زخّات الرصاص المصاحبة لانفجارات الصواريخ داخل الأزقة القديمة، دفع سهى الحمداني (46 عاماً)، إلى وصفها بمحاولات طائشة لاستبدال جمال الموسيقى بصخب العنف والدمار في مدينة الموصل العريقة بفنّها وتُراثها.
سيطرة داعش على الموصل في العام 2014، ومنعه الفن وإرهاب أصحابه، أحداث عايشها فنانو المدينة، حسب طالب الدراسات الموسيقية عمر الطائي، الذي يروي لرصيف22، كيف كان التنظيم يداهم البيوت بحثاً عن الآلات الموسيقية ويسجن مقتنيها، وكانت تصل عقوبة من يحتفظ بريشة العزف إلى السجن لمدة شهر مع الجلد، ما دفع بالأهالي إلى دفن آلاتهم الموسيقية و"نسيان" الموسيقى إلى أجلٍ لم يكن معروفاً.
انكفأ التنظيم عن المدينة، وسريعاً عادت إلى ما تُحب، إلى الفن والفرح والموسيقى بكل أنواعها. لم تنجح محاولات التنظيم لطمس تراث الموصل وحذفه من نفوس أبنائها الذي يعتزون بتاريخهم الفني الذي ينعكس اليوم مهرجاناتٍ وحفلاتٍ تصدح نغماتها على أطلال الأزقة المدمرة لتبعث فيها الحياة، كما هي في نفوس أبناء مدينة يهرعون لإحياء ما كان جميلاً.
إحياء التراث
تشهد مدينة الموصل وهي مركز محافظة نينوى والواقعة شمال غرب البلاد، عودةً تدريجيةً للحياة الفنية، إذ تزداد أعداد المهرجانات المقامة فيها، ومنها مهرجان الموصل للموسيقى التقليدية الذي تبدأ فعالياته في 24 من الشهر الجاري، بمشاركة أكثر من 17 فرقةً موسيقيةً من العراق ودول أخرى.
ويُعدّ هذا المهرجان الأول من حيث نوعه وحجمه منذ الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، حسب بسمة الحسيني مديرة مؤسسة العمل للأمل الراعية للمهرجان، والتي توضح لرصيف22، أن "النشاط تم بتمويل من الاتحاد الأوروبي وجزء من مشروع سماع العراق الذي أسسته مؤسستها بالتعاون مع مؤسسة الكتاب للثقافة والتعليم ضمن مبادرتي اليونسكو، إحياء المدن القديمة، وإحياء روح الموصل".
تبدأ فعاليات مهرجان الموصل للموسيقى التقليدية في 24 من الشهر الجاري، بمشاركة أكثر من 17 فرقةً موسيقيةً من العراق ودول أخرى
ويهدف المهرجان الذي يُصادف في أوائل الربيع، إلى إحياء الموسيقى التقليدية والفلكورية وإبراز خصوصيتها وجماليتها، وتحاول المؤسسة تحقيق ذلك من خلال تدريب العروض الفنية والحفاظ على استمرار فعالياتها بدلاً من تحولها إلى مواد أرشيفية.
تُشير الحسيني إلى أن "مساعي الناشطين الشباب خلال السنوات الأربع الماضية في إحياء المشهد الثقافي، بدأ يؤتي ثماره بممارسة موسيقية طويلة الأمد، خاصةً وأن مثل هذه الأنشطة تُعرف بجهود الفئات الموسيقية الشابة وتطوّر قدراتهم من خلال الاختلاط وتبادل الخبرات مع الفرق الموسيقية الاحترافية، وتالياً رفع المستوى الموسيقي ليس من الجانب الفني فحسب، بل لما يشكله من مصدر دخل وصناعة ثقافية تساعد في تنمية المدينة الاقتصادية".
ومؤسسة العمل للأمل هي منظمة غير ربحية تهتم بتقديم خبرتها ودعمها في المجالات الثقافية والفنية للشباب النازحين في مخيمات اللجوء والمجتمعات التي عانت من العنف في فلسطين والعراق والسودان.
ويشارك في مهرجانها المزمع انطلاقه هذا الشهر، موسيقيون كبار مثل عازف الكمان العراقي ليث صديق، والذي سيقدم عرضه بمشاركة ثلاثة عازفين إسبان، يستكشف فيه الروابط الموسيقية بين الأندلس والعراق، كما يقدم الملحن السوري الفرنسي فواز باقر مجموعةً غنائيةً من ألبوم "حلب بريست"، فيما تقدم الفرقة النابولية الإيطالية أغانيها التقليدية المجددة، بالإضافة الى طرح مجموعات موسيقية للمرة الأولى.
وتساهم أيضاً في هذا الاحتفال فرق عراقية شعبية مثل الأصيل وعثمان الموصلي وأم الربيعين التراثية، والفرق الشبابية الناتجة عن مشروع سماع العراق.
موسيقى الموصل
تُعدّ مدينة الموصل المحاذية للحدود السورية والتركية، والواقعة في أقصى شمال غرب البلاد، واحدةً من أعرق المناطق التاريخية، إذ تم استيطانها قبل أكثر من 6،000 سنة قبل الميلاد، وعُرفت من بدايتها بولعها الفني والذي يبدو واضحاً في نقوشها وتماثيلها الأشورية.
الجذور الموسيقية العميقة لهذه المدينة وتراكم تجاربها بالإضافة إلى لحن لهجتها المختلف عن بقية لهجات البلد، دفع نحو تطورها الموسيقي، وبرزت خلال العصر العباسي كأول من نظم الموشحات العربية ومنها جاءت المقامات الغنائية، ويُعدّ إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، وزرياب، من أبرز رواد تلك الحقبة.
يحاول مهرجان الموصل للموسيقى التقليدية أن يعيد شيئاً مما فقدته المدينة، من خلال ممارسة موسيقية طويلة الأمد، تُطوّر قدرات الشباب نتيجة اختلاطهم بفنانين عالميين، ما يُساهم في عودة الحياة إلى موطن الموشحات العربية
وحديثاً، ولدت الملا عثمان الموصلي صاحب الموشحات الدينية والملقب بشيخ الفنانين وهو شاعر وموسيقي معروف، أخذ من شعره وألحانه الكثير من رواد الغناء العربي، حسب مدير المركز الثقافي العربي الأوروبي زياد السنجري، الذي يشير إلى أن "المدينة شاركت في العديد من المحافل الموسيقية خارج القطر، وتركت بصمةً كبيرةً في تاريخ الفن العراقي والعربي".
وخرج من المدينة العديد من مشاهير الموسيقى مثل مؤسس معهد الفنون الجميلة الفنان حنا بطرس، وعازفي العود الشهيرين جميل ومنير بشير وعازف الكمان أحمد جوادي.
يوضح السنجري لرصيف22، أن "المدينة تعرضت لحروب ودمار عبر التاريخ، ولكنها نهضت وتنهض من جديد، وهي تمتلك أكثر من فرقة مسرحية وفنية وشاركت هذه الفرق في استقبال البابا فرنسيس في الموسيقى الوترية في أثناء زيارته المدينة عام 2021، وكذلك في إحياء الحفلة الموسيقية على ركام مسرح الربيع، وفي افتتاح مسرح جامعة الموصل أيضاً"، وهو ما يدفعه إلى التأكيد على أن "هذه الفرق الموسيقية تأخذ على عاتقها الريادة في هذا المجال نحو استعادة رونقها السابق، لأن الموصل تمرض ولكن لا تموت".
السياسة والفن والمدينة
لطالما كان الشعر المعبّر عن مشاعر الناس إزاء ما تمرّ به الموصل من أحداث، إذ يذكر المؤرخ سعيد الديوجي قصة رفض الأهالي لمحاولات ضم المدينة إلى الجمهورية التركية الوليدة، وعبّر عن هذه المشاعر الشاعر إسماعيل حقي الفرج، بقصيدة غنائية يقول في مطلعها:
لستِ يا موصل إلاّ دارَ عــزٍّ وكرامة
أنتِ فردوسُ العراق حبَّذا فيكِ الإقامة
أنتِ منه خـير جزءٍ خابَ مَن رامَ انقسامهْ
وعماد المجـدِ أنتِ فيهِ بكِ أقوى دعامة
أسهم ضعف الدعم المادي المقدم وغياب التغطية الإعلامية وعدم وجود تنسيق مشترك بين الجهات المعنية في تراجع الموسيقى بشكل لافت
في المقابل، تركت الخلافات السياسية أثراً بالغاً على الجانب الفني في المدينة أدى إلى تراجعه، إذ انشغل السياسيون بالصراعات على النفوذ والمناصب، ما أبعدهم عن العناية بالمثقفين ودعم الموسيقيين في الموصل والعراق بشكل عام، حسب الناشط المدني من محافظة نينوى علي سلمان (34 عاماً)، الذي اتهم وزارة الثقافة بالتقصير والانشغال عن إعادة رونق المدينة الفني.
لا يتفق المايسترو علي الخصاف مع هذا القول، إذ يرى أن وزارة الثقافة لا تتحمل وزر هذا التراجع وحدها، بقدر علاقة بقية المؤسسات الحكومية بدءاً من رئاسة الوزراء، مستدركاً أن ضعف الدعم المادي المقدم من الشركات والمصارف وغياب التغطية الإعلامية وعدم وجود تنسيق مشترك بين الجهات المعنية أسهم في هذا التراجع بشكل كبير.
يأسف الخصاف في حديثه إلى رصيف22، على أن "بلداً بحجم العراق وثقله الثقافي لا يملك سوى فرق فنية معدودة بالرغم من تنوع تراثه الفني بين الريف والبادية والمقامات الغنائية"، ولكنه يعرب بالرغم من ذلك عن أمله بعودة الفن إلى الواجهة من خلال المهرجانات التي شهدها البلد خلال الآونة الماضية، والتي من شأنها التشجيع على عودة العراق إلى الريادة الفنية.
تحاول المهرجانات الفنية إعادة الأمل بتراث العراق والموصل إلى نفوس المهتمين، وتساهم في محو تاريخ من الألم والمآسي، فهل تكون الموصل منطلقاً نحو علاج مرض الفن في أرض الفن؟ قد تكون الإجابة صعبةً، ولكن هناك من يُحاول قدر الإمكان بما أتيح له من إمكانات، كي تعود الموسيقى وتعود المدينة مكاناً للفرح والحياة والإبداع الفنّي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...