حتّمت الطبيعة الصحراوية التي نشأ فيها العرب أن تتضاءل مخيلاتهم المبكرة بشأن تعريف كِنة الحديقة، لتقتصر على البساتين الصغيرة التي استضافتها عدد من المُدن الحجازية، التي ظفرت بأجواء معتدلة نسبية وماء وفير، سمحا للّون الأخضر بشقِّ الصُفرة التي تُكلل المنطقة من شتّى الأنحاء. أشهر تلك المدن الطائف التي تبعد 100 كيلومتر عن مكة، وعُرفت بمزارعها وبساتينها النادرة في بيئة العرب القاحلة.
أحد هذه البساتين دخل تاريخ الإسلام من أوسع الأبواب بعدما لعب دوراً رئيسياً في حماية النبي من الموت بعدما سافر إلى الطائف لإقناع أهلها بالانضمام إلى دعوته، فلاحقوه بالحجارة والسباب، فاضطر إلى اللجوء لأحد البساتين حيث اختبأ أسفل عريشة عنب.
في هذا الحين كان تعبير "بستان" يُشير إلى الأرض الخاصة المزروعة بالثمر والنخيل، وهو المعنى الذي سيستمر معنا طوال عصور الخلافة الراشدة، وحتى قيام الدولة الأموية التي شهد عصرها ظهور النسخة الأولى -والأكثر نُدرة- من الحدائق الملكية الإسلامية، كأحد أشكال التطوّر الكبيرة التي اتّسمت بها دولة الإسلام في مراحل تطورها إلى إمبراطورية عُظمى.
يقول أندرو واطسون في كتابه الابتكار الزراعي في بدايات التاريخ الإسلامي (2008): حيثما حلّ المسلمون الأوائل أنشأوا جناتٍ أرضية تعطي ملامح الجنة المرتقبة. إن قائمة المدن الإسلامية التي تفاخرت بالنفقات الهائلة على الحدائق طويلة جداً. ومن الأمثلة على ذلك، مدينة البصرة التي وصفها جغرافيون قدماء بأنها كالبندقية، فلقد كانت ذات أقنية تتكاثر فيها الحدائق والبساتين، وكذا مدينة دمشق التي كان فيها قرابة 110 آلاف حديقة.
كان في دمشق وحدها قرابة الـ110 آلاف حديقة... جنات الملسمين الأوائل
في أطروحته "أنماط وأشكال الحدائق الإسلامية"، يختصُّ عُمر فاروق القيسي بالحديث عن نوعٍ مُحدد من تلك الحدائق/الجنان وهي حدائق القصور، التي يقول إنها اتسمت بثراء عناصرها وجودة الخامات المستخدمة في بنائها. وبحسب القيسي، فإن شكل أفنية القصور كان إما مربعاً أو مستطيلاً، وعادةً ما يُحاط البناء بممرات ذات سقف معقود منقوش عليه آيات القرآن وأبيات الشعر العربي.
ويُكمل القيسي: عادة ما كانت العناصر المائية (النوافير والقنوات) هي بؤر التكوين الرئيسية، أما النباتات فكانت تتخذ صورة مسطحات عُشبية متساوية وأحواض زهور أو في شكل سياج قليل الارتفاع لا يُعطل الزائر من رؤية مكوّنات الحديثة كاملة.
هذا المنحى العمراني الإسلامي فتح الباب أمام نوعٍ جديد من الاهتمام المَلكي بالبيئة لم يخلُ من لمسة وعظية وسياسية في بعض الأحيان التي ظهرت فيها سواء في الأندلس أو في العراق أو في مصر، وهو ما يتجلّى في كل تفصيلة في بناء هذه الحدائق.
ما وراء الأشجار
لم تنل التصميمات التي قدّمتها الحضارة العربية للحدائق صفة "إسلامية" لمجرد أنها قامت تحت رعاية ممالك إسلامية، وإنما لعبت العقيدة دوراً كبيراً في تدشين تلك الحدائق بتفاصيلها التي نعرفها اليوم.
حيثما حلّ المسلمون الأوائل أنشأوا جنات أرضية. قائمة المدن الإسلامية التي تفاخرت بالنفقات الهائلة على الحدائق طويلة. ومن الأمثلة على ذلك، مدينة البصرة التي وصفها جغرافيون قدماء بأنها كالبندقية، فلقد كانت ذات أقنية تتكاثر فيها الحدائق والبساتين
يقول الباحثان نور زالينا هارون ومازلينا منصور، في ورقتهما البحثية "استكشاف مفهوم الحديقة الإسلامية كمصدر إلهام"، إن تدشين تلك النوعيات الفارهة من الحدائق هدفت إلى تحفيز الزوّار على الإعجاب بالطبيعة، وهو ما يزيدهم تعلٌّقاً بالله خالق كل تلك الروائع، كما أن تصميم الحديقة رُوعي فيه أن يمثّل رمزاً أرضيّاً للجنة، كمحاولة معنوية لإعادة تجسيدها على الأرض أمام عوام المسلمين، ليتذكّروها كهدفٍ نبيل عليهم السعي نحوه في حياتهم، مهما عاشوا من ترف وغرقوا من ملذات وفّرتها لهم ممالكهم القوية والمزدهرة.
وهنا يقدّم أتيليو بيتروتشيولي في بحثه "إعادة التفكير في الحديقة الإسلامية" تفسيراً دقيقاً لحرص الملوك المسلمين على تقديم "الجنان الأرضية" لشعوبهم، معتبراً إياها إعلان عن قوة وسُلطة الملك/ نائب الله على الأرض، وسعياً لتخليد اسمه وسطهم بمنشآت هي صورة طبق الأصل من الجنّة القرآنية التي يحلم المسلمون بدخولها.
ووفقاً للباحثة المعمارية نبيلة دوا، فإن تدشين تلك الحدائق هي انعكاس مباشر على قوة الحاكم في تنفيذ مثل هذه المشروعات الكبرى التي تدلُّ على قُدرة دولته -ومن خلفها هو- على الإنتاج وتخضير مساحات شاسعة من الأرض.
لذا فإن تلك الحدائق كانت مرتعاً للاحتفالات الملكية التي تُقام على شرف الحاكم نفسه، وعلى رأسها مراسم تنصيبه، والتي يُضفي تنفيذها في مكان مهيب، كتلك الحديقة، على الملك بأنه مؤيّد من الطبيعة وربُّ الطبيعة، مثلما كان يجري في حديقة شاليمار باغ المغولية على سبيل المثال، وهو ذات ما كان يجري في حديقة "جهل ستون" chehel sotoun، التي أسسها الشاه الصفوي عباس الثاني في القرن الـ16 على مساحة 15 فداناً، وكانت مخصصة للاستقبالات الرسمية والاحتفالات الملكية.
وبشكلٍ عام، فإن علاقة تراثية خفية بين نشاط الزراعة والإله على امتداد التاريخ الإنساني، فوفقاً لدوا، إن النشاط الزراعي منذ الأزل لطالما كان مرتبطاً بالسعي للتقرُّب إلى الآلهة والتعرُّف عليهم. وتعتبر أن ممارسة الزراعة والتطوّر فيها هي مرحلة مهمة دالة على النضوج الفكري والثقافي للمجتمعات التي تمارسها، وهو ما كان يُترجم -بالضرورة- بشيوع ثقافة الآلهة بينهم ووصول الفهم الإنساني إلى درجة تدفعه إلى محاولات البحث عنه.
تصميم حدائق الممالك الإسلامية رُوعي فيه أن يمثّل رمزاً أرضيّاً للجنة، كمحاولة معنوية لإعادة تجسيدها على الأرض أمام عوام المسلمين، ليتذكّروها كهدفٍ نبيل عليهم السعي نحوه في حياتهم، مهما عاشوا من ترف وغرقوا من ملذات وفّرتها لهم ممالكهم القوية والمزدهرة
فلنستورد الجنّة من السماء
هذا البُعد الديني سينسحب معنا إلى عناصر تصميم الحديقة نفسها؛ يقول الباحث الشغوف بتاريخ النباتات أرنود ماوريز Arnaud maurieres، إن المخطط المثالي لحدائق الجنّة الإسلامية هو عبارة عن مُخطط مغلق، في مركزه نافورة تسقي أربع أحواض زهور مربّعة، تفصلها قنوات مائية أو ممرات معبّدة بالطين أو بالأحجار.
وفي كثيرٍ من تلك الحدائق كانت تحتوي على قناتين مائيتين رفيعتين تتقاطعان على شكل صليب، فيما تملأ الفراغات الأربعة الكائنة بين المسطحات المائية مسطحات خضراء، وهو ما ينسجم مع قوله تعالي "مثل الجنّة التي وُعد المتّقون فيها أنهر من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغيّر طمعه وأنهر من خمرٍ لذة للشربين وأنهر من عسل مصفى"، هنا يتّضح حرص البستاني المسلم على الالتزام بعدد المسطحات المائية التي تحويها الجنة (4 أنهار) = (4 قنوات مائية) في الحديقة.
وبحسب دوا، فإن تقسيم الحديقة إلى أربع مربعات كان اختياراً صائباً من وجهة النظر الهندسية، باعتباره أسهل وسيلة لريِّ الحديثة بشكلٍ مثالي يكفل وصول الماء لجميع النباتات.
وفي هذا الشأن علينا ألا نغفل تقديس العرب المُفرط للمياه باعتباره "أصل كل شيءٍ حيّ" والذي اعتُبر مجرد وجوده في الحدائق مصدراً للبهجة، فبحسب ما أقرّته الباحثة رضوى محمود في أطروحتها "تتبُّع التأثيرات الإسلامية على تصميم حدائق القاهرة في القرن الـ19"، فإن العرب الذين نشأوا في أراضٍ قاحلة وعاشوا حياة الرعي لسنين طويلة، لم يستطيعوا منع أنفسهم من الشعور بالمتعة جرّاء امتلاك كمياتٍ كبيرة من الماء يجرونها في أيِّ قنوات يصممونها، وظلّ مرأى تدفّق الماء عند العرب علامة على معجزة الحياة.
وهنا يجب أن نتخيّل أن مجرّد وجود نافورة تتناثر منها الماء يميناً ويساراً كان مشهداً يطرب قلب أي عربي/مسلم، ويضفي على روحه الحيوية والانتعاش، فما بالك باعتبار هذا المشهد واحداً من مشاهد عدة توفّرها "جِنان الأرض".
وبحسب نازية الأنصاري في بحثها "أصول الحدائق الإسلامية"، فإن العرب وفّروا الماء لتلك الحدائق -بخلاف تساقط الأمطار- عبر تطوير أنظمة ريّ هيدروليكية معقّدة تسحب الماء من أقرب نهر/بئر/بحيرة قريبة على أن توزّعها بين جنبات الحديقة بالعدل بين النباتات بشكلٍ يكفل لها ألا تتعرّض للجفاف مهما بلغت قسوة الجو. وبحسب أطروحة "الحديقة الإسلامية والتنمية العمرانية في سوريا" للباحثة المعمارية نبيلة دوا، فإن المسلمين استفادوا من الخبرات الهندسية لأهالي البلاد التي فتحوها في بناء تلك الحدائق، وبالأخص الفرس الذين برعوا في ابتكار أنظمة ري توفّر المياه للواحات والحدائق الملكية خلال عهد الإمبراطورية الإخمينية.
كذلك فإنه يُمكن اعتبار أن الحرص على إغلاق الجنان الأرضية بالأسوار يُعدُّ تحركاً مجازيّاً لاستدعاء طابع الجنّة في الطراز المعماري، فالصحراء في الخارج تمثّل الجفاف والموت، بينما تمثّل الأزهار والفواكه والظلال والماء شكل الحياة داخل الجنة.
ووفقاً لدوا، فإن إحاطة الحديقة بالسور تأكيد على القناعة الإسلامية بأن الجنة "مكان خاص" ليس مفتوحاً على العالم، وإنما مغلقاً على ثلة المتقين حيث يمارسون العبادة والتأمل.
أيضاً، في أغلب الحدائق استُخدمت مقصورات خشبية كانت توضع في نقاطٍ مركزية عالية من الحديقة -غالباً بجوار مصدر الماء الرئيسي- تسمح للناظر بمراقبة كافة أرجاء الحديقة دون أن يتعرّض للشمس والهواء، في محاكاة لأحد الأوصاف القرآنية للجنة بأنها تحوي "غرفاً تجري من تحتها الأنهار" (سورة العنكبوت)، وهو نفس الأمر الذي يُمكننا من خلاله فهم الحرص على تدشين أماكن معرّشة بالخشب وغصون الشجر انسجاماً مع قوله تعالي "هو الذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات" (سورة الأنعام).
وعلى نفس النهج، صُمِّمت النوافير بنكهة إسلامية محضة اعتمدت في الغالب على شكل النجمة الثمانية الذي اعتاد الفنانون المُسلمون تزيين حوائط مساجدهم بها –مثل المسجد الأقصى مثلاً- أو على شكل النجمة الخماسية (الموضوعة في علم المغرب) والتي تُشير إلى أركان الإسلام الخمس.
التزمت أغلب الحدائق الإسلامية بهذه الأسُس مهما اختلف مواقعها شرقاً أو غرباً، في الأندلس كانت أو في العراق، ومهما اختلف النظام الحاكم المؤسِّس لها، سواء أكان حاكماً مغوليّاً مسلماً أو مملوكيّاً اعتلى عرش مصر لتوِّه أو أمويّاً في الأندلس، فالكل سعَى لإعمار الأرض وغرس جذور حُكمه فيها باستخدام وسائل عدة، كانت الأشجار واحدة منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...