تمنع صديقتي زوجها من دخول المسبح المختلط، وهذا بالنسبة إليها قرار غير قابل للنقاش. تتحاشى البحيرات والشواطئ، وتهرب منها بعيداً. تقول إنها تغار، ولا تستطيع تحمل فكرة أن زوجها قد يرى نساءً بملابس السباحة، أو أن يرى إحداهن تستمع بجلسة تسمير تحت أشعة الشمس.
في أحد الأيام، قالت لي إنها لا تغار، بل إن مشكلتها الحقيقية تكمن في أن يرى نساءً حقيقياتٍ تحت ضوء الشمس.
"كيف سيرى امرأةً تحت الضوء، ولم يرَني إلا على ضوء الشمعة؟"، قالت.
تخاف إيمان من المقارنات. تقف أمام المرآة فلا ترى سوى علامات تمدد الجلد، وجرح القيصرية، والكلف البني، والشعر الزائد، بينما لا ترى في أجساد الأوروبيات سوى الكمال، أو الصورة النمطية عنها. لا تقتنع بأنهن أيضاً يمتلكن تجاعيد ودهوناً وخطوط ولادة.
"لماذا لا نراها بوضوح؟"، تسأل.
"لأنها تفاصيل لا تُرى بسهولة... نحن فقط من نرى أجسادنا بهذا الوضوح والتدقيق"، أجيبها.
تلهث إيمان خلف الجسد المثالي للمرأة، الجسد الذي صدّرته لنا أوروبا خلال سنوات طويلة بالإعلانات والمسلسلات وعروض الأزياء والأفلام، ثم فجأةً تصالحت الأوروبيات مع أجسادهن، ورمين كل خطط التسليع في القمامة، فيما غرقنا نحن فيها
تغرق إيمان في المقارنات، وتبتعد عن المرايا وانعكاسها على زجاج المحال التجارية. تلهث خلف الجسد المثالي للمرأة، الجسد الذي صدّرته لنا أوروبا خلال سنوات طويلة بالإعلانات والمسلسلات وعروض الأزياء والأفلام، ثم فجأةً تصالحت الأوروبيات مع أجسادهن، ورمين كل خطط التسليع في القمامة، فيما غرقنا نحن فيها. ربما يعود هذا لارتفاع أسعار عمليات التجميل في أوروبا. فربما قد تكلِّف عملية تجميل الأنف هنا سبعة آلاف يورو، بينما قد تكلِّف في بلادنا ألفاً واحداً.
نحن لا نتعامل مع أجسادنا بأريحية أبداً، وكأننا لا ننتمي إليها. نشعر دائماً بنقص ما علينا إخفاؤه. شيء ما يجب ألا يراه أحد، ولا حتى شريكنا.
تتابع إيمان مئات الصفحات على فيسبوك وتيك توك وقنوات يوتيوب، التي تتحدث عن البدائل الطبيعية للتنحيف، وتكبير الصدر، ونعومة الشعر، فتجدها تارةً تدهن فخذيها بزبدة الشيا، وتدهن ثدييها بالنشا والبيض، وتنقع وجهها بأقنعة العسل والقهوة، وتخصص مصروفاً لشراء كريمات تخفي آثار الحبوب والكلف.
يا إلهي... ما أقسى هذا الشعور الذي يجبرك على تغيير شيء ما فيك، يشبه تماماً أن تقتلعي نفسك من الداخل، وتشتهي تركيب وجه جديد، أو مؤخرة أخرى.
تقول إيمان إنها تهرب بالفلاتر في الصور ومكالمات الفيديو، وتشعر بشيء من الرضا حين ترى وجهها صافياً برّاقاً، وشفتين مكتنزتين، وأنفاً مرسوماً. تصدّق لولهة أنها هي.
ثم تصفعها الكاميرا الأمامية بوضوح تام، وغياب الفلتر.
ليست إيمان وحدها. نحن الشرق أوسطيات غالباً ما نعاني من مشكلات حقيقية مع فكرة الضوء، الضوء القوي الذي يكشف تفاصيل أجسادنا، فنهرب إلى الملاءات، ونشعل شموعاً حمراء، ثم نختبئ في قمصان نومنا.
أيضاً يشعر بعض الرجال بالخجل من أجسادهم، فيبلعون كروشهم، ويصبغون الشعر الأبيض المتناثر، ويحلق بعضهم شعر صدره ليتخلصوا من منظر الكثافة.
نحن لا نتعامل مع أجسادنا بأريحية أبداً، وكأننا لا ننتمي إليها. نشعر دائماً بنقص ما علينا إخفاؤه. شيء ما يجب ألا يراه أحد، ولا حتى شريكنا.
تتهافت إعلانات عيادات التجميل في تركيا وإيران كل يوم أمامنا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ نحت جسد، وإذابة دهون، ونفخ صدر، وشد بطن، وتصغير أنف، وزراعة شعر...
وقفت أمام المرآة كثيراً، وحاولت تخيّل شكل وجهي عندما أقص من أنفي خمسة سنتيمترات، وتخيلت مؤخرتي وهي محشوة بكتل من الشحوم، وراسلت مراكز التجميل في تركيا
عروض مغرية تتضمن حجوزات طيران، وإقاماتٍ فندقيةً، وتحاليل، وسيارةً من المطار إلى المشفى. شيء ما يخبرنا كل يوم بأن علينا الخضوع لتلك الجراحات. شيء ما يدخل رؤوسنا، ويحفر أننا لسنا مثالياتٍ ومثاليين علينا أن نركض للجمال.
أن نشد وننفخ ونعصر ونقبع ونزرع، لنصير جميلات!
وقفت أمام المرآة كثيراً، وحاولت تخيّل شكل وجهي عندما أقص من أنفي خمسة سنتيمترات، وتخيلت مؤخرتي وهي محشوة بكتل من الشحوم، وراسلت مراكز التجميل في تركيا.
لقد جروني إليهم. لا أعرف كيف ولا متى، فصرت أشعرني غريبةً، أحتاج إلى عشرات التدخلات العاجلة لأصير أنثى كاملةً. منذ أن أنجبت بناتي وأنا أعاني من نحافة شديدة، ولا أكتسب وزناً.
طبيبي أخبرني بأن أموري سليمة، وهذا بسبب الرضاعة الطبيعية، لكنني أخاف من الشارع والضيوف والضوء!
أن نشد وننفخ ونعصر ونقبع ونزرع، لنصير جميلات!
في كل مرَة أقابل فيها شخصاً يسألني باستغراب: "ليش هيك؟ نحفااانة!؟ يييي لك متل نكاشة الأسنان، عصا بلياردو!".
تعليقات كثيرة منها ما هو على سبيل الضحك والمزاح، ومنها ما هو على سبيل ثقل الدم والحشرية، لكنها لم تكن تمرّ مرور الكرام.
كنت أعود إلى مرآتي، وأتفحص جسدي، وأبكي أحياناً، وآكل علب الشوكولا، وأبلع الخبز الأبيض لكنني لا أسمن!
لماذا يرمي الآخرون نكاتاً على شكل أجسادنا؟ ما المتعة في أن تخبر أحدهم بأنه نحف، أو ازداد وزنه؟ كأنهم يعتقدون بأننا لا نمتلك مرايا في بيوتنا، ولا موازين. كلمات يرمونها في أذاننا ويرحلون، ثم تبقى كلماتهم تدور حولنا كدوامة من الاحتمالات والصراعات. وعلى الرغم من كل الثقة التي اكتسبناها بالتجارب والتمارين، إلا أن كلمةً واحدةً تسقطنا أرضاً.
نتحدث مع صديقاتنا، ونرفع معنوياتهن، ونتغزل إن لزم الأمر. نقسم بأنهن جميلات وحقيقيات ورائعات، ونلقي خطباً عن الثقة بأهمية حب الذات وتقبّلها، وفي الليل، قبل المرايا والعناق، نطفئ الأضواء، ونشعل شمعةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...