كشفت الحرب في سوريا هشاشة المجتمع. بعدما كان يبدو أنه الأكثر تماسكاً في الشرق الأوسط، رأينا فئات من المجتمع السوري ترفع الأعلام التركية أو الإيرانية، بكامل إرادتها. مشهد سبق العراقيون واللبنانيون وآخرون السوريين إليه، ولاحقاً ضمّ آخرين.
تغيرات كثيرة حصلت تدلّ على اهتزاز العلاقة بين العروبة والإسلام، "ابن العروبة البارّ"، كما كان يصفه ميشيل عفلق، وتحولهما إلى منهجين مستقلَين، وفي بعض الحالات متعارضَين.
وفي مصر، عادت الحياة لتدخل في دوامة حكم العسكر من جديد، تحت مسمى تنفيذ مطالب الشعب بتنحية الإخوان المسلمين ورئيسهم المُنتخَب محمد مرسي. فبعدما كانت كل السلطات الأجنبية التي حكمت البلاد العربية تسعى إلى إعطاء حكمها شرعيةً دينيةً، باستخدام الإسلام، لضمان قبولها من الشعوب، مثلما فعل نابوليون عندما نشر شائعة إسلامه في مصر، أصبح الوجه الإسلامي للسلطة سبباً لخلعها في مصر.
وفي دول عربية أخرى، صار الانتماء إلى ولاية الفقيه الإيرانية، وإلى إخوة الدين في تركيا، يغلبان على الانتماء إلى الأوطان.
بوادر الطلاق
تعود بوادر الطلاق بين الإسلام والعروبة، إلى بداية تشكل الحياة السياسية عند العرب. عندما برزت الحركات القومية العربية، ظهرت بمظهر يساري علماني متأثر أحياناً بالشيوعية، وكان يقابلها تيار إسلامي محافظ يرى في العلمانية "المستوردة"، خطراً داهماً على الإسلام. لكن موازين القوى كانت مختلفةً، وكانت التيارات القومية توجّه تهمة معاداة القومية العربية والرجعية إلى كل خصومها السياسيين، بطريقة تشبه تهمة معاداة السامية التي يرميها الإسرائيليون على مخالفي سياساتهم.
واجه احتكار اليساريين للقومية العربية بعد الاستقلال، واستخدامها كرأس حربة في الدعاية لأفكارهم، واتخاذهم من القضية الفلسطينية قضيةً محوريةً تخص كل العرب، اتهاماتٍ من التيار الإسلامي بمحاولة سلخ المجتمع عن أصوله الإسلامية، وترويج الإلحاد، ما خلق فراغاً بين الإسلام والعروبة ما زلنا نعاني منه حتى اليوم.
ومنذ منتصف القرن الماضي، أثّرت السعودية، كونها المركز الأهم في العالم الإسلامي، سلباً، بموقفها من الحركات القومية، بسبب العلاقة الصراعية التي جمعتها مع الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، في مصر من جهة، ومع القوميين والعروبيين في سوريا الذين كانوا يرون في عبد الناصر وسيلةً لتحقيق أحلامهم الوحدوية، من جهة أخرى.
"تُركت شعوب الهلال الخصيب أمام خيارين لا يبدو أن هنالك ثالثاً لهما: إما التمسك بالانتماء الإسلامي تحت رايات تركية وإيرانية، أو التمسك بالانتماء الوطني القومي تحت رايات أنظمة فاسدة تابعة للغرب، من دون حلٍّ وسط بينهما"
قررت السعودية التعامل مع خطر التيارات العروبية المرتبطة فكرياً بالمعسكر الاشتراكي، بالاتجاه نحو الغرب ممثلاً ببريطانيا سابقاً، وأمريكا لاحقاً، لتحصل على ضمانات باستمرار النظام الملكي، مقابل تأمين مصالح هذه الدول في المنطقة.
تخلت السعودية عن أداتين مهمتين تساعدانها في الحفاظ على مكانتها بين العرب والمسلمين، وهي أولاً عزوفها أواسط القرن الماضي عن دعم التيارات العروبية، لا بل عملها على تحجيمها، كما رأينا في حرب اليمن بين الشمال الإخواني "الرجعي"، والجنوب الشيوعي، وثانياً اتجاهها مؤخراً نحو التخلي عن الإسلاميين، حتى تتمكن من تقديم نفسها بصورة تناسب التطلعات الغربية كمملكة مواكبة للعصر.
وساهمت في تعميق الفصل بين العروبة والإسلام في الآونة الأخيرة، إستراتيجية إسرائيل الحالية القائمة على الترويج لنفسها كصديقة للشعوب المسلمة، وطرحها نماذج إسلاميةً جديدةً تحت عنوان التسامح، قوامها رجال دين خليجيون، في محاولة لتنحية مشاهد انتهاكاتها المتكررة لحقوق المسلمين ومقدساتهم في فلسطين، والتخلص من الشعور الذي يربط المسلمين بمقدساتهم في الأراضي الفلسطينية، فلا تعود بحاجة إلى إخفاء ممارساتها، بل تصير قادرةً على إظهار الفلسطينيين والعرب المناصرين لهم كعائق في وجه الاستقرار والتطور والتقدّم.
الطريقة التي أدارت بها السعودية خلافاتها مع اليساريين العرب، خوفاً على عرشها من اليسار المعادي للأنظمة الملكية، دفعتها إلى مكان بعيد عن الشعوب العربية، وجعلت مهمة خلق نفوذ سعودي في هذه البلاد مستحيلةً من دون تمويل ضخم. وإذا كانت قبل سنوات تمتلك ورقة الشحن الديني الذي يوفره مركزها الإسلامي، فإنها تتجه مؤخراً نحو الاستغناء عنه، لتنفي عن نفسها صفة التشدد أمام الضامن الغربي.
هكذا، سقطت السعودية في فخ تحجيم نفوذها في المنطقة العربية، وتركت المشهد العربي الإقليمي للقوى الإقليمية غير العربية، إيران وتركيا.
بين تركيا وإيران
في المقابل، استخدمت تركيا ولا تزال، القوة الناعمة المستمدة من الإرث الحيّ، ولو نسبياً، لدى شريحة واسعة من المسلمين السُنّة في سوريا ولبنان ودول أخرى، الذين يرون الدولة العثمانية خلافةً إسلاميةً قبل كونها دولةً تركيةً.
من هذه المنطلقات، سعت تركيا إلى استغلال كل من الفراغ القيادي الذي تركه إسقاط صدام حسين في وجدان كثيرين من السنّة العرب، والشعور بالاضطهاد لدى سنّة سوريا الذين يرون أنفسهم محكومين من أقلية علوية.
"سعت تركيا إلى استغلال كل من الفراغ القيادي الذي تركه إسقاط صدام حسين في وجدان كثيرين من السنّة العرب، والشعور بالاضطهاد لدى سنّة سوريا الذين يرون أنفسهم محكومين من أقلية علوية"
وفي سوريا، تدخلت أنقرة بشكل مباشر واقتطعت لنفسها، عبر وكلاء، قسماً من البلد. تعاملت المعارضة السورية معها كراعية لمسلمي سوريا وكحامية لهم، في مواجهة نظام اشتراكي-علماني-علوي، وقدّمت كافة أنواع التنازلات لضمان الدعم التركي، وصولاً إلى التنازل عن الهوية القومية للشمال السوري، ورفع الأعلام التركية بجانب العلم السوري، وأحياناً فوقه على المباني الرسمية.
وفي لبنان، استغلت شعور الخوف لدى سُنّة لبنان من تحجيم قدرتهم على المشاركة في صناعة القرار لحساب التيار الشيعي الصاعد بقوة، لتعود مظاهر التتريك إلى الواجهة في بلاد الشام، بعد نحو قرن من سقوط السلطنة العثمانية.
من ناحية أخرى، ظهرت إيران على الجانب الآخر من العالم الإسلامي، بصفتها مركز الثقل الأهم للشيعية السياسية، لتواجه تركيا، في تكرار لمواجهات الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية، ولتحاول فرض سيطرتها على شيعة العالم العربي.
تميزت الممارسات الإيرانية بالمباشرة، والميل إلى استخدام وسائل أقل نعومةً من تركيا، لتثبّت وجودها في وعي المواطن العربي، عبر تمويل جماعات تدين علناً بولاية الفقيه كمرجعية سياسية أولى، فضلاً عن كونها مرجعيةً دينيةً، وتسليحها.
"أمعنت إيران في محاولات التخلص من المرجعيات الإسلامية الشيعية الخارجة عن إدارتها، لا سيما في العراق ولبنان، فأصبح أغلب المسلمين الشيعة العرب يظهرون وكأنهم جنود تابعون لأيديولوجيا الحرس الثوري، حتى لو كانوا مدنيين"
وأمعنت إيران في محاولات التخلص من المرجعيات الإسلامية الشيعية الخارجة عن إدارتها، لا سيما في العراق ولبنان، فأصبح أغلب المسلمين الشيعة العرب يظهرون وكأنهم جنود تابعون لأيديولوجيا الحرس الثوري، حتى لو كانوا مدنيين، وذلك نتاج سنين طويلة من الشحن والتجييش الذي يبدأ بالإعلام ولا ينتهي بالتحجج بحماية المقدسات الشيعية في الدول العربية.
اللافت في الأمر، أن كلا الطرفين، الإيراني والتركي، يعملان على تسخير القضية الفلسطينية، وتعويمها كشأن إسلامي، بالاعتماد على القدسية الإسلامية للأراضي الفلسطينية والنصوص الدينية الموجهة ضد اليهود بوصفهم لا يكنّون للإسلام إلا العداء، بالإضافة إلى الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ذوي الأغلبية المسلمة، وما تحمله العقلية الصهيونية في صميمها من عنصرية صريحة ونظرة دونية إلى العرب لا تخفيها محاولات إسرائيل الإعلامية لترويج نفسها كصديق للشعوب العربية.
تُركت شعوب الهلال الخصيب أمام خيارين لا يبدو أن هنالك ثالثاً لهما؛ إما التمسك بالانتماء الإسلامي تحت رايات تركية وإيرانية لأجل القضية الفلسطينية، أو التمسك بالانتماء الوطني القومي تحت رايات أنظمة فاسدة تابعة للغرب، من دون حلٍّ وسط بينهما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...