اعتدت أن أتحسس رأسي، كلما سمعت أن مؤسسات الدولة، سواء الدينية أو غيرها، تنوي اتخاذ خطوة ما لتجديد منظومة الفقه الإسلامي. هذا ليس سوء نية، بل هو يقيني من أن أي تجديد لن يكون من خلال تلك المؤسسات التي أثبت التاريخ أنها أول من تعارض التقدم، وآخر من تلحق بركب الحضارة.
لذلك، بمجرد قراءتي عن مشروع قدّمه رئيس اللجنة الدينية في مجلس الشيوخ المصري، يطالب فيه بتقديم تفسير عصري للقرآن الكريم، بحثت عما يريده الرجل، وإن كان المطلب في حد ذاته دليلاً على أنه أخيراً هناك إدراك بأن التفسيرات القديمة لم تعد تصلح، وهذا في حد ذاته إنجاز، أضف إلى ذلك إشادة مفتي الجمهورية بتلك الخطوة.
أوضح يوسف عامر، مُقدّم المشروع، أن مقصده هو تفسير جديد للقرآن، بلغة مبسطة تتلاءم مع الأجيال الجديدة، بالإضافة إلى تقديم حلول للأزمات الأخلاقية والاجتماعية التي يعيشها المسلمون اليوم، مثل التفكك الأسري والطلاق والزيادة السكانية، بجانب إزالة المفاهيم الخطأ التي تتخذها الجماعات التكفيرية ذريعةً للإرهاب، وبالطبع من يتولى تلك المهمة هو الأزهر الشريف.
ما قاله الرجل، لا يختلف كثيراً عما تراه الدولة "رؤيةً" لتجديد الخطاب الديني، لكن الحقيقة أن كل ذلك ليس له علاقة بالتجديد، بل إعادة تدوير للأفكار نفسها والمشكلات ذاتها في ثوب عصري، لتظل الإشكاليات قائمةً بين فقه عفّى عليه الزمن، وأجيال جديدة تحتاج إلى من يحاورها بآليات العصر.
الحقيقة هي أن كل ذلك ليس له علاقة بالتجديد، بل إعادة تدوير للأفكار نفسها والمشكلات ذاتها في ثوب عصري، لتظل الإشكاليات قائمةً بين فقه عفّى عليه الزمن، وأجيال جديدة تحتاج إلى من يحاورها بآليات العصر
وللتوضيح، فإن تقديم تفسير عصري للقرآن، كما أرى، يجب أن يقوم منذ البداية على أساس أنه ليس أكثر من اجتهاد مؤسسة أو دولة في تقديم رؤية جديدة للنص الديني، وتالياً هو ليس الصحيح الوحيد، أو المُقدس الذي يجب عدم الاقتراب منه، لأن ذلك ما حدث في التفاسير الماضية كافة، والتي أصبحت تابوهات لا يمكن الاقتراب منها.
ضرورة ذلك منذ البداية، أنه يجعل الباب مفتوحاً للتفاسير الأخرى، بجانب حق النقد والاختلاف، ولن نخترع العجلة بهكذا فعل، فالعائد إلى تفسير الطبري للقرآن، وهو أحد كتب التراث، سيجد عشرات التفسيرات التي قدّمها الصحابة للآية الواحدة، على الرغم من مجاورة معظمهم النبي، ولم يسبب ذلك أي مشكلات أو اتهامات، ولم يجد الطبري مبرراً لحذف أي رأي، قبل أن تظهر في الوجود الكتب ذات التفسير الواحد، والعقل الواحد، وهي كتب حرمتنا من آراء أدهشتني حين طالعت ما أورده الطبري، وفي اعتقادي أن النبي محمد لم يضع تفسيراً محدداً للقرآن، لهذا السبب بالتحديد؛ أن يترك حركة الاجتهاد متاحةً للجميع.
الخطوة الثانية، والأهم لتقديم تفسير عصري للقرآن، تتعلق بضرورة قراءة النص الديني في سياقه التاريخي، أي معرفة أحوال البيئة التي احتضنت تلك الآيات، وظروفها وعاداتها، بدلاً من الاكتفاء بأسباب النزول التي توضح ظروف كل آية فحسب. فمعرفة كل هذا تجعلنا نقيّم ما إذا كانت الآية تصلح لزمننا هذا، أم أنها انتهت بانتهاء مقتضيات عصرها، كما حدث مع الرقيق وملك اليمين والمؤلفة قلوبهم، بل يمكنني القول إنه من دون السياق التاريخي لن يختلف أي تفسير عما تقدمه الجماعات الإرهابية التي تستند إلى آيات كان لها سياقها التاريخي، وانتهت بانتهائه، ولن أبالغ بالقول إنه في حالة حدوث ذلك ستتغير منظومة الفقه التي اعتمدت على آراء يعود تاريخها إلى نحو ألف عام.
النقطة الثالثة والحتمية لمخاطبة عقول القرن الواحد والعشرين، هي التعامل مع القرآن الكريم كونه كتاب هداية، وليس كتاباً علمياً، أي أننا لن نجد فيه حلاً لمشكلاتنا الاجتماعية، أو مفتاحاً سرياً لوقف حالات الطلاق -هذا إن عددنا الطلاق مشكلةً- كما يرى رئيس اللجنة الدينية في مجلس الشيوخ المصري، ورأت من قبله الجماعات الإرهابية حين بحثت عن أسباب الغلاء في القرآن، فوجدت الحل في "حجاب النساء"، ووقتها هاجمهم الكثيرون على التفسير الخطأ، ولم يسألهم أحد لماذا تفتشون في القرآن أصلاً؟
واستكمالاً لتلك النقطة، فإن قصص القرآن يجب أن تكون حاضرةً أيضاً في أي تفسير عصري، إذ إنها تمثل جزءاً كبيراً من القرآن يصل إلى الثلث في بعض الأقوال، وحتى وقت قريب كان يتم التعامل مع قصص الرسل والأنبياء كحقيقة مُسلّم بها، لكن مع ازدهار علم الأركيولوجيا وإثباته أن وقائع كثيرةً لم تحدث علمياً، صار الجدل على أشدّه بين العلم والدين.
ولأن هذا الصراع مستمر، وفيه الكثير من الآراء، فإننا على الأقل يجب أن ننحاز إلى التفسيرات المتوازنة التي ظهرت بسبب هذا الجدل، والتي خرجت برؤية مفادها أن قصص القرآن قد تكون ذُكرت على سبيل العظة والتعلم، وليس بالضرورة أنها حدثت، وهذا في كل الأحوال لا ينتقص من النص الكريم في أي شيء
ولأن هذا الصراع مستمر، وفيه الكثير من الآراء، فإننا على الأقل يجب أن ننحاز إلى التفسيرات المتوازنة التي ظهرت بسبب هذا الجدل، والتي خرجت برؤية مفادها أن قصص القرآن قد تكون ذُكرت على سبيل العظة والتعلم، وليس بالضرورة أنها حدثت، وهذا في كل الأحوال لا ينتقص من النص الكريم في أي شيء.
تلك النقاط السابقة، والتي يُمكن الإضافة إليها بالطبع، هي ما يفتح الباب لتقديم تفسير عصري حقيقي، قادر على التعامل مع العلوم الحديثة من دون عداء، والأجيال المقبلة بما يلائم تفكيرها، وما تراه في زمن القنوات المفتوحة، لا أن تتم إعادة التدوير تحت مصطلحات براقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه