سعيد، اسم على مسمّى، شاب سوري ثلاثيني، يعمل كبائع قهوة في منطقة الأشرفية في لبنان. وكجزء من روتيني اليومي، أمرّ كل صباح من عربته لأبتاع فنجان قهوتي الصباحية، وأستمدّ الأمل والطاقة من ابتسامته التي تبعث على التفاؤل والطمأنينة. وبالرغم من ابتسامته العريضة، إلا أن عينيه تروي قصة مختلفة، قصة شاب نازح فقير يعيش في مكان لا ينتمي إليه ويصارع من أجل الحياة، من أجل البقاء والاستمرار.
في أحد الأيام وفي طريقي إلى العمل استقبلني بابتسامة كبيرة، قائلاً بحماس وسعادة غامرة: "باركيلي"، لأرد عليه بنفس الحماس: "على شو؟". ليقول: "إجاني ولد، صار عندي ست أولاد". صعقني الخبر واستوقفني للحظات تجمدت بها ملامح وجهي وسرحت في أفكاري وبدأت أسأل نفسي: هل حقاً يجب عليّ أن أهنّئه؟ هل يجب أن أفسد عليه سعادته لأوبّخه على هذا الفعل؟ هل بالأساس يحق لي أن أنتقده أو أنظّر عليه؟ مشيت ولم أقل شيئاً فكان الصمت خياري في تلك اللحظة.
موضوعات مواطنين ، لاجئين
ماذا لو كان سعيد رجلاً وطنيّاً يؤمن بمبدأ إنجاب جيل قادر على تعويض ما خسرته سوريا من الشباب خلال الحرب على أمل العودة وبناء الوطن من جديد؟
في طريق العودة تستقبلني بيسترو المنطقة في جلسات صباحيّة رائقة، ولكن اليوم كان الحديث عن سعيد بنظرة فيها شك وتردّد. ذلك الشاب السوري الفقير الذي لا يتوقف وزوحته عن الإنجاب، كيف سيستطيع إعالتهم في حين أنه ليس قادراً على إعالة نفسه؟ فكان الحديث عبارة عن مخاوف تشبه ما كنا قد سمعناه من قبل خلال أغنية "صرنا نحن المغتربين" التي عرضت في أحد حلقات برنامج "قدح وذم" على قناة الجديد عام 2018، وأثارت ضجة إعلامية واسعة. وزادت التصريحات الحكومية المعادية للسوريين الطين بلّة، إذ لم تعترف الحكومة اللبنانية بالسوريين كمواطنين أو لاجئين فتجردوا من حقوق الاثنين.
المفارقة في حالة السوريين في لبنان والكثير من اللاجئين تكمن في تعريفاتهم أمام السلطة، هم ليسوا مواطنين يتمتعون بحقوقهم كاملة والدولة مسؤولة عن حياتهم، وبعضهم غير مسجل في سفارة بلده سوريا، أي أيضاً ليسوا مواطنين تابعين لبلادهم الأصلية، وليسوا لاجئين بالمعنى القانوني للكلمة، كون لبنان لا يعترف بوضعية اللاجئ. أفكر هنا بموقف السلطة من حياة هؤلاء الأطفال الستة، التقارير تشير دوماً إلى تردي وضعهم، عمالة، حرمان من التعليم، إتجار بالبشر، كل التهم التي لم أستطع سوى تذكر ضحكة سعيد أمامها، هل هو مدرك لكل ما يحصل؟ هل أخذ مستقبل أطفاله بعين الاعتبار؟
وفي خضمّ هذه الأقاويل والأفكار حول المستقبل يظهر السؤال: هل نمتلك الحق بانتقاده؟
حق النسل والاستمرارية
جرّبت للحظة أن أفكر بسعيد وسبب ابتسامته العريضة وحماسه لنشر الخبر في محاولة لفهم فلسفته. لا بدّ من وجود أسباب منطقيّة، بالنسبة لسعيد على الأقل، وهي ما دفعته للإيمان بتكوين شجرة عائلية ذات تفرعات كثيرة. لربما يحاول أن يبني عائلة كبيرة تؤنسه وتخفّف من غربته، فيجد من يعينه في كبرته، فيكون ذلك استثماراً اقتصادياً له. وربما تكون قضيّة وجوديّة، إذا يحارب سعيد الموت بإعادة الحياة، وبالتالي نسله يضمن له استمراريّته ووجوده حتى بعد موته.
في لبنان ثمة ما يقارب خمسين ألف سوري جديد يولد كل سنة منذ عام 2015... حقيقة لا يمكن التغافل عنها في حالة الهلع المستمر حول حال البلاد ومستقبل اقتصادها
ولكن ماذا لو كان سعيد رجلاً وطنيّاً يؤمن بمبدأ إنجاب جيل قادر على تعويض ما خسرته سوريا من الشباب خلال الحرب على أمل العودة وبناء الوطن من جديد؟ وهذا مبدأ صادفناه في كل الحروب، إذ الرجال يقاتلون على الجبهات والنساء حوامل في الملاجئ فيكون ذلك استثماراً عسكرياً.
من جهة أخرى قد يقول كثيرون إن تكوين شجرة عائلة صغيرة مثمرة أفضل من شجرة كبيرة متيبّسة، مستندين إلى مبدأ التركيز على النوعية وليس الكميّة، فمن الضروري جدّاً وجود معايير اقتصادية واجتماعية تسمح بالإنجاب قبل أن نخطو هذه الخطوة غير المدروسة. والبعض يؤمن بمبدأ عدم الإنجاب، إذ يرون أن الحياة لعنة، خصوصاً إذا كان الطفل سيخلق بظروف مأساويّة، فلماذا ننجب أطفالاً إلى حياة لن يحصلوا من خلالها إلى على الألم، أليس من الأفضل أن "لا يوجدوا"؟
عن ميراث الأسرة
وفي حال لبنان، ثمة ما يقارب خمسين ألف مولود سوري جديد كل سنة منذ عام 2015، وبحسب إحصاءات قامت بها المفوضية بحلول نهاية عام 2020، تشير إلى أن 20% فقط من النازحين يمتلكون أوراقاً نظامية في لبنان، 73% من ولادات النازحين غير مسجلة. فما هو المستقبل الذي ينتظر هذا الجيل، جيل الخيم على وجه التحديد؟
هناك نوع من التقسيم، وأحياناً العنصرية، المرتبط بالإنجاب، هناك الفئة الواعية، المتعلمة، التي تمتلك السيادة على جسدها والقادرة على اتخاذ قرار الإنجاب بصورة عقلانية تتلاءم مع الوضع القائم، وهناك فئة تتهم بأنها لا تمتلك الوعي الكافي، وغير قادرة على اتخاذ القرارات الأصلح من أجل مستقبلها
هنا تتحرك بعض المؤسسات غير الحكومية لزيارة المخيمات والسؤال عن حاجات اللاجئين وحثّهم على تحديد النسل، من خلال توزيع أدوية وعقاقير تمنع الإنجاب، ويأتي ذلك من خلال إرضائهم ببعض المساعدات العينيّة، وهو ما يتضارب مع القيم والأخلاق التي يمتلكها سعيد وغيره من السوريين ويؤمنون بها. هنا أعود للسؤال الأول: هل نمتلك الحق في انتقادهم وفرض ما نراه صحيحاً عليهم؟ كثير من العائلات تحرص على الأنجاب إمّا للحفاظ على ثروة العائلة أو لنقل قيم وأخلاق معيّنة عبر الأجيال، فما الذي سيورثه سعيد أو غيره من اللاجئين السوريين لأبنائهم في ظل هذه الظروف الصعبة؟
هل يحق لـElon ما لا يحق لسعيد؟
بعد فترة قصيرة من إنجاب زوجة سعيد لطفلها السادس، تضج الصحف والأخبار بإعلان Elon Musk أنه أب لستة أولاد مؤكداً على عدم وجود عدد كاف من الناس وأنه إذا لم ينجب الناس مزيداً من الأطفال فسوف تنهار البشرية. لم يصدمني موقف إيلون بقدر ما صدمتني ردود أفعال العامّة والتي بادرت بنشر الخبر والترويج له، فلم أجد انتقاداً أو هجوماً عليه، على عكس سعيد الذي لربما يشاركه بنفس مبدأ الوجودية والاستمرارية. فهل يحق لإيلون ما لا يحق لسعيد؟
سعيد لم يخطئ، لكنه شارك جزئيّاً في خلق قصة تراجيديّة أدّت إلى إنشاء جيل المخيّمات الذي يتألف من لاجئين سوريين غير مسجّلين ومجرّدين من حقوقهم أو حتى من مغادرة مخيّمهم، كما هو الحال في مخيم الزعتري في الأردن، حيث يولد ما يقارب 12 إلى 15 طفل يوميّاً. المشكلة ليست شخصية أو محصورة بعائلة سعيد وإنما هي حالة اجتماعية مأساويّة، فحسب منظمة هيومان رايتس ووتش التي تؤكد بأن 500.000 من مجموع الأطفال السوريين في عمر المدرسة، نصفهم لا يدرس، ولا يحسن القراءة ولا الكتابة ولا الحساب. أي قيم تلك التي أورثها سعيد وغيره لأولادهم وأي مستقبل ينتظرهم؟
في حق الانتقاد
تمتلك الأسرة، أي مجرد وجود الأطفال لأب وأم، حصانة ضد أي انتقاد أو تفكير "عقلاني"، بصورة أدق، الحق الإنساني هنا بالإنجاب يتجاوز أي قيود اقتصادية أو سياسية أو حتى مخاطر طبيّة، هناك درع تاريخي ونظري يمنع توجيه أصابع الاتهام، الأمر يشبه بأن نقول لأحدهم عليك أن تقنن المياه التي تستخدمها كوننا لا نمتلك الكثير منها، بالرغم من ندرة المياه، ومآسي المستقبل المتوقعة بسبب ندرتها، لكن انتقاد "الشرب" لا يمكن التسامح معه، ذات الأمر مع الإنجاب، كل الأدلة العقلانية على المخاطر التي سيشهدها الأطفال و مستقبلهم غير المضمون، تقابل بالامتعاض الشديد، الإنجاب حق مقدس لا يمكن مساءلته، سواء كانت ممارسته أيديولوجية أو اعتباطيّة.
لا أحد يجرؤ على قول علينا التوقف عن إنجاب الأطفال ولو لبضع سنوات، كون الأمر يشبه أن نقول علينا قطع أنفاسنا لعدة ساعات في النهار لبضعة أعوام.
هناك نوع من التقسيم، وأحياناً العنصرية، المرتبط بالإنجاب، هناك الفئة الواعية، المتعلمة، التي تمتلك السيادة على جسدها والقادرة على اتخاذ قرار الإنجاب بصورة عقلانية تتلاءم مع الوضع القائم، وهناك فئة تتهم بأنها لا تمتلك الوعي الكافي، وغير قادرة على حكم نفسها، أو اتخاذ القرارات الأصلح من أجل مستقبلها، هذه الفئة التي يمكن تصنيف سعيد ضمنها، يجد من ينتقدها نفسه مجرداً من إنسانيته، بل ويتهم بأنه يتدخل في أجساد الآخرين، فإن لم تمانع السلطة ولم نمانع نحن، سحب الثقة من هكذا فئة أو النظر إليها بأنها أقل وعياً، يكشف عن عطب في أسلوب تنظيم المجتمع، حتى لو كان رديئاً، عنصرياً لا يعترف بالكل ويصنفهم إلى لاجئين ومواطنين و نظاميين وغير نظاميين.
السلطة "تسحب يدها" من هذه الفئة، و منظمات المجتمع المدني تقدم المساعدات وتغرس قيم "الوعي" وتوزع الواقيات الذكرية، لكن لا أحد يجرؤ على قول علينا التوقف عن إنجاب الأطفال ولو لبضع سنوات، كون الأمر يشبه أن نقول علينا قطع أنفاسنا لعدة ساعات في النهار لبضعة أعوام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...