حدثتنا مرةً والدة صديقتي عن معاناتها مع مرض حماتها التي كانت مصابةً بالزهايمر قبل سنوات من وفاتها. كانت تسرد لنا قصصاً عن أحداث محرجة حيناً، ومؤلمة حيناً، ومرهقة حيناً آخر. ما كنت أتخيلّ تحمّلي ما كانت تعانيه وتصفه تلك المرأة يومها، فسألتها: لماذا لم تضعوها في دار للرعاية؟ نظرت السيدة إليّ وكأنّي قد شتمتها، وقالت: "لو قبل زوجي بأن يفعل ذلك بأمّه، ما كنت لأرضى لنفسي أن أفعله بها؛ فالمعاملة قرضٌ ودينٌ، وكما تُدين تدان، وسيفعل أولادي الشيء ذاته بي حينما أكبر، ثمّ ماذا كان الناس سيقولون عنّا؟". استوقفني ردّ تلك السيدة ومشاعر الغضب التي تملّكتها، وترك كلامها أثراً كبيراً في نفسي وذاكرتي وتفكيري. بعدها، بقيت وقتاً طويلاً أفكّر في الأمر وأحاول تحليله. وها أنا ذا أحاول أن أدوّن بعض أفكاري عن ثنائية الكنّة والحماة، وما طرأ عليها من تغيّرات في الثقافة العربية.
في الماضي، كانت علاقة الحماة والكنّة في المجتمعات العربية علاقةً أساسيةً وحساسةً جداً. فليس من السهل على الرجل في هذه المجتمعات الارتباط بامرأة بعيداً عن رضا والدته وموافقتها ومباركتها، بل في أغلب الأحيان، كانت الأمّ هي من تنتقي لابنها العروس، ثمّ تعرضها عليه ليوافق أو يرفض. أي تكون هي صاحبة القرار الأوّل وأحياناً الأخير. لذا، كانت العروس وعائلتها يسعون إلى إرضاء تلك الحماة في الدرجة الأولى، ثم الزوج، أو يسعون إلى كسب رضا الحماة من خلال إرضاء الزوج. وتستمدّ والدة الزوج تلك القوة وتلك المكانة أساساً من النصوص الدينية التي تقوم عليها الثقافة العربية إجمالاً، ومن الأعراف التي تطوّرت لاحقاً على مرّ الأجيال.
في الماضي، كانت علاقة الحماة والكنّة في المجتمعات العربية علاقةً أساسيةً وحساسةً جداً. فليس من السهل على الرجل في هذه المجتمعات الارتباط بامرأة بعيداً عن رضا والدته وموافقتها ومباركتها، بل في أغلب الأحيان، كانت الأمّ هي من تنتقي لابنها العروس، ثمّ تعرضها عليه ليوافق أو يرفض
ولا غرابة في أن تكون الأمّ هي من تختار زوجة الابن، فتلك الكنّة ستقيم معها ومع ابنها في بيت واحد، وستقوم بأعمال المنزل والتربية تحت إشراف والدة زوجها، وبتوجيه منها، وستحلّ محلّ ابنتها التي ستتزوج وتنتقل إلى بيت آخر وتصبح كنةً لحماة أخرى. كانت الحماة في الماضي تفرض سيطرتها على البيت ومن فيه. كانت تتدخّل وتتحكّم في كلّ صغيرة وكبيرة وتخلق بين الكنائن جواً تنافسياً لإرضائها. وكثيراً ما يكون هذا الجوّ التنافسيّ جواً سلبياً يخلق العداء بين الكنائن من جهة، وبين الكنّة والحماة من جهة أخرى.
تصل مكانة الأمّ في الثقافة العربية إلى مرحلة القداسة؛ فغضبها يعني غضب الرّبّ وعصيانها يعني عصيانه. بل تقيس هذه المجتمعات أخلاقيات الناس، وتحكم عليها، من خلال علاقاتهم بوالديهم. وهذا ربمّا ساهم في تشكيل نظرة النساء العربيات وأفكارهنّ حول الزواج آنذاك، فالزواج حينها كان أهمّ أهداف الفتيات، وكان يشكلّ نقطة التحولّ الأبرز في حياتهن، وذلك لأنّ الزواج هو الطريقة الوحيدة لتصبح الواحدة منهنّ أمّاً، فلا وجود لما يُعرف بالأمّ العزبة في الثقافة العربية، ولا أمومة خارج إطار علاقة الزواج. والأمومة بعد الزواج ليست خياراً أو أمراً قابلاً للتأجيل، فعلى من يتزوج أن ينجب فوراً، وإلا أصبحت علاقة الزواج هذه موضعاً للشكّ والسؤال. وهكذا تصبح الأمومة هدفاً بحدّ ذاتها. فسلطة الأمّ على أبنائها بعد تربيتهم وبلوغهم وزواجهم سلطة مطلقة لا يمكن الاستهانة بها.
تصل مكانة الأمّ في الثقافة العربية إلى مرحلة القداسة؛ فغضبها يعني غضب الرّبّ وعصيانها يعني عصيانه.
ينشأ الأطفال في المجتمعات العربية على قصص تتحدّث عن العقاب الذي ينتظر من يسيء التعامل مع والديه، وتدور كلّها حول فكرة "الكارما"؛ فما تقدّمه لهم اليوم، يقدّمه لها أبناؤها غداً. هكذا برّرت السيدة في بداية هذه المقالة بقاء حماتها المصابة بالزهايمر في منزلها، وتقديم الرعاية لها. فهي تؤمن بأنّها لو أساءت إلى حماتها سيكبر أبناؤها ويسيئون إليها بالطريقة نفسها. ولو أطاعتها واعتنت بها، سيعتني بها أبناؤها في المقابل. هكذا اكتسبت المصحات النفسية ودور رعاية كبار السنّ سمعةً سيئةً في المجتمعات العربية، بالرغم من أنّها تقدّم للكبار خدمةً أكثر احترافيةً وذات جودة، فمن يضع أحد والديه اليوم في هذه المصحّات والدّور سيضعه أبناؤه غداً حيث يموت وحيداً، وسينظر إليه المجتمع نظرة ناكر الجميل الذي تخلّى عن والديه، بعد أن ربّياه وقدّما له الكثير صغيراً.
كلّ هذه القيم قيمٌ جيدةٌ في أساسها؛ فالعائلة والتماسك الأسريّ أمران لا يمكن الاستهانة بفعاليتهما في التقليل من حالات العزلة، والتوتر، والاكتئاب، والانتحار، وهي قيمٌ نحتاج إليها اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. ومعروف أنّ كلّ إنسان يمنح سلطةً مطلقةً أو ذات قداسة، لا تخضع للرقابة والمحاسبة، سيفرّط حتماً في استخدامها. وقد قال العرب قديماً: "من أمِن العقوبة أساء الأدب". ربّما كانت فكرة السلطة المطلقة تلك هي الأسوأ في تاريخ هذه العلاقة الأنثوية؛ فالزوجة لا ترزح تحت ضغط سلطة زوجها الذكر في مجتمع ذكوريّ بامتياز فحسب، بل تضاف إليها سلطة أمّه التي هي امرأة مثلها، لكنّها تحكمها أيضاً بعقلية السيّد والعبد.
ظلّت علاقة الكنّة والحماة علاقةً حساسةً وعدائيةً (بشكل مبطن)، ومتذبذبةً، تظهر في قصص الموروث الشعبيّ وأغانيه بشكل متناقض؛ فمرةً تتحيّز الأغاني إلى الكنّة المسكينة وتهاجم سلطة الحماة وتسلّطها، ومرةً تنتصر القصص لحقّ الأمّ ووجوب طاعتها
ظلّت علاقة الكنّة والحماة علاقةً حساسةً وعدائيةً (بشكل مبطن)، ومتذبذبةً، تظهر في قصص الموروث الشعبيّ وأغانيه بشكل متناقض؛ فمرةً تتحيّز الأغاني إلى الكنّة المسكينة وتهاجم سلطة الحماة وتسلّطها، ومرةً تنتصر القصص لحقّ الأمّ ووجوب طاعتها. إلا أنّ هذه الأمور بدأت بالتغيّر عندما صار التعليم حقاً للبنات، وصارت الأسر تحرص على تعليم البنات لأجل الوظيفة والشعور بالأمان والاستقلال، في مجتمع يقسو عليهنّ ويميّز ضدّهنّ. لذا، نستطيع أن نفترض أنّ هذا هو التطوّر الأول. فمع الوقت، أصبحت الحماة تفضّل لابنها الفتاة المتعلمة، لتضمن بذلك تعليم أحفادها تعليماً جيداً، وتضمن دخلاً إضافيّاً للأسرة يساعد ابنها. هذا بالإضافة إلى أنّ المتعلّمة والموظّفة أصبحتا ذات مكانة اجتماعية أفضل. وهكذا، مع تعلّم النساء وعملهن، بدأ شكل علاقات الأسر بالتغيّر، فصار لكلّ ابن بيته وحياته المستقلة البعيدة عن سلطة أبويه المباشرة. وصارت البنت أقلّ توقاً إلى الزواج؛ تحسب ما لها وما عليها في تلك العلاقة. وصار احتكاك الكنّة بحماتها أقلّ، وأصبحت سلطة الحماة على كنّتها أخفّ وطأةً.
ومع ابتعاد النساء بعداً حرفيّاً ومجازيّاً عن بيت الحماة، أصبحن أكثر حريةً حين يتعلق الأمر بعلاقتهنّ بالزّوج من جهة، وأكثر حريةً حين يتعلّق الأمر بتربية أبنائهنّ من جهة أخرى.
ومع ابتعاد النساء بعداً حرفيّاً ومجازيّاً عن بيت الحماة، أصبحن أكثر حريةً حين يتعلق الأمر بعلاقتهنّ بالزّوج من جهة، وأكثر حريةً حين يتعلّق الأمر بتربية أبنائهنّ من جهة أخرى. هذه الحريّة وهذه الاستقلالية في حياة البنت خلقتا تطوّراً جديداً نشهد بوادره اليوم في علاقة الكنّة والحماة. فحقّ انتقاء العروس الذي تنازلت عنه الحماة مؤخراً لصالح الابن، تلقّفته العروس، فانقلبت الأدوار وأصبحت هي من تبحث عن حماة متعلمة وعاملة ومستقلة مادياً، إيماناً منها بأنّ هذه الحماة أكثر تفهّماً وانشغالاً، وأقلّ تطلباً وأفضل مكانةً اجتماعيةً وأقلّ تسلّطاً، وأظنّ أنّ هذا التطوّر سيعيد أيضاً تشكيل العلاقات الأسرية في مجتمعاتنا من جديد.
ومع وجود تصادم وتصارع اليوم بين ثلاث تيارات تحدّد شكل العلاقة بين الحماة والكنّة، ومع تغيّر نظرة النساء إلى الزواج والأمومة، بعد أن أصبحن مكتفيات مادياً، ومع تغيّر شكل السلطة التي تتوق إليها المرأة، إذ صارت أكثر ميلاً إلى السلطة التي تحصل عليها من خلال العمل، تشهد مجتمعاتنا تغيرات جوهريةً في شكل علاقة المرأة مع الرجل (الزوج)، وشكل علاقة المرأة مع أبنائها، وشكل علاقة الأبناء مع الأبوين، والأهم في شكل علاقة المرأة بالمرأة نفسها. فالموضوع إذاً ليس بالسّذاجة التي يذهب إليها الكثيرون عند الحديث عن هذه العلاقة، إذ غالباً ما يربطون الصراع بالغيرة، أو بمشاعر الأمّ تجاه من تخطف منها ابنها، بل هو صراع أعمق من ذلك، وقائم على فرض سلطة ومقاومتها في الدرجة الأولى، وهو أمر لا يبتعد كثيراً عن فكرة صراع الأجيال ورغبة الكبار أحياناً في فرض نمط حياتهم ومعتقداتهم وأولوياتهم على الأجيال اللاحقة.
ملاحظة: نشر المقال الأصلي باللغة الإنجليزية في مجلة "Corporate Investment Times" يوم 15 نيسان/ إبريل 2022
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع