يشتهر عالمياً مصطلح Coming Out والذي يُترجم إلى العربية "الخروج من الخزانة"، ويعني ببساطة الإفصاح عن الميول الجنسية. هذا المصطلح قد يجعل البعض يتخيل أن الشخص المثلي هو كالمسجون في خزانة معتمة، ضيقة وقليلة التهوية، يضطر للتفاعل مع الآخرين من وراء ستار داكن، يظن أنه يحميه منهم، حتى يختار المخاطرة، فيصبح خارج هذه الخزانة المسحورة، ويواجه ردود الأفعال بالخارج.
للأسف في عالمنا العربي، يؤدي غالباً "الخروج من الخزانة" إلى العديد من النتائج السلبية، من النبذ المجتمعي، وصولاً إلى حدّ العنف والقتل، لذلك يتطلب الأمر شجاعة فائقة، خاصة عند استخدام وسيط سينمائي قادر على الوصول لعدد كبير من البشر.
وهنا نتحدث عن مخرجين استخدموا السينما باعتبارها وسيلتهم المفضلة للتعبير عن أنفسهم للخروج من الخزانة والإفصاح عن ميولهم الجنسية، لكن في ذات الوقت صنع كل منهم فيلماً يشاركه مع باقي العالم، ربما كرسالة موجهة لشخص آخر سجين خزانته، مفادها: "اخرجْ، فقد يتقبلك العالم بالخارج".
عندما نشتاق حتى للمصارحة
الأحدث في هذه القائمة فيلم أثار الجدل، على الرغم من عدم عرضه حتى كتابة هذه السطور، وهو الفيلم الألماني/ اللبناني/ المصري "بشتقلك ساعات"، للمخرج المصري محمد شوقي حسن.
للأسف في عالمنا العربي، يؤدي غالباً "الخروج من الخزانة" إلى العديد من النتائج السلبية، من النبذ المجتمعي، وصولاً إلى حدّ العنف والقتل، لذلك يتطلب الأمر شجاعة فائقة، خاصة عند استخدام وسيط سينمائي قادر على الوصول لعدد كبير من البشر
تدور أحداث الفيلم، عبر مزيج من الوثائقي والروائي، حول العلاقات الجنسية المثلية، وذلك في استخدام الاستطراد بالسرد التي تشبه قصص "ألف ليلة وليلة"، وبمزج الأغاني الرائجة مع القصص الطازجة لشخصياته التي تفصح عن حيواتها كأشخاص مثليين وأبناء لمجتمعاتنا العربية المعاصرة.
وعلى الرغم من أن تصوير الفيلم تم في ألمانيا، إلا أن عرض الفيلم في مهرجان برلين السينمائي أدى إلى غضب كبير في مصر، حيث اعتبره البعض أنه يمثل السينما المصرية، ما يجعلنا نتسائل عمّا يمكن أن يُحدث "الخروج من الخزانة" في المجتمع المصري اليوم، بعدما تبيّن أن التعبير عن الميول المختلفة والاستمتاع بعلاقة حب مثلية، قد يؤرق الملايين، ويجعل مخرج فيلم لم/لن يشاهده أحد، كمصدر خطر يجب السيطرة عليه قبل فوات الأوان.
إمبراطور النمسا... حميمة المصارحة مقابل النبش على الماضي
في العام 2016، أبصر فيلم "إمبراطور النمسا" النور، وعُرض في عدة محافل، منها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
من خلال الوثائقي، يصور المخرج سليم مراد عائلته في عدة لحظات حميمية ومربكة، فالأسرة هنا تنتقل من بيت قديم يحمل إرثاً وتاريخاً لآخر أكثر حداثة وعصرية، وفي ذات الوقت تواجه تصريح الابن الوحيد بميوله المثلية.
هذا المضي قدماً في الحياة، يوازيه عودة للماضي والجذور، يقوم بها سليم عندما ينبش ماضي أجداده ويتتبع أصول عائلته، يبحث عن تاريخ ذلك الجد الذي تخلى عن ابنه بالتبني عندما أنجب من زوجة جديدة، عن لعنة تخيلها ويظن نفسه إحدى نتائجها الجانبية، والأهم يبحث عن هويته في كل هذه الفوضى.
في أحد مشاهد الفيلم، يستعد أهل سليم لأخذ صورة عائلية على يد ابنهما، يرتديان أكثر ملابسهما أناقة، ويخرجان من الغرفة ليجداه عارياً تماماً، هذا العري هو بمثابة صورة مجازية عن خروج سليم من خزانته والإفصاح عن ميوله الجنسية، يظهر أمام والديه كما ولدته أمه، ليقبلاه كاملاً، بشخصيته وهويته، دون غلالات من الملابس والأعراف تخفيه عن عيونهم وعيون الآخرين.
ولعلّ أكثر لحظات فيلم "إمبراطور النمسا" حساسية هي تلك التي تجمع الابن بأبيه، الذي تفهّم ميول ابنه، ولكن في ذات الوقت يحمل مخاوفه الخاصة بحيث يبدو قلقاً من تقبّل المجتمع له، ومن المخاطر التي قد يتعرض لها في حياته القادمة، يمزج اضطرابه بالسخرية ومشاعر الحب بجفاء مصطنع، بينما يسأله الابن: "لماذا لم تنجب أبناء بعدي؟"، يسخر منه قائلاً: "ولم أنجب غيرك؟ لماذا تظن نفسك مهماً، هل أنت (إمبراطور النمسا)"، ولكن في ذات الجملة يحاول أن يجد المبررات لنفسه أمام ابنه، لماذا لم ينجب غيره؟ وفي عيونه نظرة أن ابنه بالنسبة له أفضل حتى من إمبراطور النمسا.
أما الأم فدورها محدود مقارنة بدور الأب، ويتضح هذا في عنوان الفيلم، سواء بالعربية أو بالإنجليزية، فعبارة "إمبراطور النمسا" جاءت على لسان الأب وموجهة إلى ابنه، ويحمل العمل بالإنجليزية اسم "This Little Father Obsession" ويترك لنا هذا الاسم القوس مفتوحاً بالاختيارات: يا تُرى ما هو هوس الأب وشغفه الذي يتحدث عنه العنوان؟ هل هو عشقه لفن السينما، ما يجعله منفتحاً أمام كاميرا ابنه التي تعري حقائق عائلتهم، أم هو شغف بابنه الشاب، الذي يحميه بطريقته الشرقية التي تخفي المشاعر، لكن تطل من خلف النظرات؟
فياسكو... دفء الأسرة الأمومية
في العام 2021، قدم المخرج نيكولا خوري في فيلمه "فياسكو" تجربة سينمائية تناولت موضوع المثلية الجنسية، ولكن بجرعة أكبر من الحميمية والدفء والذي عُرض أيضاً خلال فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي.
أبطال الفيلم هم الأم والأخت ونيكولا وكاميرا محمولة تشبه الشبح الذي يراقب أفراد الأسرة، وتلتقط أكثر لحظاتهم سعادة وأعمقها حزناً.
نتتبع هنا العائلة الصغيرة عبر مقاطع قديمة مصورة للأبناء وهم أطفال، لزفاف الأم، لفترة المراهقة، يأخذ المخرج بيدنا في البداية ليعرفنا على تاريخ عائلته، وكيف نمت هذه العلاقة القوية التي تجمع ثلاثتهم، وفي إيقاع متمهّل، يتقدم ويتراجع مثل الأرجوحة القديمة في فناء المنزل العائلي، نعرف أن كل ما نشاهده ما هو إلا تمهيد للحظة الحقيقة، عندما يُصرّح نيكولا بميوله المثلية لوالدته في جلسة هادئة، ومثل "إمبراطور النمسا"، تبرز نفس المخاوف والقلق من المجتمع، والأهم من الوحدة.
يعلو إيقاع الأرجوحة بارتفاع نبرة هذا القلق في بعض الأوقات ثم ينخفض مفسحاً المجال للاستمتاع بلحظات هادئة أو حتى كوميدية، تجمع بين الأخت الصريحة تمارا التي تستنتج ميول أخيها منذ البداية، ومشاهد طفولتهما الذكية والمنفتحة، وقلب الأم الذي يتسع لابنها بكل تناقضاته.
تكثر التشابهات التي تجمع هذين العملين، ولكن بعدها تتضح الاختلافات، فالبداية واحدة: مخرج سينمائي شاب، الكاميرا هي وسيلته المفضلة في السرد، يرغب في تسجيل هذه اللحظة المهمة في حياته، أن يوثق هذا الهدف الذي يسعى إليه كل منا، القبول المطلق، المحبة بلا شرط، ومن أهم من الأهل لطلب هذا القبول منهم؟
ولكن بعد ذلك تظهر الاختلافات التي تتركز بصورة أساسية على الطرف الآخر من المصارحة، بين الأب الذي يخشى على ابنه من مخاطر مادية واضحة، والأم التي تخشى عليه من مستقبل تسوده الوحدة، أن تذهب حياته كما قالت "فياسكو"، أي هباء بلا عائلة يستند إليها، وولد يرث جيناته.
لتبرز هنا معضلة كلا الشابين، التي تم التعبير عنها بشكل مختلف: بينما كان سليم يبحث عن تاريخ عمه بالتبني، الطريقة المثالية له ليحظى بنسل وأبناء وعائلة مثل تلك التي يمتلكها والده، ترغب والدة نيكولا منه أن يتزوج ولو بشكل صوري، لتضمن له مستقبلاً دافئاً.
هذا الطريق ليس هو أسهل ما يمكن أن يختاره إنسان، ربما تحمل رحلة الخروج من الخزانة مخاطر بالفعل، الطرق التي اختارها مخرجو هذه الأفلام تحمل الكثير من الجرأة بالتأكيد، لكن أليس لهذا السبب خُلقت السينما وسحرها؟
صنع نيكولا في فيلمه مجازاً بصرياً على الصراع الذي يجب أن يخوضه كل مثلي في حياته، فربط المقاطع التي يحاول فيها الارتباط بفتاة مناسبة، كما رغبت أمه، بماء النهر الهادئ الذي ينزله بلا قلق ولا مخاوف، ثم يختم الفيلم بمشهد له وهو ينزل إلى شاطئ البحر الغاضب، بصخور وعرة وطريق منزلق، ولكنه طريقه الخاص الذي اختاره لنفسه.
ويبرز بين هذين العملين فيلم "بشتقلك ساعات" بحالته المختلفة، فهو قطع أميالاً للأمام بتقديم علاقة حب مكتملة، بتوضيحه مستقبل لهذه العلاقات، ربما كإجابة للتساؤلات التي يطرحها فيلما "فياسكو" و"إمبراطور النمسا".
هذا الطريق ليس هو أسهل ما يمكن أن يختاره إنسان، ربما تحمل رحلة الخروج من الخزانة مخاطر بالفعل، الطرق التي اختارها مخرجو هذه الأفلام تحمل الكثير من الجرأة بالتأكيد، لكن أليس لهذا السبب خُلقت السينما وسحرها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون