ظاهرة الانتحار تقضّ مضجع المجتمعات المعاصرة، فهي ظاهرة مركّبة ومعقدة تتداخل فيها عوامل كثيرة منها الاجتماعية والنّفسية والاقتصادية وغيرها، إذ تعمل هذه العوامل مجتمعةً أو متفرقةً على إحداث تحولات كبيرة في البنية الفردية (كآبة، واضطرابات نفسية)، والمجتمعية (أزمات كبرى، واختلالات)، وتنحو هذه العوامل منحى تعقيد الكثير من السلوكيات والأنماط والعادات التي تزيد المجتمع انحباساً، فيكون الفرد ضحية هذا التعقيد، ويظهر عند الكثيرين، والحال كذلك، أن الانتحار هو الحلّ.
بخصوص المغرب، كشف تقرير لمنظمة "بارومتر" العربي، أثر هذه الأزمات المركبة. فقد أصدرت المنظمة تقريراً حول "الصحة النفسية لمواطني دول شمال إفريقيا"، الذي تحدّثَ عن إصابة 20 في المئة من المغاربة بالاكتئاب، يتوزّعون بين 24 في المئة في المدن، و17 في المئة في القرى والبوَادي، كما أكدت وزارة الصحة المغربية من جهتها أن 40 في المئة من المغاربة الذين تتجاوز أعمارهم 15 عاماً يعانون إما من اضطراب نفسي أو عقلي.
حالات انتحار غريبة
ظهرت في الأشهر الأربعة الأخيرة عمليات انتحار بأشكال مختلفة وغريبة، ففي أكادير (جنوب المغرب)، أقدمت شابة على الانتحار برمي نفسها من أعلى مبنى سكني في الحي المحمدي، والسبب حسب مصادر اعلامية هو أن الشابة دخلت في نقاش حاد مع خليلها بعد جلسة خمرية تطورت إلى عراك انتهت برمي نفسها من الطابق الثالث.
أما في خريبكة، فأقدم أستاذ جامعي، يبلغ من العمر 58 سنةً، وفي ظروف غامضة، على وضع حد لحياته، فيما أقدمت فتاة في سيدي أفني (جنوب المغرب)، على وضع حد لحياتها بعد سقوطها في "مطفية" لتجميع الأمطار من دون معرفة سبب إقدامها على ذلك.
وفي مدينة تارودانت، أقدم شاب على الانتحار بطريقة أخرى، إذ عثرت أسرته على رسالة تركها لوالدته يطلب فيها الاعتذار، والعفو عنه بعد اتخاذه قرار إنهاء حياته، والمحزن في قصة انتحار الشاب المغربي، هو أنه ترك لأمه مبلغاً مالياً لتغطية مصاريف العزاء.
ظهرت في الأشهر الأربعة الأخيرة عمليات انتحار بأشكال مختلفة وغريبة، وتعددت الأسباب لكنها مآس تطرح الكثير من الأسئلة حول عوامل الانتحار في المغرب
أما الفاجعة الكبرى، فهي تلك التي عرفتها مدينة سلا، حين أقدم زوجان معاً على الانتحار برمي نفسيْهما من السطح، وأكدت مصادر أن خلافات كانت بينهما وقد عرفت حالتهما النفسية اضطرابات، كما كانت تنتاب الزّوج نوبات وساوس قهري تسببت له في غليان نفسي، وشكوك بخصوص خيانة زوجته له.
وبالرغم من أنّ هناك محاولات للصّلح بينهما، إلا أنه، ومباشرة بعد انتهاء الجلسة التي توسّطت فيها عائلتا الزوجين، وحسب ما نقلته مصادر إعلامية، غادر الزوج الشّقة نحو سطح العمارة ذات الخمسة طوابق، فتبعته زوجته، وهنا احتدّ النقاش من دون أن يعرف أي كان تفاصيله بدقة، ووقعت الزّوجة في ساحة خلاء خلف العمارة، وتبعَهَا الزّوج بدوره في مآساة هزت مدينة سلا تلك الليلة.
إلى ذلك برَز مُؤخراً، وبسبب الطفرة الرقمية، شكل جديد من الانتحار، وآخر هذه الحوادث المؤلمة والمؤسفة تلك التي شهدتها مدينة الدار البيضاء، حين قام شابٌ يُدعى "زكرياء"، وهو في مقتبل العمر، في بث مباشر عبر صفحته على الفايسبوك بحرق نفسه، مؤكداً أنه "تعرض لاعتداء من طرف شخصين في سوق السمك للجملة في منطقة الهرويين في الدار البيضاء".
وكشف "زكرياء"، أنه توجه إلى الأمن مرفقاً بشهادة طبية تثبت عجزه لمدة 21 يوماً، لوضع شكاية ضد الشخصين المعنيين، لافتاً إلى أن العناصر الأمنية أوقفت المشتكى عليهما وأطلقت سراحهما بعد ساعات قليلة، واصفاً ما حدث معه بـ"الحكرة" قبل أن يصب البنزين على جسده ويضرم النّار في جسمه.
أسباب الانتحار
لتفسير هذه العيّنات التي رصدناها في الأشهر الأربعة الأخيرة، سألنا إدريس بنزاكور، أستاذ التعليم العالي المتخصص في علم النفس الاجتماعي، عن مدى وجود قاسم مشترك بين كل هؤلاء الذين أقدموا على الانتحار، وأكد أنه "من الناحية العلمية لا يمكن أن نتحدث عن سبب الانتحار إلا إذا ترك المنتحر رسالةً، لأنه إذا انتحر غابت الأسباب"، مستدركاً بالقول: "لكن يمكن أن نتحدث عن العوامل وليس عن الأسباب، أي العوامل التي قد تكون في المحيط أو في البنية الشخصية والنفسية للمقدم على الانتحار".
وعلى المستوى النفسي، يقول بنزاكور، في تصريح لرصيف22، إنه عادةً ما تكون هناك عوامل متعلقة بالتركيبة الشّخصية التي لا تكون متوازنةً، أي شخصية تعيش مرحلةً من الاضطرابات المتعلقة إما بمشكلات عضوية، أو بجوانب نفسية داخليّة، وقد تكون في بعض الأحيان مرتبطةً بأزمات لا يستطيع الشخص التأقلم معها.
زوجان ينتحران معا، وآخر ينهي حياته ويترك لوالدته مصاريف جنازته وثالث يحرق نفسه على المباشر احتجاجا على ما رأى فيه ظلما. تعددت أشكال الإنتحار في المغرب في الآونة الأخيرة، في ظاهرة تثير القلق
ويرجع المتحدث ذلك إلى الخطاب الداخلي الغائب أو شبه الغائب الذي لم يتمرن عليه، أو لرُبّمَا بسبب الضغوط التي لم تجعله يصل إلى هذه المرحلة من الانسجام الداخلي، فمثلاً المنتحر حين يكون عليه دَيْنٌ ولا يستطيع أداءه فقد تسوَدّ في وجهه الدنيا وتصبح لديه الآفاق شبه مُستحيلة.
أما المعطى الآخر، فيرتبط حسب الباحث في علم النفس الاجتماعي، بالفترة العمرية التي يعيشها، فمثلاً تزداد حالات الانتحار لدى المراهقين، والأمر يُفسّر في هذه الحالة بما هو سُوسْيُو ثقافي، مرتبط بتراجع وغياب التكوين في مجال التّعامل مع المراهق، ونحن نعرف التغييرات الهرمونية والمواقف التي يمر منها ومحاولاته الاستقلال عن سلطة والديه.
وأضاف أن هذه الوضعيات تُصيب المراهق بنوع من الكآبة، إذ يمُر ببعض الأفكار السّوداوية، ومنها قد يمر إلى مرحلة الانتحار لا قدر الله، لافتاً إلى جانب آخر متعلق بالمنتحرة المراهقة، التي تحاط بها الكثير من التعقيدات المجتمعية التي تجعلها مُذنبةً، خاصةً حين يَتعلّق الأمر بوصمة العار، كفقدان بكارتها أو إن كانت حبلى خارج إطار الزواج، فهنا لا تستطيع مواجهة المحيط السوسيو الثقافي الذي تحدثنا عنه.
أعراض قبل الانتحار
وبخصوص أعراض يُمكن عدّها مؤشرات أوليةً قبل الإقدام على عملية الانتحار، أوضح بنزاكور أنها تكون على مراحل، أي قبل الوصول إلى عملية الفعل، إذ نُلاحظ في المرحلة الأولى أنها تبدأ بفقدان الأمل، فيما تأتي بعدها مرحلة ثانية وهي التي نُسمّيها بالانعزال، إذ إن الانسان لا يكتفي فقط بالتفكير السّوداوي، بل ينقطع عن المحيط الذي يُشكّل سَنداً له.
أما المرحلة الثالثة، حسب المتحدث ذاته، فتتعلق بالدخول في جملة من الأفكار التي ليس لها مخرج، بمعنى أنه يُكرّر ويُعيد ويكرر الفكرة نفسها إلى درجة أنه يصل إلى مرحلة الكآبة الحادة التي تمتد في مرحلة طويلة، أي تمتد لثلاثة أسابيع أو أكثر، وحين لا يتدخل طرف لاحتضان همومه، أو حين يكون هناك غياب لالتفاف المحيط حوله، فإن ذلك يعني أنه وصل إلى العزلة الكاملة.
واسترسل بنزاكور: بعد ذلك تأتي المرحلة الرابعة، وهي مرحلة الفعل، وهي المرحلة القصوى التي تكون مرافقةً بالانقطاع عن المحيط والذات، وآنذاك يقدم على الفعل، أي على عملية الانتحار، فهذه المرحلة تتميز بـ"الحدة غالباً، وتنتهي بالشّنق أو بتناول الأدوية والسّموم القاتلة وغيرها من الطرق التي تهدف إلى وضع حد لحياته".
وبيّن المتخصص في علم النفس الاجتماعي، أن من بين المراحل الأساسية في الانتحار الانعزال الكلي، وتالياً "أوجّه الخطاب هنا إلى الأسر وإلى الأصدقاء، فكلما لاحظوا أن هناك تغيرات في سلوك الشخص المعني، فعليهم ألا يستهينوا بالأمر، وتالياً ضرورة فتح حوار معه أو إحالته على متخصص قد ينقذ حياة الشخص".
من جهته، يرى علي الشعباني، أستاذ متخصص في علم الاجتماع، أن ظاهرة الانتحار مُركّبة وليست يسيرة الفهم والاستيعاب، إذ تتجاوز ذلك إلى أسباب عاطفية، فمن الحب ما قتل، والعشق الزائد يؤدي إلى الانتحار، كما يقتل الفقر ويقتل الغنى الفاحش، مشيراً إلى أنه "ينتحر الصغير والكبير، والذكر والأنثى، فالانتحار في هذه الحال لا يستقر على فئة أو حالة، بل هو كما قلت مُتحول ومُتغيّر ومتبدل تبدّل أحوال المجتمع".
وبيّن الشّعباني، في تصريح لرصيف22، أنه على الطب وعلم النفس الانتباه إلى العوامل التي تسبق الانتحار، فبعض الحالات النّفسية كالانطواء والاكتئاب وقلة النوم والاضطرابات التي تظهر عليه كالعصبية الزّائدة والانسحاب المفرط وقلة الشهية، "كلها عوامل قد تظهر على المنتحر قبل أن يُقدم على الفعل، وإذا لم نحاول أن نعالجها وقمنا بإهمالها، فإنها قد تتحول إلى الأسوأ".
دور الدولة والأسرة
وفي سياق آخر، شدد بنزاكور، على أن الدولة لها دورها في إعادة النظر في الكثير من الإجراءات، خاصةً القروض التي تكون ذات طابع أسري وليس تلك التي تُقدم للشركات، فالقروض الأسرية حالة خاصة وتزداد خطورةً حين يفكر المقترض (الأب مثلاً)، في مسار ابنه أو عدم قدرته على أداء واجباته المنزلية، وهنا بالضبط تزداد أزماته، فالدولة لها دور أساسي في إحساس أرباب الأسر بالتوازن المالي وضمان الاستقرار العائلي.
أشار بنزاكور، في السياق نفسه، إلى أهمية المدرسة في التأطير والمواكبة، إذ لا زلنا في المغرب نعدّ الحديث عن مواضيع الانتحار أو وضع حد للحياة من مواضيع "التابوه"، مع أنها ضرورية ويجب أن يثار النقاش حولها داخل الفصل، وتظهر بعض الحالات التي يجب أن تحال على المتخصصين، وكذلك خلايا الإنصات، وكيف يمكن أن تسانَد هذه الحالات في المدارس والجامعات.
الإنترنت والانتحار
وأكد المتحدث ذاته، أن الشّبَكيّة (الإنترنت) لها آثار نفسيّة سلبية خاصةً حين لا تُستعمل بالشكل الجيد، "وهنا لا بد أن نتحدّث عن مسؤولية الدولة والوطن وليس الأسر فحسب في مراقبة ما يروج في هذه الفضاءات الجديدة، خاصةً أن المراهقين حالياً هم الأكثر استعمالاً لهذه الوسائط".
واسترسل بالقول: "آن الأوان لأن نُفكر فيها بطريقة مختلفة، وليس في محاربتها فهذا مستحيل، لكن في وضع أُسس وطرق ناجعة للتعامل معها، وتالياً هنا نحتاج إلى إعادة التربية الوطنية في هذه المسائل، فكما يتعلم التلميذ القراءة والكتابة، فعليه أيضاً أن يتعلّم كيفية ولوج هذه الوسائل التكنولوجية التي تُعدّ جزءاً من حياته النفسية".
إلى ذلك، اقترح المتحدث ذاته، وضع دلائل عامةً للآباء تتضمن خطوات للتعامل مع أبنائهم لكيلا يكون هناك هاجس وخوف من هذه الوسائل، فقد آن الأوان لأن يُؤَهّل الآباء لاستعمال المراقبة القَبلية لمعرفة سلوك الأطفال والمواقع الممنوعة والمُدّة الزمنية التي يمكن أن يباح فيها للأطفال الاشتغال على هذه الأجهزة، فعليهم أن يطوروا معرفتهم التكنولوجية، فحين يكون هناك ضعف المعرفة يصير المُسيطر هو الابن، وتالياً يصعب التأطير العقلاني لهذا الاستعمال.
محاصرة الظاهرة
أما بخصوص طرق محاصرة ظاهرة الانتحار، فأكد علي الشعباني، المتخصص في علم الاجتماع، أن الأمر صَعب للغاية، "فإذا كنا نريد أن نُحاصر هذه الظاهرة فعلينا مواجهة أسبابها الحقيقية الموجودة في المجتمع، وهي "أسباب مُتشابكة اقتصادية علائقية تراثية، ومن الصعب أن نتغلب عليها، لأن المجتمع متحرك، وهذه الدينامية هي التي تحرك هذه الأحوال".
وأوضح المتحدث ذاته، أنه من المُمكن مواجهة البطالة، لكن قد تظهر لنا الأمراض، ونواجه الأمراض وتظهر لنا الاعتداءات وضعف القيم، وهذه عوامل لا يمكن أن تنقطع عن المجتمع، ووجودها قد يُؤدّي إلى حالات من الاكتئاب الذي يُعدّ البوّابة الأولى إلى الانتحار، مرجعاً الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار للاختلالات الكثيرة التي توجد في المجتمع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وعلى مستوى القيم.
وأشار الشّعباني، إلى أنه إذا ما أردنا مواجهة الانتحار، فيجب أن نعمل على مستوى المدرسة والمجتمع، وأيضاً التركيز على نشر الوعي بين الناس والتّنبيه إلى هذه المخاطر، والقضاء كذلك على العوامل التي تؤدي إلى الاختلالات السلوكية والعقلية والنفسية، وكذا الأمراض المختلفة، وعلى رأسها الاكتئاب.
وبيّن المتحدث ذاته، أن في المجتمعات المتقدمة، هناك بعض الفئات، وإن توافرت فيها شروط الرّفاهة، فتسجّل حالات مرتفعةً من الانتحار، إذ يرَون أن الحياة صارت عبثاً، ولا قيمة لها، وهذا سبب آخر، فحتى وإن توافر شرط الرفاهة والتعليم الجيد والقيم ترسخت، فلا تسلم هذه المجتمعات من هذه الظاهرة، مما يبيّن، كما قلت سابقاً، صعوبة ضبط الأسباب التي تؤدي إلى الانتحار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...