شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
من الجبن التخلّي عن حزننا

من الجبن التخلّي عن حزننا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 10 ديسمبر 202104:47 م


قالت لي سارة حجازي يوماً بأن الكتابة، كسيرةٍ مشاكسة، هي التي ترفعنا نحو السماء، وهي التي بمثابة "حضنٍ كبير". كانت ترفق رسائلها الدائمة، قبل انقطاعها، بـ"حضنٍ كبير"، ولا ضعف من تكرار أن سارة صدقت عندما أخبرتني بأننا نُجبَر على الاختباء من العالم، ومن بعضنا؛ نلجأ إلى أنفسنا، وإلى حزننا فحسب.

عندما اختبأت سارة، لم ألُمها، لأنني اعتدت عدم سؤالها عن مساحتها التي غفت عندها، وكأنها حضنٌ مسامحٌ لكل الحزن الذي تشاركناه. ولأن "نصّنا المشترك" لم يُكتب حيث قاسته ظروف الاعتقال والمنفى، فكان لا بد بعد عامٍ من "الصدمة"، ومن احتضار من أحبّهم، وموتهم أمامي، أن أنسجم مع تألّمي، وأبتسم لصورة سارة الضاحكة: "قصّصت شعري a' la garc'on".

قالت لي سارة حجازي يوماً بأن الكتابة، كسيرةٍ مشاكسة، هي التي ترفعنا نحو السماء، وهي التي بمثابة "حضنٍ كبير".

بعد موت أكثر الأشخاص الذين نحبّهم في هذا العالم، نكلّل لحظات فراقهم، وننشرها كعبق البخور. يرحلون أمام صخبنا، علّه ينعش صمتهم الأبدي، نحن الشاهدين على انتحار أصدقائنا في هذا الوطن العربي، بأنظمته الحاكمة علينا بالإعدام. استسلمت لسخائه من القبح والموت، وامتنعت عن قراءة النعايا الملصقة عند حائط عمارات المدينة الموحشة والمهدّمة. كما أنني تغيّبت عن السهر، والتواجد في الأماكن المكتظّة بالفرح والنشوة، كما لو أنني أمتنع عن الخروج إلى العالم، قصاصاً وانتقاماً لأحبائي، فأصبحت أخافه، وأتجنّب الشعور بالطمأنينة، كي لا أُحبَط مجدداً، أو أُخذَل.

أهزأ بتمارين طبيبتي النفسية، التي كان هدفها تقبّل موتهم، وإنهاء حديثٍ كانوا هم محوره، باستبداله، من خلال الاعتراف بعدم مسؤوليتي عي رحيلهم مبكراً، ومواجهة صورهم العالقة في ذاكرتي، وكأنها وهمٌ ممدّدٌ يجتذبني أكثر إلى قعره البائس، فيفوّت عليّ متعة العمر المتبقّي لي.

أكره استبعادهم، حتى بعد رحيلهم، من دون حقيقة أننا عشنا أشقياء بسبب حاجتنا الدائمة إلى استرجاع ولو بعضٍ من طيفهم. أما أنا، فأجدّد شقائي كلما دخلت إلى محادثتي مع سارة، لأسمع صوتها عبر تسجيلٍ تخبرني فيه عن تعاستها اليومية التي تقترب من تعاستي، فأنظر إلى سماء من آمنت براحتها "فوق"، وأنا التي لم أرَ السماء قبل انتحارها.

بعد موت أكثر الأشخاص الذين نحبّهم في هذا العالم، نكلّل لحظات فراقهم، وننشرها كعبق البخور. يرحلون أمام صخبنا، علّه ينعش صمتهم الأبدي، نحن الشاهدين على انتحار أصدقائنا في هذا الوطن العربي، بأنظمته الحاكمة علينا بالإعدام

رهبة الموت تكمن في التخلّي، ولطالما شعرت بأن وجودي قرب من أحبّ، لا شك في أنه سوف ينتشلهم من تلك الغصّة العالقة في داخلهم، حتى أراهم يشهقون آخر ما تيسّر لهم من الحياة. كل هذا الخيال، وكل هذه الهلوسة بالنجاة، في رأسي فحسب. لعلّ قرب المسافة، والتصاقي بهم، يصعّبان الرحيل، ولا يؤجّلانه. لا بدّ من التخلّي والابتعاد، قبل تلك الرّجفة، وقبل تلك اللحظة الصارمة في إنهاء هذه المهمة، وهي "البقاء"، فأحياناً علينا بالتراجع، واللا اكتراث. علينا بالانسحاب ودّياً.

أصدّق صوتي الجهوري حين بات خيطاً يتموّج بألوانه، فيصل إلى سماء سارة التي لم تعد تحدّثني عن إعجابها، وميولها، واضطراب نطقها أمام الناس، وعن الحبّ والتشرّد في هذا العالم المطبّع مع ظالميه؛ الحبّ الذي يمرضنا. أسمع في الحبّ كلّ جميلٍ، ولكن ليس فيه أي مديح. هو الذي يشتت روحنا بعد رحيلهم. ليس في الحبّ أي مديح بعد موتهم، وليس فيه أيّ معنى سامٍ بعد كل هذا الألم والضياع.

عندما دخل صديقي في غيبوبة، لم تكن على مسمعي سوى كلمات طبيبه: "ما منعرف إذا ح يفيق"، ودعاء أمي المعافي، لعلّه يأتي ثواباً في شفائه. كان كتفها الذي انحنيت باكيةً عنده، مخلّصاً في اليوم التالي، أو أن الحب هو من أنقذني من لحظة الشعور بالخطر، خطر الفراق الذي لن يرأف بقلب صديقي، وقلبي.

أعاود التواصل مع سارة، وأسألها: من أين لك كل هذا السحر، وأنت تكتبين وصيّتك؟ من أين لك هذا الحب، بعد يقينك بأن هذا العالم مستبدٌ ومعتدٍ؟ ومن أين لك هذه الموسيقى في أذني؟ لعلّه غناء صديقي إلى جانبي، ينتظر حجّةً منّي، كي أستعيد لطفي وشغفي

هو الحب الذي رافقني قبل رؤيتي إيّاه ممدداً، وكبقية أسرّة المستشفى التي لا تتسع لقلبين، لأنها باردة ومجحفة ومتمرسة في الانفصال. كنت أنظر إلى سماء سارة، وأقول لها من أين لنا كل هذه التعاسة يا عزيزتي؟ من أين نأتي بكل هذا الرحيل؟ أم نحن الذين خلقنا من تعاسة آبائنا، نتجرأ على الحلم، فتراودنا صور ومشاهد بعيدة عن واقعنا "المميّز"، كطائرٍ رقيقٍ يحلّق، ولكنه بعد مسافةٍ سيتهاوى كما أحلامنا، وكما حاولت طبيبتي النفسية أن تقنعني بأنني أستطيع أن أنتج الأمل بعد موتهم، ولكنني لم أعد مهتمةً أو متفائلةً، فاكتفيت من تمارينها، وتوجّهت نحو صديقي لأقبّله، وأقابله وهو نائم، من دون خبر، لأطلب منه ألا يتركني وحيدةً، لأن لا أمل من بقائي بعد مغادرته، ولا حبّ في هذا الموت السريري.

أعاود التواصل مع سارة، وأسألها: من أين لك كل هذا السحر، وأنت تكتبين وصيّتك؟ من أين لك هذا الحب، بعد يقينك بأن هذا العالم مستبدٌ ومعتدٍ؟ ومن أين لك هذه الموسيقى في أذني؟ لعلّه غناء صديقي إلى جانبي، ينتظر حجّةً منّي، كي أستعيد لطفي وشغفي. حين ماتت قطة جدّي الحسناء، خلّفت وراءها سبعة أرواح. علمت بأنها، وأخيراً بعد محاولات عدة لها لعبور الشارع، تعسّرت تحت إطارات شحنٍ كبير، فانزلقت قبل إطعامها، وقبل رؤية جدّي، متبنّيها، أدركت بأن فألاً سيصيبنا بعد هذا الدم المتناثر عند طريق منزلنا. رأيت جدّي بعدها بأيامٍ يسقط عن كرسيّه، قبل إنهاء فريضة صلاته، مصدراً صوتاً كالمواء. وإذ به يختنق بمواء قطّته "ميمي". وجدت جدّي قريباً من تلك الدماء، وكأنّ قطّته تهديه أرواحها السبعة التي لم تهدرها امتناناً له، ولكي يبقى صامداً حتى وصول الإسعاف. مواء جدّي، واستغاثة أمي: "عيطيلن ينقذوه!". والوقت المتبقّي لي أمام احتضاره، إذ تحول كل هذا الصخب إلى مواءٍ بسبعة أرواح. كالمعجزة هي صلاة جدّي؛ انقلبت إلى مواءٍ يعلوه بكائي، واعتذاري عن زلّة لسانٍ، والكثير من الندم على فرصٍ فاتتني، فحسبتها متأخرة.

برأيي، من الجبن التخلّي عن حزننا، ومن العار الخروج من غرفة محبينا، من دون حفظ رائحتهم، وترداد أسمائهم.

كان جدّي ممدداً كصديقي، من دون حركة، ومن دون غناءٍ، ومن دون موسيقى، أي من دون ضوء. لا أمل بعد العبور نحو السماء يا سارة. كل هذا العزاء، تهديدٌ باشر جسدي وعقلي في احتوائه، فشُلّ توازني، وبدأ صدري يضيق، ليتسّع لعالمٍ من الفراغ والقساوة. تمرّ علينا أسماءٌ لضحايا غرباء، فنتسامح مع مصائبنا، ونتناساها بغية الحذر من الغرق في دائرتنا المحدودة، ولكن جلّ ما نخشاه هو حقيقتنا وصدقنا، والحقيقة أن لنا أسماءً أيضاً، ولنا ذاكرة، ولنا أحداثاً علينا بأن نحييها. لهذه الأسماء وجوه عانقتنا، على الرغم من احتضارها. كانت ترانا كما لم يرأف بنا أحد، وكانت ترعانا قبل رحيلها، وتتصدّق علينا برحمة الغياب.

برأيي، من الجبن التخلّي عن حزننا، ومن العار الخروج من غرفة محبينا، من دون حفظ رائحتهم، وترداد أسمائهم. أصدّق أن الأسماء، كما الرائحة، تحيا، وأن للذاكرة نعيمها، على عكس منفاها. هناك من يستحضر حزنه، كما لو أنه مرتكبٌ تلك المذبحة، فيتلعثم عند سماع أيّ اسم، ولهذا، فإن الحب باهتٌ ومسموم بعد موتهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard