لربما كان الوجه الإشراقي المتوهّج الباسم هو المراد له أن يصبغ الاحتفاء بالشاعر والكاتب ورسّام الكاريكاتير والسيناريست المصري متعدد المواهب صلاح جاهين (1930-1986)، إذ جاء الإصدار التذكاري الذي تم إطلاقه حديثاً عن سيرته الشخصية ومسيرته الإبداعية بعنوان "صلاح جاهين... الضحكة الرايقة" (مؤسسة الأهرام، مجلة نصف الدنيا، سلسلة "رموز مصرية")، ما يحيل في المقام الأول إلى مكامن الفكاهة والمرح والدعابة في تجربته الخصيبة الزاخمة.
لكنّ هذه المناسبة الاستعادية، التي يطلّ من نافذتها الأديب والفنان المخضرم على واقعنا الآني، لا يمكن أن تمرّ هكذا مروراً عابراً، من دون مساءلتها، ومساءلة صُنّاعها، ومساءلة صاحبها نفسه: أيُّ حضورٍ لصلاح جاهين يلائم يومنا الحالي ويليق بتفاصيله ومستجداته؟ هل هو حضور جاهين كمتحمس وثوري وإصلاحي ومناضل بالقلم؟ أم حضوره كضاحك وواثق وثابت على مبادئه؟ أم كساخر ومتمرد ومنتقد؟ أم حضوره الأخير كمنكسر ومكتئب نفسيّاً، ومن ثمّ كمنعزل ومنسحب ومتنصّل من قديمه ("قفّلي على كل المواضيع")، ومبشّر بأن الدنيا الجديدة "ربيع" والجو "بديع" والحياة "بقى لونها بمبي"؟!
الحقيقة أن انسداد الآفاق في هذه اللحظة الحرجة المأزومة، وبلوغ الأوضاع الثقافية والفنية، إلى جانب الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، حد الاختناق، وتصاعد منحنى المعاناة إلى الذروة بين صفوف الطبقات المتوسطة والفقيرة التي تمثل أغلبية الشعب، وتدنّي المستويات المأمولة في سائر القطاعات المهمة والحيوية من تعليم وصحة وما إلى ذلك، إلى جانب انحسار هوامش الحرية وفرص التنفيس ومجالات التعددية في الفكر والرأي، هي كلها، وغيرها، مسوّغات ومبررات لأن يكون استحضار صلاح جاهين على النحو المثالي الآن من خلال نبوءاته السوداوية في المراحل الأخيرة من حياته.
أيّ حضورٍ لصلاح جاهين يلائم يومنا الحالي ويليق بتفاصيله ومستجداته؟ هل هو حضور جاهين كمتحمس وثوري وإصلاحي ومناضل بالقلم؟ أم حضوره كضاحك وواثق وثابت على مبادئه؟
هذا كله جعل القول (أيّ قولٍ) يبدو فعلاً ماضياً، وتتعطل لغة الكلام وجماليات الخطاب والبيان أمام فداحة ما يجري على الأرض، وصراحته البذيئة، ويستوي الندم والسكوت و"الهَلْس"، إذا جاز التعبير، بمعنى ملء الفراغ المحيط باللاشيء أو بالفقاقيع الهشة التي لا تملك بدورها غير فراغها الداخلي.
لم يتحمل صلاح جاهين المرهف مرارة هزيمة 1967، وانهيار الأحلام الكبرى والشعارات العريضة والمقولات الطنانة، واستشعر أنه جزء لا يتجزأ من صناعة الخديعة وبيع الأوهام، شاء أم أبى.
فإذا بالوطني المتمرد، المحارب بالكلمات، وصاحب "يا أهلاً بالمعارك" و"على اسم مصر" و"صورة" و"والله زمان يا سلاحي"، و"راجعين بقوة السلاح" يستسلم للحزن العميق والصدمة المباغتة والوحدة القاسية والمرض النفسي (شخّص بعض الأطباء حالته بالاكتئاب الحاد، والاضطراب الوجداني ثنائي القطب، وتحدّث البعض عن محاولته الانتحار أكثر من مرة).
وفي محبسه داخل هذه الشرنقة، التقط جاهين أطراف خيوط الخريطة الجغرافية والتاريخية والبشرية التي سوف تكون، فجاءت إنتاجاته في تلك الآونة إبحاراً صوب المستقبل القريب، وتعبيراً عن عصر سيعيشه أبناؤه وأحفاده، بكل ما فيه من تراجعات وإخفاقات، واهتزاز للمعايير والقيم، وتخلّ عن القضايا المصيرية، الجماعية والفردية، وتحقير للإرادة والعزيمة، وترويج للاستهلاك والتسليع و"تكبير الدماغ" وثلاثية "طنّشْ تعشْ تنتعش" إزاء المعوّقات المستعصية والتحدّيات الجادّة.
لم يتحمل صلاح جاهين المرهف مرارة هزيمة 1967، وانهيار الأحلام الكبرى والشعارات العريضة والمقولات الطنانة، واستشعر أنه جزء لا يتجزأ من صناعة الخديعة وبيع الأوهام
وبغض النظر عن العوامل النفسية والمَرَضية، والدوافع الأخرى التبريرية الساذجة (تسلية الناس بعد هزيمة 1967، وإسعادهم بعد انتصار 1973، إلخ)، فإن جُملة أعمال جاهين المحسوبة على "الفَرْفَشَة" و"التكسُّب" في هذه الفترة المتوترة من حياته، هي الإرهاصات العجائبية التي تتسلل بتلقائية إلى تشريح أنسجة مرحلتنا الزمنية الراهنة، إذ يجري التدليس لقلب الحقائق والمفاهيم، وتحلية شروط العيش المتقشف بمكسبات طعم باطلة، وتغطية ما هو راسخ وأصيل وجوهري ومستقل لإبراز ما هو عابر وتجاري ومبتذل وانتهازي.
تحت هذه المظلة، التي تكاد تخصنا في العهد الجديد أكثر من كونها تخص صلاح جاهين في يومه، تمخّضت الكوميديا السوداء عن مجموعة من الأفلام السينمائية التي تحمّس لها بين الكتابة والإنتاج وتأليف الأغنيات، منها "خلي بالك من زوزو" و"أميرة حبي أنا"، إلى جانب فوازير رمضان، وسيناريو مسلسل "هو وهي"، وغيرها.
ويمكن اختزال هذه المنظومة المغايرة في تجربة جاهين ببعض اللمحات المكثفة والإشارات الدالّة، كأغنية "الحياة بقى لونها بمبي" من فيلم "أميرة حبي أنا"، التي استفزت الكثيرين وقتها، ومنهم صديقه الشاعر نجيب سرور، صاحب مقولة العتاب الشهيرة "بمبي يا صلاح؟!".
سينكر هؤلاء المعترضون هذا التوجه نحو تخدير الشعب وتناسي الدوائر المتشابكة "بوسة ونغمض وياللا... نلقى حتى الضلمة بمبي"، في الوقت الذي كان المصريون يعانون فيه آلام الحرب وذكرياتها المريرة، ويحتاجون إلى رفع روحهم المعنوية وشحذ الهمم وتعزيز الوعي والانتماء وإثارة قضايا وطنية وتنموية وسياسية.
أغنية "الحياة بقى لونها بمبي" استفزت الكثيرين وقتها، ومنهم صديقه الشاعر نجيب سرور.
وكذلك أغنية "الدنيا ربيع" في الفيلم ذاته، التي تتجاوز في إسقاطاتها بطبيعة الحال إعلان حلول الربيع وعيد شمّ النسيم، موحية بأنّ كل شيء في البلاد قد بات على ما يرام، ولا مجال لطرح أي "موضوع" ثقيل أو دسم أو مثير للجدل أو المناقشة أو إبداء آراء مختلفة في لحظة مجانية تحكمها الخفة والنشوة والمادية والاكتفاء بالاستمتاع الحسّي "الدنيا ربيع، والجو بديع، قفّلي على كل المواضيع".
وفي سبيل ذلك، تساق بين ساعة وأخرى قائمة منجزات هلامية وانتصارات ورقية وأرقام فضفاضة، وتنجرّ أقلام المثقفين المدجّنين والإعلاميين المنقادين إلى اختلاق ما هو زائف ومضلل، والتعمية على ما هو موجع ومؤسف من أحوال متردية.ما يجري حالياً، ببساطة، على أرض الواقع في مصر، والكثير من دول المنطقة التي لم ينجح فيها "الربيع العربي" في تحقيق وضعيات أفضل، هو الإلحاح على الإيهام بمجيء ربيع آخر مزعوم وطقس مُحَبّب و"عصر بمبي" في كنف الإرث السلطوي الممتد، والاستقرار الكائن.
ويتجاوز هؤلاء الأبواق، الذين يصفون الجنّة القائمة، خيالات صلاح جاهين في تبشيره بالربيع والبمبي، إذ لا يكتفون برسم صورة منافية للحقيقة، والاستماتة في الترويج الدعائي لها، بل إنهم يضعون من لا يقتنعون بهذه الصورة، أو يرون صوراً أخرى غيرها، في دوائر التشويه، والتشكيك في وطنيتهم وإخلاصهم، وربما يتهمونهم بقصر النظر وعدم القدرة على تنسُّم الربيع وتلمُّس اللون البمبي!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...