صديقي اللبناني الطيب القلب، الحاد العاطفة والذكاء والغضب، انتظر حبيبته في محطة القطار من دون سابق موعد. هذه الحبيبة الشقراء التي تركها قبل أسابيع خلت، اعتادت أن تزوره من مدينتها القريبة نسبياً كل أسبوعين، وهو اعتاد أن يلقاها في تلك المحطة عند كل زيارة. هذه المرة كان يأمل بأن تأتي من دون إعلامه. أن تفاجأه على رصيف المحطة، بل بالأحرى أن تتفاجأ به عند وصولها غير المنتظَر. لكنها ما أتت في ذلك المساء العاصف، على الرغم من أنه انتظر لأكثر من نصف ساعة بعد موعد وصول القطار على أمل أن تبزغ فجأةً من إحدى عربات القطار. ولكنها ما أتت. صديقي اللبناني الحاد العاطفة والذكاء، كان قد أرسل لها هديةً بعد انقطاع علاقتهما بأسابيع عدة. هدية تذكِّر بلقائهما الأول. أرسل لها إبريق ماء!
صديقي اللبناني الحاد العاطفة والذكاء، كان قد أرسل لها هديةً بعد انقطاع علاقتهما بأسابيع عدة. هدية تذكِّر بلقائهما الأول. أرسل لها إبريق ماء!
عندما التقى صديقي اللبناني هذه الفتاة الأمريكية للمرة الأولى، وبعد طول ساعات من تبادل الحديث والنظرات المشتعلة، صادف في مجرى الحديث والأحداث أن هذا اللبناني الفائض الروح والإحساس شرح لهذه الصبية الأمريكية مبدأ الزرنقة. مثّل لها كيف نتقن نحن سكّان شرق المتوسط، فن الزرنقة وهو فن جميل ومُبدع يمكِّننا من شرب الماء من الإبريق من دون ملامسة شفاهنا لفمِهِ. "يعني من دون قُبَل!"، قال للجميلة الأمريكية التي ضحكت للمثال وحاولت تقليد الجميل اللبناني. وما أدراهما بأن فشل محاولتها في الزرنقة مثلنا سيكون أول لحظة حب بين هذين الجميلين: المُزرنِق وغير المُزرنِقة. ولهذا، في ذكرى لقائهما السنوية، قام صديقي المشتعل العواطف بإرسال إبريق ماء لها وكله أمل بأنه سيُشعل فيها ذكرى لقائهما الأول وستركض الجميلة الأمريكية إلى محطة القطار، ركضاً، لتستقل قطارها المعتاد وتأتي لزيارته.
يا لخيبة رومانسية صديقي الحاد الذكاء، ويا لخيبة رومانسياتنا، نحن سكان شرق المتوسط، الهائمون حباً ببحرنا وزُرقة لونه والتائهون بحثاً عمن يلقى سيل عاطفتنا في مدن بعيدة عن دفء متوسطنا، لاهثين وراء زُرقة عيون غير المُزرنِقين. فنحن حادّو المشاعر وكأن أمواج المتوسط ورياحه نفخت فينا هذا القدر الهائل من اللوعة. يا لخيبة أملنا إذ كلنا ننتظر على محطة ما، مترقبين شيئاً ما أو شخصاً ما، من دون موعد لقاء. يا لخيبتنا وشقائنا في الانتظار.
نحن حادّو المشاعر وكأن أمواج المتوسط ورياحه نفخت فينا هذا القدر الهائل من اللوعة. يا لخيبة أملنا إذ كلنا ننتظر على محطة ما، مترقبين شيئاً ما أو شخصاً ما، من دون موعد لقاء. يا لخيبتنا وشقائنا في الانتظار
في انتظارنا أملاً، نحن نهمس لأنفسنا، ونطمئنها إلى أنه لا بد أن يأتي اليوم الذي يفهمنا فيه سكان هذه البلاد الباردة، قلباً وقالباً. نردد كالصلاة أنه لا بد أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه عشوائياتنا عاديةً، ونكتنا مُضحِكةً وكرم روحنا مألوفاً.
"هذا فن، أنا قلتُ لها"، أصرّ صديقي على تذكيري بإلحاحه في تذكيرها بأن أبسط عاداتنا اليومية فن. "فنحن مبدعون في فن المشي أكثر من فن الرقص، وفي فن الزرنقة أكثر من فن الشرب. شرب الكحول يعني"، أضاف صديقي للإيضاح لها وليس لي، فهو يعرف أنني أشاركه الغرام بفنوننا اللا متناهية.
"وهي قالت: مشان هيك أنا بحبك". كانت عيناه الحزينتان صافيتين عندما قال هذه الجملة الأخيرة. لم أدرِ إن كان قد ذرف دموعاً كثيرةً في عُزلة غرفته، أم كان من عزيزي النفس ذوي الدموع النادرة الظهور، والمدفونة عميقاً وراء صفاء مُكابِر.
أمعنتُ النظر في عينيه العسليتين. "لا ترموا درركم أمام ال…."، قلتُ له. "ال شو؟"، سأل وهو يحيل النظر عني. "اللي ما بيزرنق"، أجبتُ بضحكة صغيرة على أمل التخفيف عنه.
بقيت ضحكتي وحيدةً، ومعلقةً في هواء أواخِر آذار البارد، وصقيع شتاء الشمال يهزم أي أمل بالربيع. ظننته ما سمعني عندما طال صمته وتناثرت صفوة سيجارته على الدرج حيث جلسنا أمام بيته. وضعت يدي على كتفه وأنا أُفكر في العبارات المناسبة للتخفيف عن كسر القلوب المُحبّة وخيبات الأمل المتراكمة.
مثّل صديقي لحبيبته كيف نتقن نحن سكّان شرق المتوسط، فن الزرنقة وهو فن جميل ومُبدع يمكِّننا من شرب الماء من الإبريق من دون ملامسة شفاهنا لفمِهِ. "يعني من دون قُبَل!"، قال للجميلة الأمريكية التي ضحكت للمثال وحاولت تقليد الجميل اللبناني
"طلعت أنا اللي ما بستاهل"، بادرني بالكلام قبل أن يسحب آخر نفس من سيجارته شبه المُطفأة. "ضيعان هالإبريق المي فيها"، قال بجديّة صدمتني. "كنت عطيته لحدا بيفهم بالفن".
كلمات صديقي الحنون المُحِب تركت صدى عميقاً في الفراغ الصغير الذي يفصلنا، هنا على عتبة بنايته، في هذا اليوم الآذاري البارد، في هذه المدينة الصاخبة بوعود الحب، الطافية على شواطئ الأطلسي، ورياحه الباردة تخترق مسامنا، وتفشل مرةً بعد أخرى في إطفاء لوعة دمنا الحار وعواطفنا المشتعلة على الرغم من ثلوج الشمال.
"ممنونتك"، قلت له بصدق.
"على شو؟"، نظر إليّ بشك.
"على تقديرك للفن!".
هز رأسه بنفي المهزوم، المكسور القلب والجناح، وأطلق سبّةً قصيرةً يلعن فيها الفن والحب.
"ضيعان التعب"، قال وهو ينهض من مجلسه.
"عبالِك منقوشة؟"، سألني بإصرار من يرغب في طي الصفحة.
"وَلَو؟! بس وحدة؟"، قلت وأنا أقف إلى جانبه.
ابتسم للمرة الأولى في هذا اليوم الشتوي، فهكذا نحن، رومانسيي شرق المتوسط، نستمر. هكذا نخلق الفن من الخيبة، والحب من العدم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...