"يلا، يلا، نغنّي ونفرح"؛ هكذا أشعلت الفنانة اللبنانية أليسا، أجواء مسرح السندباد في العاصمة بغداد التي زارتها مؤخراً، وأقامت فيها حفلاً غنائياً.
وبينما كانت أليسا ترقص وجمهورها على مسرحٍ في العاصمة، كانت تحركات تجري في قضاء المقدادية في محافظة ديالى، لتنفيذ "جريمة" بحق عدد من المدنيين. قُتِل في هذه "المجزرة"، التي وقعت أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، 15 مدنياً على يد تنظيم "داعش"، وفقاً للرواية الحكومية.
حصلت الانتخابات البرلمانية في العراق، وانتهت بخسارة الفريق المحسوب على إيران، وتحديداً الحشد الشعبي، لتقوم هذه "الأحزاب" بالتهديد بحمل السلاح خلال تظاهرة عند بوابة المنطقة الخضراء المحصّنة، احتجاجاً على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، أو بالأحرى على خسارتها.
في الوقت نفسه، كان الفنان محمد رمضان يُحيي حفلاً غنائياً بالقرب من نصب الشهيد، في شرق بغداد. لم يبتعد الحفل عن الأجواء العراقية؛ كان يُغنّي: "مافيا، أنا مافيا". جُملة تُعبّر عن كثيرين من أصحاب النفوذ في العراق.
لم يبتعد حفل الفنان محمد رمضان عن الأجواء العراقية؛ كان يُغنّي: "مافيا، أنا مافيا". جُملة تُعبّر عن كثيرين من أصحاب النفوذ في العراق
خضعت هذه الأحداث المتزامنة جميعها لـ"سُلطة الجماعة". جماعة تُقدّم محتوىً فنياً وُصف بـ"الهابط، ويسعى إلى مكاسب اقتصادية على حساب الفن"، وأخرى رفعت السلاح، وقوّضت وتُقوّض سلطة القانون.
جرّب العراقيون خلال الـ18 عاماً الماضية حياةً مضطربة. انتقلوا في لحظة واحدة من نظام ديكتاتوري شمولي لا يستطيعون فيه أن ينتقدوا رئيسه حتى لو كانوا في منازلهم، إلى نظامٍ اعتقدوا أنه "ديموقراطي"، يستطيعون فيه انتقاد رؤساء الجمهورية والوزراء والبرلمان، متى رغبوا في ذلك، لكن في حقيقة الأمر، لا يُمكن لأحد انتقاد كل أصحاب النفوذ الحاليين، أو على الأقل طرح تساؤلات عن وظائفهم السياسية والدينية، وكذلك ثرواتهم التي كبرت على حساب الناس، وحقوقهم.
انتقل العراقيون من مرحلة الخوف من انتقاد الرئيس وحزبه في بيوتهم "خوفاً من الجدران"، إلى "التفاخر" بانتقاد بعض من أتوا بعده
كان العراقيون يتداولون قولاً من صنع خيالهم: "لا تتحدث بسوء عن صدام وحزبه، حتى لو كُنت في بيتك، فللجدران آذان تسمع". الخوف الممنهج لدى العراقيين، أجبر الأجيال الجديدة على أن تعيش الرعب تلقائياً، لكن اليوم لم يبقَ الحال على ما كان عليه، فالعراقيون يُريدون الجدران، والجميع، أن يسمعوهم.
انتقل العراقيون من مرحلة الخوف من انتقاد الرئيس وحزبه في بيوتهم "خوفاً من الجدران"، إلى "التفاخر" بانتقاد بعض من أتوا بعده، من خلال وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن تكون هناك مرحلة بين جدران الخوف في المنازل ووسائل الإعلام التي يقولون من خلالها ما يشاؤون.
الأشياء والمناسبات والأحداث العراقية، تحدث من دون معايير. الحفل الغنائي في العراق، ليس مثلما هو في أي بلد آخر. الاحتجاج على السلطات كذلك الأمر. حتى الدولة العراقية، تتجاوز على الدولة.
لم يمرّ العراقيون بمرحلة انتقالية تُساعدهم على نسيان الماضي، أو التهيّؤ لحاضر يُمهّد لمستقبل "ديموقراطي". صُدِموا بالتحول الذي عاشوه، فحوّل مرحلتهم الانتقالية إلى مرحلة اضطرابات مستمرة.
الحفل الغنائي في العراق، ليس مثلما هو في أي بلد آخر. الاحتجاج على السلطات كذلك الأمر. حتى الدولة العراقية، تتجاوز على الدولة.
يحدث أنه في مدينة واحدة، هناك أشخاص يحتفلون بإعادة تأهيل شارع المتنبي الثقافي في بغداد، وفي الوقت نفسه، يُحاول عراقيون اقتحام مطار بغداد، احتجاجاً على "عدم السماح بوضع نصبٍ لنائب رئيس هيئة الحشد الشعبي الراحل أبي مهدي المهندس".
لا يندرج هذا الواقع تحت مُسمّى التنوّع، فالاحتفالات "الكبيرة" بإعادة تأهيل شارع المُتنبي، كانت غريبة. نُخب تفرح ببعض الترميمات في شارع صغير على الرغم من كُبر أهميته، بينما تحولت الأزقة والأحياء التي تُحيط به، وكأنها مكبّات نفايات.
كانت النساء والأطفال، ومعهم الرجال، يحتفلون بليلة ذكرى ميلاد السيد المسيح، وهناك على بعد مسافات منهم، أشخاص يحملون السلاح، ويهددون الحكومة وسط بغداد
قبل هذين الحادثين بليلة، كانت النساء والأطفال، ومعهم الرجال، يحتفلون بليلة ذكرى ميلاد السيد المسيح، وهناك على بعد مسافات منهم، أشخاص يحملون السلاح، ويهددون الحكومة وسط بغداد، وبعضهم قطع شجرةً عُمرها عقود من دون سبب.
الصحافيون وغيرهم، لا يستطيعون أن يصفوا العراق، أو بغداد تحديداً، بحالةٍ واحدةٍ في وقتٍ واحد. لكل مساحة جغرافية وصفها الخاص. لكل جماعة وضعيتها. ولكُل حيّ تقلّباته وأزماته. مدينة تعيش على اضطرابات أهلها.
أثّرت هذه الاضطرابات على حياة كثيرين من العراقيين، وعلى سلوكياتهم. في العراق هناك كُثر يدعون لإنفاذ القانون، لكنهم هم أنفسهم، وعند أقلّ خلاف، يُهددون بعشيرتهم، وربما بجماعة مسلّحة. يُبررون ذلك بـ"ضعف القانون، وعلى الإنسان أن يحمي نفسه، لأن لا دولة تحميه". يتمنى العراقي شيئاً، ويفعل شيئاً آخر، وفي الوقت نفسه بإمكانه أن يجد المبرر الذي يُخرجه مما فعله.
يقول الباحث العراقي عمر الجفال، لرصيف22، إن "العراقيين ليسوا أفراداً، هم مجموعات، بعضها أوغل في الأجندات الطائفية، وشعور المؤامرة يُسيطر عليها، لكن الغالبية الكبرى منهم ما زالت تبحث عن الحياة". ويضيف: "هم يفتقدون المهرجانات والموسيقى والصخب. هؤلاء الغالبية يبحثون عن حياة طبيعية مثل تلك التي يرونها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو التي يشاهدونها في الأخبار".
الغالبية يبحثون عن حياة طبيعية مثل تلك التي يرونها على مواقع التواصل الاجتماعي، أو التي يشاهدونها في الأخبار
ويتابع الجفال، الذي يُركّز في أبحاثه ومقالاته على قضايا المجتمع والسياسة: "في آخر الأمر، القلّة القليلة من العراقيين هي من تسعى وراء الأجندات التي تنزّ دماً، أمّا الغالبية منهم فيريدون الحياة؛ حياة بسيطة ومتنوعة فحسب".
عندما غنّى محمد رمضان في بغداد، بقميصه المفتوح، تحوّل الحفل إلى مثار جدلٍ كبير. سياسيون، ورجال دين، وجماعات مسلحة، انتقدوا الحفل بشدّة، وعدّوه "فسقاً". من يقرأ هذه الانتقادات، يعتقد للوهلة الأولى أن البلاد خضعت فعلياً لجماعة "تأمر بالمعروف، وتنهى عن المُنكر". لكن الحقيقة الأخرى، أن النوادي الليلية في بغداد "محمية من جماعات دينية مسلّحة"، وفقاً لسياسيين عراقيين.
يقول المحامي العراقي إسماعيل كريم: "لا أعرف ماذا يحدث في العراق. سلطة السلاح فوق سلطة القانون. الناس يستشيرون شيخ العشيرة ورجل الدين في قضايا تتعلق بالدولة والقانون، بينما لا يستشيرون أصحاب الاختصاص".
سلطة السلاح فوق سلطة القانون. الناس يستشيرون شيخ العشيرة ورجل الدين في قضايا تتعلق بالدولة والقانون، بينما لا يستشيرون أصحاب الاختصاص
ويضيف: "بعد يومين من محاولة اغتيال الكاظمي، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أوقفني رجل أمن في نقطة تفتيش، وألحّ عليّ كثيراً بالأسئلة، وطلب بطاقتي التعريفية، وكان يُشكك في صحتها، لكنه فتح الطريق العسكري المغلق لسيارة سوداء مضلّلة، عليها شعار أحد الفصائل المسلحة، مبتسماً في وجوههم".
يخضع العراق اليوم لسلطة الجماعات؛ جماعات دينية وقومية وعشائرية وسياسية ومسلّحة، تفرض سلوكياتها على الجميع. وسط ذلك كله، تقف الدولة متفرّجةً، وكأنها تلعب دور موظف المحاسبة الذي يبيع النفط، ويعود في نهاية الشهر لتسليم الموظفين رواتبهم. غير آبهٍ بكل ما يحدث لهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...