال، ومع اعتماد ترقيم الصفحات ورموز ملازم الورق أصبح فعل إيجاد معلومة في كتاب، جهد لا يحتاج إلا لدقائق من أجل الوصول إلى ما نريد، سواء كنا نبحث عن عنوان فقرة، أو بداية فصل، أو اسم أحدهم،  أو حتى كلمة قد تكون مفاهيمية أو تحمل معناها الحرفي، كما فعل المحرر هينري موريلي الذي أنجز لرواية "رجل العواطف" لهنري ماكينزي -1771، ما يسمى "فهرساً للدموع"، إذ تتبع كل المرات التي ذكرت فيها حرفياً كلمة "دمعة"، و جمعهم في فهرس مع أرقام الصفحات.

يطرح الكتاب التساؤلات التي تخطر على بال إي من يحاول التفكير جديّا بالفهرس، مثلاً لم لا تمتلك بعض الروايات فهارس؟ هل تحتاج الرواية إلى فهرس؟ كيف قام إيتاليو كالفينو بالاعتماد على سهو عمال الطباعة في ترتيب ملازم الورق كفرضية لتأليف "ولو أن سائراً في ليلة شتاء"؟ إلى هل يمتلك الفهرس طاقة إبداعيّة؟ هل الفهرس جزء من الكتاب؟ أم مجرد علامة "فوق نصيّة" تستخدم ككشاف للمحتويات؟

احتمالات التأليف أم شبكة للموجودات

سواء كان الفهرس أبجدياً (المعجم) أو مفاهيمياً (ضد أوديب) أو حسب كلمة (رجل العواطف) أو متخيلاً (معجم الأماكن المتخيّلة) فهو يحيل دوماً إلى ما هو موجود في الكتاب أو حتى مجموعة من الكتب، أي هناك أصل مادي في مكان ما لما يشير إليه المعجم (شخص ، كتاب، كتاب متخيل..الخ)، هو علامة على ما هو موجود أو ما كان موجوداً، كما في كتاب الفهرست لابن النديم الذي يدلّ على الكتب ومؤلفيها، ويشير إلى ما ضاع منها وما لم يصلنا، أي صانع الفهرس جمع وحرر ورتب، حتى لو كان موضوع الفهرسة في عالم الخيال حد "الاستحالة العارية المطلقة لأن نفكر هكذا"، كما يشير ميشيل فوكو في مقدمة كتاب "الكلمات والأشياء" حين الحديث عن بورخيس، والموسوعة الصينية التي تقسم الحيوانات وفئاتها.

ما نحاول قوله أن الفهرس سعي للضبط والتقنين والإحالة، حتى غوغل نفسه، ليس إلا فهرساً كبيراً مقسم حسب الكلمات، بضعة نقرات تحيلنا إلى الكلمة ومكانها، لكنه لا يحوي ما لا يوجد وما لا يذكر وما لم يؤلف، فريق المفهرسين والجامعين لا يمتلكون سلطة أن يدرجوا ما ينتمي إلى ما لم يحصل بعد، وما لم يُتخيل أو يُفكر به، لكن، بالعودة إلى مكتبة بابل البورخيسية، يكتسب الفهرس شعريّة جديدة، يفتح الباب على احتمالات وضعها المفهرسون (أو سيضعونها) لكتب ومفاهيم لم تجمع  بعد بين دفتي كتاب، حتى أنهم لا يعرفون أسماءها ربما، لكن لها أماكنها في المكتبة، بكلمات أخرى، كيف يفهرس المسؤول عن مكتبة بابل محتوياتها وهو لا يعلم ما تحويه الكتب التي لم تؤلف بعد؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard