"عايزة أبقى حرة" هو رد سلوى أحمد، بنت محافظة دمياط، على سؤال متصل بعملها في مهنة توصيل الطلبات في المحافظة شبه الريفية الواقعة على ساحل البحر المتوسط. سلوى هي الأولى بين شابات دمياط اللواتي اخترن تلك المهنة.
تبلغ سلوى من العمر 36 عاماً، وتقيم في مدينة رأس البر، لكنها لا تتنقل بسيارتها بين مدن دمياط وضواحيها فحسب، بل تقودها لتوصيل الطلبات خارج المحافظة عند الضرورة، برغم أن تنقّل النساء وسفرهن وحدهن غالباً ما يقابل بـ"عدم ارتياح"، خاصة في المجتمعات الصغيرة، مثل مجتمع مدينتها الهادئة معظم شهور العام.
أنهت سلوى تعليمها المتوسط قبل عدة سنوات، ولم تخض تجربة العمل من قبل. ومثل كثير من الفتيات اللواتي اخترن أو اختارت لهن أسرهن التعليم المتوسط، بنت تصورها لمستقبلها على الزواج ورعاية أطفالها المستقبليين. لكن تغيّراً في مجرى أحداث حياتها جعلها تلقي تلك الحياة التقليدية وراء ظهرها وتختار مهنة غير مألوفة.
مثل كثيرات اخترن أو اختارت لهن أسرهن التعليم المتوسط، بنت سلوى تصورها لمستقبلها على الزواج ورعاية أطفالها المستقبليين. لكن تغيّراً في مجرى الأحداث، جعلها تلقي تلك الحياة التقليدية وراء ظهرها وتختار مهنة غير مألوفة
"خسرت عريس وكسبت حلم"
تحكي سلوى لرصيف22: "منذ أكثر من خمس سنوات، لم تنته خطبتي بالزواج كما كنت أحلم وأخطط، بل انتهت بالانفصال واستعدت توازني بمرور الوقت. وبدأت التفكير بشكل مختلف في حياتي. وسألت نفسي عن الهدف الذي أعيش من أجله بعدما فشلت في الارتباط، وليس لدي وظيفة. لم يدم التفكير طويلاً. وكان القرار محسوماً تقريباً".
لم يكن الحلم التقليدي وحده سبباً في ابتعاد سلوى عن سوق العمل عقب إنهاء الدراسة، بل رافقه نفور من الروتين والوظائف التقليدية: "لا أتحمل أن يتحكم بي أحد".
فكرت في الإمكانات التي تتمتع بها، وأعانتها قدرتها على دقة الانتباه إلى ملاحظة احتياج النساء في محافظتها الصغيرة إلى وسيلة تنقّل آمنة. تروي: "أعرف بحكم احتكاكي بالشارع الدمياطي المحافظ أن الكثير من البنات لا يفضلن التعامل المباشر مع الرجال. فقررت أن أحول سيارتي لتاكسي خاص بالفتيات فقط. وكنت أول فتاة في دمياط تعمل في توصيل البنات والسيدات، وساعدتني السوشال ميديا كثيراً في الإعلان عن نفسي والتواصل مع العميلات".
رافق بدءُ سلوى في عملها الحر تحولات اقتصادية واجتماعية واسعة في دمياط، جرت في إطار التحولات الاقتصادية التي باتت مصر تشهدها. فمع دخول الدولة للعب دور المستثمر المنافس في صناعة الأثاث، تراجع عدد كبير من الورش والمصانع الصغيرة في دمياط، وفقدت أسر عمال وأصحاب ورش مصادر دخلها، ما دفع بمزيد من النساء للبحث عن فرص عمل، ومنهن من أسسن مشروعات صغيرة للمشغولات والملابس والمأكولات، ثم الترويج لها عبر وسائل التوصل الاجتماعي. تقول سلوى. "الفتيات وجدن فيّ طوق نجاة. فأغلبهن كن يدخلن في مشكلات بسبب تعاملهن مع الرجال في مجال التوصيل. وهكذا بدأت أتلقى طلبات توصيل المنتجات".
مع دخول الدولة للعب دور المستثمر المنافس في صناعة الأثاث، تراجع عدد كبير من الورش والمصانع الصغيرة في دمياط، وفقدت أسر في المدينة مصادر دخلها، ما دفع بمزيد من النساء للبحث عن فرص عمل
الجمع بين توصيل التلاميذ والفتيات إلى الجامعات في شهور الدراسة، وتوصيل السيدات والطلبات، جعلا ضغط العمل عليها كبيراً، لكنها لم تجد في ذلك سوى فرصة لمزيد من النجاح. أضافت: "مع زيادة الضغط اشتريت سيارة أخرى حتى يساعدني والدي في تلبية الطلبات في وقت الذروة. فأنا تقريباً أعمل مع كل فتيات الأونلاين في دمياط".
على الرغم من تحفظ الشارع الدمياطي، فإن استقبال الرجال عمل سلوى كان مفاجئاً لها شخصياً. قالت: "الكل رحب بي وشجع تجربتي الجريئة. وإن لم يخل الأمر في البداية من بعض المعاكسات والتعليقات السخيفة"، لكن إصرارها على النجاح أتاح لها تخطي جميع المعوقات إذ "لقوا بنت بميت راجل"، بحسب قولها.
الاسكوتر هو الحل
على بعد أكثر من 207 كيلومترات غرب دمياط، تبدأ حدود محافظة ساحلية أخرى هي الأسكندرية، التي تحفظ شوارع أحيائها العريقة صوت عجلات "إسكوتر" نادية عبد الصمد، التي قررت أن تؤسس عملها الخاص بعد الفشل في الحصول على وظيفة مناسبة.
تبلغ نادية من العمر 44 عاماً. درست التاريخ والآثار الإسلامية والمصرية بكلية الآداب. وفور تخرجها قبل نحو 15 عاماً عملت في مكتبة الأسكندرية. ومثلما حصل للكثيرات، اشترط المتقدم للزواج بها أن تترك العمل وتتفرغ للبيت. استجابت وتركت وظيفتها. ومع الوقت، دفعتها الحاجة إلى معاودة العمل لأن زوجها كثير السفر وهي لم تنجب أطفالاً. قالت: "لم يحالفني التوفيق في إيجاد عمل مناسب، فحاولت الاشتغال في بعض الأعمال اليدوية لكني مللتها سريعاً، وقادتني المصادفة إلى الحل المثالي".
مشهد قيادة النساء للدراجة البخارية الصغيرة المعروفة باسم إسكوتر غريب وغير مألوف في شوارع مصر، وسبق أن تعرضت نساء وفتيات استعملنه لحوادث عنف كادت تودي بحياتهن، بسبب قيادتهن وسيلة تنقل يعتبرها الرجال حكراً عليهم
خلال حوار دار بينها وبين صديقة لها تعدّ مشغولات يدوية، شكت صديقتها ارتفاع أسعار التوصيل في المدينة الكبيرة، وأثر ذلك على المبيعات. لمعت الفكرة في ذهن نادية وقررت على الفور أن تتولى توصيل طلبات صديقتها مستعينة بالإسكوتر الخاص بها. ثم انطلقت رحلتها مع التوصيل عام 2017 من حي ميامي حيث تسكن إلى شوارع الأسكندرية وأحيائها.
منذ البدء، وضعت نادية قواعد لا تنوي التنازل عنها. يجب أن تعرف محتوى الطرود التي تنقلها، وتتأكد أنها غير مخالفة للقوانين المرعية. ولا بد أن تعرف أيضاً المكان بالتحديد قبل الموافقة على قبول الطلب، لأنها لا تذهب إلى الأحياء البعيدة عن وسط الأسكندرية. وهي تعمل في مواعيد محددة. وتمنح نفسها إجازة أسبوعية.
لم يكن الأمر سهلاً في البداية، فإقناع زوجها الرافض فكرة العمل وكذلك إقناع أهلها كانا صعبين. أوضحت لرصيف22: "في البداية استغرب الجميع الفكرة طبعاً، لكن لما عرفوا طبيعة شغلي وإني مش هاتعامل غير مع السيدات والبنات فقط شجعوني. كانوا حاسين قد إيه أنا محتاجة الشغل. ولسه لحد دلوقتي بيدعموني الحمد لله".
مشهد قيادة النساء للدراجة البخارية الصغيرة المعروفة باسم إسكوتر غريب وغير مألوف في شوارع مصر، وسبق أن تعرضت نساء وفتيات استعملن وسيلة النقل هذه - في الأسكندرية نفسها- لحوادث عنف كادت تودي بحياتهن بسبب قيادتهن وسيلة تنقل يعتبرها الرجال حكراً عليهم.
لكن لنادية خطة خاصة لتفادي مثل هذه الحوادث. ما هي هذه الخطة؟ أجابت: "انتقائي للمناطق التي أعمل فيها، وتحديد ساعات العمل، من التاسعة صباحاً حتى الثانية ظهراً، وهذا ما جنبني الكثير من المضايقات. أعمل في الأحياء التي اعتاد الناس فيها مشهد ركوب البنت اسكوتر، لذلك لا أتعرض لمضايقات. بل على العكس أسمع عبارات التشجيع".
تحلم نادية أن تحوّل مشروعها الصغير إلى شركة شحن كبيرة. وهي فعلاً بدأت في خطوات تحويل الحلم واقعاً، إذ حصلت على سجل تجاري وبطاقة ضريبية وملف تأميني.
"عَ العجلة"
على الخطى نفسها، مشت رغدة سلامة (25 سنة) التي درست السياحة والفندقة في معهد خاص. وبسبب سكن عائلتها بدمياط الجديدة في حي بعيد نسبياً عن خطوط المواصلات العامة، قررت قبل سنة اقتناء دراجة هوائية لتساعدها في التنقل.
وقعت رغدة في غرام دراجتها. وأصبحت هوايتها المفضلة، على الرغم من أنها استغرق تعلمها القيادة الصحيحة بعض الوقت.
لم تكن تتخيل أن دراجتها الهوائية ستصبح رأس مال مشروعها الذي قررت أن تبدأه من دون النظر إلى العقبات المحتملة. حكت رغدة: "خضت تجربة العمل أكثر من مرة في غير مجال، لكنني لم أجد نفسي في أي منها. كانت أعمالاً إدارية عادية جعلتني أشعر بالملل سريعاً. لذا قررت أن أبدأ عملي الخاص. ولأني لا أملك سوى دراجة هوائية وجدت فكرة توصيل الطلبات مناسبة جداً. فأنا سأمارس هوايتي في ركوب الدراجة، وتالياً أجني بعض المال".
ثم بدأت في الإعلان عن نفسها عبر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال المجموعات الخاصة بمدينة دمياط الجديدة. لقي الإعلان قبولاً كبيراً من المتابعات. قالت: "تشجيع السيدات والرجال ساعدني كثيراً، وجعلني أتأكد أنني قد اتخدت القرار الصحيح. وما شجعني كثيراً هو دعم عائلتي".
استطاعت رغدة في فترة قصيرة تحقيق سمعة طيبة لدى تاجرات الأونلاين حتى إنهن رحن يطلبنها بالاسم، لأنها كما قالت: "لي أسلوب محبب بشهادة الجميع. أحافظ على تسليم طلباتهن مقابل بدل مدروس. وهذا كله وراء نجاح تجربتي".
برغم ما تحققه رغده من مكسب مادي، وهو قليل حتى الآن، فهي مثابرة على عملها هذا. ختمت: "عمري ما اهتميت بالفلوس. أهم حاجة أعمل شيء بأحبه، وكفايه إني مش ملتزمة بمواعيد محددة. ومديرة نفسي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون