وضعت حرب الجدل الرمضاني حول "الشيخة"، أوزارها، وخَفَت تبادل الاتهامات بين أنصارهن ومنتقديهن، لتظل الشيخة رمز الحفلات والأعراس في المجتمع المغربي.
الفنانات الشعبيات اللواتي يطلَق عليهن اسم الشيخات، ويمتهنّ الغناء والرقص الشعبي، جزء لا يتجزأ من المجتمع المغربي. فمن هن صانعات الفرح في حميمية البيوت... وضحية الانتقادات جهاراً؟
محبوبات ومبغوضات
عند تصدّر المسلسل الرمضاني المغربي "المكتوب" وإحدى شخصياته الرئيسة شيخة المشاهدات، انقسم المغاربة بين مؤيد ومعارض لشريط فيديو لياسين العمري الذي يقدّم نفسه على أنه داعية.
انتقد العمري العمل الدرامي واصفاً إياه بالساقط، وأثار بعدها انقساماً في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية حول دور الشيخات في المجتمع المغربي، وهو جدال قديم جديد.
كانت الشيخة، في تاريخ المغرب، شخصيةً محترمةً ومهابةً في الوسط القبلي، بحكم أنها فنانة وشاعرة تنطق بلسان مجتمعها. فلم يكن الغناء حرفةً يُرتزق بها كما هو الأمر الآن.
إعلان مسلسل "المكتوب"
وفي التخت، كانت العادة تقتضي وجود شيخة واحدة في الغالب. وكانت المرأة تغني بأسلوبين، تستظهر ما حفظته من قبل، وفي حالة الوجد والوصول إلى درجة عالية من الجذب، كانت تضيف كثيراً من الكلام الجميل ارتجالاً.
كان الناس يتخوفون من كلام هؤلاء النسوة، ويحسبون لهنّ ألف حساب، مثل خربوشة التي عاشت في نهاية القرن العشرين، في منطقة عبدة، وشكّلت رمزاً لتمرّد قبليّ واجَه سلطة قائدٍ ووزير هو القايد السّي عيسى، الذي نكّل بها وقتلها، ليكسر شوكة قبيلتها.
لكن في المخيلة الجماعية، ومنذ وصول الفرنسيين إلى المغرب واستعمارهم إياه، والذي حوّل بنية المجتمع ودفع بالكثير من النساء إلى المراكز الحضرية الكبرى، أصبحت كلمة الشيخة مرادفاً لعاملات الجنس، و"شتيمة" توجه إلى النساء. خاصةً أن غناء الشيخات ورقصهن تحول إلى مهنة غالباً ما تمارَس في عوالم "سفليّة" ينظر إليها المجتمع بارتياب، كالحانات والسهرات.
غالباً ما توصف الشيخة بأنها عاملة جنس، بحكم عملها في ظروف صعبة، وفي الليل أمام أشخاص أجانب، لكن الشاعر والباحث المغربي حسن نجمي، يعارض بشدّة هذا الطرح في كتابه "غناء العيطة-الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب"، الذي هو في الأصل بحث لرسالة دكتوراه، قائلاً: "لا ينبغي اعتبار أداء الـشيخات أمام الرجال قرينةً ثابتةً على كونهن مومسات، فذلك لا يعدو أن يكون تبنياً لموقف بعض الفقهاء وأوصياء المجتمع من مسألة قديمة جداً وهي الاختلاط بين الرجال والنساء في الفضاء العمومي، فضلاً عن أنه تكرار واستمرار للخطاب ‘الإكزوتيكي’ لبعض الملاحظين والباحثين الغربيين الذين يعتبرون عادةً، بغير قليل من المبالغة، أن الشيخة هي نموذج المرأة العربية ‘المتحررة’، والتي تجسد حالة انتهاك للمحظور الديني الإسلامي السائد".
يرى نجمي في كتابه أن تعريف الشيخات بمحدّدات غير فنية، انحراف منهجي واضح، لأنه يخرج بالتعريف عن الممارسة الفنية والجمالية إلى المحدد الأخلاقي، وهو حكم قيمة وليس مرتكزاً من مرتكزات التحديد والتعريف. كما أنه يجمع جميع الشيخات تحت طائلة الحكم المجحف نفسه، من دون اعتبار لسيرورة الزمن.
ويشير إلى أن الشيخات هنّ النساء المغنيات، الراقصات في المغرب الأقصى، وقد يكون بعضهن عازفات أيضاً على بعض الآلات الموسيقية. وحسب الكتاب فإن "الشيخات تشكّلن، نظراً لارتباطهـن أصلاً ببنية المجتمع القروي ذي الأصول العروبية، ولممارستهن الفنية واعتمادهن على الدوام في صناعة الأفراح وإقامة الاحتفالات، داخل "مؤسسة اجتماعية" حقيقية لها نظامها، وعاداتها وتقاليدها المهنية والفنية.
جدل جديد... قديم
يرى عبد الوهاب رفيقي، الباحث في الفكر الإسلامي في حديثه إلى رصيف22، أن الجدل الأخير، لا تنبغي معالجته من جانب ديني؛ لا بد من معالجته من جانب اجتماعي على لأن الدين لا يتدخل في كل الظواهر الاجتماعية، حتى السلوكيات التي يرفضها الدين والتي لا يقبلها منظور ديني معيّن، وليس بالضرورة أن ينعكس ذلك على حركة المجتمع والدليل على ذلك أن المجتمعات على مر التاريخ عرفت ظواهر يعدّها الفقيه حراماً ومحظوراً دينياً. فقد وُجدت العلاقات خارج الزواج واستمر شرب الخمر وانتشرت ظاهرة المثلية بشكل كبير في المجتمعات الإسلامية مع وجود الفقيه الذي يرى ذلك منكراً وحراماً وهو الإشكال الذي لا يريد أن بفهمه بعض الفاعلين الدينيين، وهو أنهم لا يمكنهم تسيير المجتمع وتأطيره بما يرونه من معتقدات وبما لديهم من تصورات.
أشار رفيقي، إلى أن الداعية الديني يريد أن يكون المجتمع في أحسن حال ويسعى إلى ذلك، لكن المشكلة في طريقة الخطاب والتعامل. يمكنه أن يبدي رأيه في مهنة معينة أو في عمل وسلوك معيّنين لكن بشكل ألطف. أما أن تهاجم فئةً داخل مجتمع لها اختياراتها وقناعاتها الخاصة، فهذا هو الذي لا يُقبل ولا يمكن التساهل معه في عهد تسعى فيه المجتمعات إلى خلق نوع من التعايش والتعدد.
يقول رفيقي، مشكلة الشيخة في تمثّل كثير من الشيوخ والفاعلين الدينيين المغاربة بأنها امرأة، "وهم يكرهون كل ما له علاقة بالمرأة وكل السلوكيات يمكن أن تُقبل من الرجل ولا يمكن بأي حال أن تُقبل من المرأة".
لكن الجدل الأخير يظهر نظرةً لا توافق الواقع من طرف المنتقدين والمدافعين عن الشيخات وكأنهن كائنات خارج "التاريخ والمجتمع"، فهناك بالنسبة إلى رفيقي "مبالغة ما بين طرف يريد أن يجعل من الشيخة امرأةً فاجرةً يتلازم عملها مع الرذيلة والفجور والانحلال، ومع طرف يريد أن يجعلها امرأةً مطهرةً مارست النضال والمقاومة ضد المستعمر. الشيخة ككل فئات المجتمع، منها المناضلة ومنها التي تسلك هذا السبيل لأجل كسب رزقها والتي تربت في بيئة أنتجت منها ذلك النموذج فلا يمكن إنزال أحكام القيمة عليها بصفتها شيخةً وإنما هي امرأة كسائر نساء المجتمع".
ماذا عن الشيخ... "الفقيه"؟
إن كان الجدل اتخذ مناحي متعددة بخصوص المسكوت عنه في الفن ومكانة الشيخة في المجتمع، فالأمر نفسه بالنسبة إلى مكانة الداعية في المجتمع التي تتأرجح بين الأفول والصعود. هي جدلية التأثير والتأثر بين الفقيه أو الداعية وما يدور في مواقع التواصل الاجتماعي وعلاقة ذلك بالتأثير على خطاب المجتمع الذي يستمد مواقفه من الشيخ والفقيه.
يرى منتصر حمادة، الباحث في مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث في الرباط، في تصريح لرصيف22، أن ما تكشف عنه التفاعلات الرقمية، خصوصاً التفاعلات في مواقع التواصل الاجتماعي، تفيد بأن صورة الفقيه أو "عالم الدين"، حسب الاصطلاح البحثي، تعرضت لبعض التحريف أو ما يُشبه التقليل النسبي من المكانة الاعتبارية النوعية التي يحظى بها، ولكن الأمر هنا يتطلب الحسم في طبيعة "رجل الدين"، والتنبيه إلى أن الأمر يهم تفاعلات رقميةً، لا تعبّر بالضرورة عن طبيعة مخيلة المجتمع، لأن مخيلة هذا الأخير لا يمكن اختزالها في ما تعج به المضامين الرقمية.
أضاف حمادة، أنه بالعودة إلى طبيعة الفقيه المعني، فالأمر يهم خطيب الجمعة، والفقهاء والوعّاظ والمرشدين والمرشدات، سواء الذين يعملون في المؤسسات الدينية من قبيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، أو المجالس العلمية المحلية، والرابطة المحمدية للعلماء ومؤسسات دينية أخرى، أو الدعاة الذين يُحسبون على حركات إسلامية، دعوية (من قبيل التيار السلفي الوهابي أو جماعة "الدعوة والتبليغ")، أو سياسية، من قبيل حركة "التوحيد والإصلاح" وجماعة "العدل والإحسان".
هناك دور متصاعد تقوم به الثورة الرقمية في التفاعل مع العديد من الحقول، منها الحقل الديني أو المجال الديني، بحسب حمادة الذي أضاف "أن تراجع سلطة الفقيه عائد إلى مواقف بعض الدعاة الإسلاميين من بعض أحداث الساحة، من قبيل المواقف المرتبطة بموضوع "الإعجاز العلمي"، أو الإدلاء بمواقف تسيء إلى الدين، أو التورط في توزيع أحكام تقترب من معضلة "توزيع صكوك الغفران"... إلخ، وهي مواقف تجعل النسبة نفسها من مخيلة الرأي العام، تربط بين هذه المعضلة والقيم الإسلامية، بما يساهم في التشويش على المكانة الاعتبارية لمؤسسة الفقيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...