بعد عداء استمرّ تسع سنوات، وصل نائب رئيس الإمارات، محمد بن زايد آل نهيان، إلى أنقرة، حاملاً إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حقيبةً تحتوي على ملفات دسمة، أبرزها سلسلة من الاتفاقات الاستثمارية تصل إلى عشرة مليارات دولار أمريكي، وفقاً لوسائل إعلام تركية وإماراتية، لتُطوى مرحلياً صفحة الخلافات الكبيرة بين البلدين، وكان أبرزها اتهام تركيا لبن زايد بتورطه في محاولة الانقلاب على أردوغان، عام 2016، للإطاحة به.
مهّد لهذا الحدث اتصال هاتفي من أردوغان (الذي قال قبل عام إن تركيا قد تقطع العلاقات الدبلوماسية مع أبو ظبي، بسبب إقامة علاقات مع إسرائيل)، بحاكم أبو ظبي يوم 30 آب/ أغسطس الماضي، سبقته زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد، لأنقرة، في 18 آب/ أغسطس، لتبدأ مرحلة جديدة من العلاقات بين البلدين.
في يوم وصول بن زايد إلى تركيا، أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أنه سيسافر إلى أبو ظبي في كانون الأول/ ديسمبر المقبل، "على الأرجح لتمهيد الطريق لزيارة أردوغان"، وفقاً لما ذكرته وكالة الأناضول شبه الرسمية في تركيا.
تسع سنوات من الخلافات السياسية، من دون انقطاع التبادل التجاري بين البلدين، تنتهي بتوقيع تسع اتفاقيات مهمة، لكن كيف بدأت الخلافات وتطورت؟
تسع سنوات من الخلافات السياسية، من دون انقطاع التبادل التجاري بين البلدين، تنتهي بتوقيع تسع اتفاقيات مهمة، لكن كيف بدأت الخلافات وتطورت؟
بدأت الخلافات بين البلدين تظهر علناً، مع تدخل الجيش المصري لإقصاء الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، المنتمي إلى الإخوان المسلمين، وهي جماعة تُشكّل هاجساً دائماً لأبو ظبي، وتحاول محاربتها، ومنع تمددها داخل الإمارات وخارجها. وبعد الإطاحة به عام 2013، اتّهم إعلام الإخوان الإمارات بدعم القوى المناهضة لحكمها، مثل حركة "تمرد"، وغيرها.
استضافت تركيا لاحقاً عناصر جماعة الإخوان المصرية، ومسؤوليها، وسمحت لهم بفتح قنوات تلفزيونية عديدة على أرضها، تشن حملاتٍ عنيفةً على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لتعود تركيا وتطلب من إعلام الإخوان، عقب مفاوضات إعادة التطبيع بين البلدين، التي جرت بين أنقرة والقاهرة في مصر، في أيار/ مايو 2021، مثل قنوات "الشرق"، و"مكملين"، و"وطن"، بتخفيف تغطيتها السياسية الانتقادية للحكومة المصرية.
الإعلان عن الاستثمارات الإماراتية أوحى وكأنها زيارة محض اقتصادية، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، على الرغم من تعويل أبو ظبي وأنقرة على التعاون الاقتصادي بين البلدين، في وقت يواجه فيه كلا البلدين مشكلات اقتصادية
أواخر عام 2019، اتهمت تركيا المسؤول الأمني الفلسطيني السابق، محمد دحلان، المقيم في أبو ظبي، بلعب دورٍ في محاولة الانقلاب على أردوغان. أما ثالث المحطات البارزة في الخلاف بين البلدين، فجاءت مع نشوب الأزمة الخليجية عام 2017، حين قامت السعودية والإمارات والبحرين ومصر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر، وإلغاء مشاركة الأخيرة في التحالف العربي الذي يقود الحرب في اليمن، وإغلاق المنافذ البرية والجوية مع الدوحة، ليصادق البرلمان التركي بعدها بيومين، على معاهدة للتعاون العسكري بين قطر وتركيا، كانت من بين بنودها إقامة قاعدة عسكرية في قطر، ونشر جنود أتراك في الدولة الخليجية، فضلاً عن الملف الليبي، وكانت مصر ودول الخليج قد طلبوا من تركيا في وقتٍ سابق، سحب قواتها والمقاتلين السوريين الذين تدعمهم من ليبيا.
الإعلان عن الاستثمارات الإماراتية أوحى وكأنها زيارة محض اقتصادية، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، على الرغم من تعويل أبو ظبي وأنقرة على التعاون الاقتصادي بين البلدين، في وقت يواجه فيه كلا البلدين مشكلات اقتصادية، ومستقبلاً غامضاً في ظل التبادلات الحاصلة في المنطقة.
"النقاشات بين الطرفين ستصل إلى عمق الخلافات السياسية، وسيتم حلّها تدريجياً، وفق شروط تناسب الأطراف كلها"
يقول المحلل والباحث السياسي التركي، فراس رضوان أوغلو، في حديثه إلى رصيف22: "طبعاً الزيارة ليست اقتصادية فحسب، بل هي بوابة كبيرة إلى الملفات الأخرى كلها. دبلوماسية الإمارات نجحت في حل النزاعات، عبر الاستثمارات الاقتصادية لحل العقد الكثيرة في المنطقة التي تعيش على فوهة بركان".
ويضيف: "النقاشات بين الطرفين ستصل إلى عمق الخلافات السياسية، وسيتم حلّها تدريجياً، وفق شروط تناسب الأطراف كلها"، مستشهداً بمقولة لأردوغان قبل أيامٍ، بأن "التقارب سيساهم في إرساء الاستقرار والسلام في المنطقة".
"تركيا ستكافح جدّياً هذه الجريمة (أي غسل الأموال)، عبر تحجيمٍ كبيرٍ للأخوان وتحركاتهم، ونشاطهم المالي وغير المالي، داخل تركيا، والذي يضرّ بمصالح الإمارات والمنطقة العربية"
لكن ماذا عن مصير الإخوان المسلمين اليوم، حلفاء تركيا في الأمس، لا سيّما أنه ورد في بنود الاتفاقيات التسعة بند "مكافحة غسل الأموال"؟ يجيب أوغلو: "تركيا ستكافح جدّياً هذه الجريمة (أي غسل الأموال)، عبر تحجيمٍ كبيرٍ لهم، ولتحركاتهم، ونشاطهم المالي، وغير المالي، داخل تركيا، والذي يضرّ بمصالح الإمارات والمنطقة العربية". ويضيف: "مكافحة الجريمة المالية ليست محصورةً بالإخوان فحسب، بل بالعصابات الأخرى، فتركيا هي دولة ترانزيت بين الشرق والغرب، لذلك تسعى إلى من يساندها في هذا السياق".
لا يظنّ أوغلو، وفقاً لمتابعته الملف التركي، أن تكون وُضعت شروط مسبقة من قبل الجانبين التركي أو الإماراتي، قاصداً الشروط حول الملفات الكبيرة، كملف ليبيا، لكنه في الوقت عينه يؤكد أن "تركيا ستليّن مواقفها، لتحسين الكثير من الأمور على الصعيدين السياسي والاقتصادي. والمصالحة التركية الإمارتية لم تأتِ بين ليلة وضحاها، سيّما أنّ العلاقات التجارية بين البلدين لم تنقطع، لكن سبقتها اتصالات بعيدة عن الإعلام، منذ سنة، وتكللت كذلك بالمصالحة التركية المصرية".
"لا يمكن القول إن هذه الزيارة لها أبعاد أعمق عن ملف الاستثمارات. عنوان الزيارة استثماري اقتصادي، وهناك مساعٍ إماراتية لبناء خطوط اقتصادية جديدة مع تركيا، وقد رأت الأخيرة أنها ستستفيد من هذه الخطوط محلياً وعالمياً، وطبعاً نجاح الملف الاستثماري سينعكس على ملفات أخرى"، يقول الصحافي والباحث التركي المقرّب من السلطة، حمزة تكين، في حديثه إلى رصيف22.
المصالحة التركية الإمارتية لم تأتِ بين ليلة وضحاها، سيّما أنّ العلاقات التجارية بين البلدين لم تنقطع، لكن سبقتها اتصالات بعيدة عن الإعلام، منذ سنة، وتكللت كذلك بالمصالحة التركية المصرية
يؤكد تكين في هذا السياق، أن "هناك ملفات سياسية متعددة على طاولة الحوار بين الطرفين، ربما تم تذليل بعض الخلافات فيها، وأخرى لم يتم البت بمصيرها، لكن ما يهمنا اليوم هو التعاون الاقتصادي الكبير، وليس البعد الإستراتيجي السياسي بين البلدين".
من وجهة نظره، "تركيا ليست ضعيفةً بتاتاً، ولو كانت كذلك لما أتت الإمارات إليها، على الرغم من أن الدعوة من أردوغان. لكن كان في استطاعة بن زايد رفض الدعوة، خاصةً أن شخصيةً كبيرة بحجمه زارت بلداً تعرّض لسنوات للشتم، والحرب الإعلامية الإماراتية، وفجأةً انقلبت الآية، فهذا دليل على أن حربهم فشلت على تركيا، وأصبحت الإمارات، وما تمثّله من قوة، مضطرة إلى العمل مع أنقرة في النواحي الاقتصادية والتجارية".
التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين، وصل إلى تسعة مليارات دولار أمريكي العام الماضي، وارتفعت الصادرات التركية إلى الإمارات في شهر حزيران/ يونيو الماضي إلى 300 مليون دولار
والتبادل التجاري غير النفطي بين البلدين، وصل إلى تسعة مليارات دولار أمريكي العام الماضي، وارتفعت الصادرات التركية إلى الإمارات في شهر حزيران/ يونيو الماضي إلى 300 مليون دولار، وتحلّ الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الـ12 من بين الدول المستوردة للبضائع التركية، على مستوى العالم، والثانية عربياً، بينما تُعدّ تاسع أكبر مصدّر للسوق التركية عالمياً، والأولى عربياً، وذلك وفقاً لدراسة أجرتها صحيفة "الفايننشال تايمز".
يقول الإعلامي والباحث السياسي الاقتصادي الإماراتي، نائل الجوابرة، لرصيف22: "البلدان وضعا جانباً الخلافات السياسية، وبعد زيارات مكوكية بين الطرفين منذ سنة، توصلا إلى بدء صفحة جديدة عبر بوابة الاقتصاد، خاصةً أن العملة التركية حالياً تمرّ بأزمة كبيرة، وقد ضعفت قيمتها عن السنة الماضية، وينعكس هذا سلباً على القطاع الاقتصادي".
يضيف: "في العام الماضي، قام مصرف دبي الوطني بشراء مصرف الزراعة في تركيا، بسعرٍ أقل بكثير مما كان عليه في العام 2019، حين كانت المفاوضات جاريةً، وساعد هذا الانصهار بشكل كبير الاقتصاد التركي"، ويكشف أنه "في العام المقبل ستستحوذ الإمارات على شركات ضخمة في تركيا، بسبب ضعف الليرة التركية".
وعن موضوع خفض صوت الأخوان المسلمين في تركيا، يقول: "المبادرة السابقة بالضغط التركي على إعلام الإخوان بتخفيف حدّتهم، أتت بنتيجةٍ جيدة، وقد تؤدي لاحقاً إلى خروجهم من تركيا". من وجهة نظره "المبادرة الإماراتية ستفتح الأبواب لدول مجلس التعاون الخليجي للاستثمار بشكلٍ كبيرٍ في تركيا".
"المبادرة السابقة بالضغط التركي على إعلام الإخوان بتخفيف حدّتهم، أتت بنتيجةٍ جيدة، وقد تؤدي لاحقاً إلى خروجهم من تركيا، والمبادرة الإماراتية ستفتح الأبواب لدول مجلس التعاون الخليجي للاستثمار بشكلٍ كبيرٍ في تركيا"
في وقتٍ سابقٍ، جرت العادة أن تكون المملكة العربية السعودية هي السبّاقة إلى رعي المصالحات والمبادرات، لكن اليوم يبدو أن للإمارات دوراً أكبر، خاصةً في الفترات الأخيرة.
والمتابع للملف الخليجي التركي، لاحظ غياب الإعلام السعودي عن ذكر الزيارة في إعلامه المحلي، أو الموجود في الإمارات (العربية، والحدث، وصحيفة الشرق الأوسط، وغيرها). فماذا يحصل تحديداً؟
يقول الأكاديمي والمحلل السياسي السعودي، أحمد الركبان: "الإعلام السعودي لا يدرك مضامين هذه الزيارة، ولم يصرّح الطرفان، الإماراتي أو التركي، عن المضمون الفعلي، لأن الزيارة برأيي، هي أبعد من استثمار، وتتضمن رسائل سياسية". يُضيف: "تركيا بادرت سابقاً، وفي أكثر من مناسبة، إلى التقرّب من السعودية، والمملكة هي السبّاقة في فعل الخير في المنطقة العربية، ولكن أظنّ أن زيارة بن زايد قد تكون مجدولةً، وتم الاتفاق عليها مسبقاً مع دول الخليج".
يرى الركبان أن السعودية لا تنتظر أن تكون "القائد الاقتصادي في الخليج، أو المنطقة، إذ إن المملكة هي من كبار قادة مجموعة العشرين، وهي اليوم تعمل على تحقيق رؤية الـ2030، وتركيزها بات على الدعم الاقتصادي الداخلي، وليس الخارجي، وما يأتي بالخير إلى السعودية، يأتي إلى الإمارات، والعكس صحيح".
زيارة بن زايد إلى أنقرة هي لإنشاء طريق تجاري يمرّ بين الإمارات وتركيا عبر إيران، لتوفير المدة الزمنية في النقل التجاري بين البلدين، وتركيا اليوم حريصة أكثر على هذا الاستثمار، وقطر لعبت دوراً كبيراً في الزيارة الأخيرة
من وجهة نظر قطرية، وقطر هي الحليف الأساسي لتركيا، والعائدة حديثاً إلى حضن مجلس التعاون الخليجي، فإن زيارة بن زايد إلى أنقرة هي لإنشاء طريق تجاري يمرّ بين الإمارات وتركيا عبر إيران، لتوفير المدة الزمنية في النقل التجاري بين البلدين، حسب ما يقول المحلل والباحث القطري، علي الهيل، الذي يرى أن "تركيا اليوم حريصة أكثر على هذا الاستثمار، وقطر لعبت دوراً كبيراً في الزيارة الأخيرة".
وتم نناقل أخبار نقلاً عن مسؤول إيراني، يؤكد فيها زيارة طحنون بن زايد إلى طهران، تمهيداً لزيارة رسمية لوفد إماراتي، في سياق الانفتاح الإماراتي الذي بدأ قبل مدة بزيارة الرئيس السوري بشار الأسد، وفي الأمس أردوغان، وقريباً طهران، فيما يبدو أن الرياض تقف بعيدةً عمّا يحصل، مع تراجعٍ واضحٍ للتفاهم الذي ساد بينها وبين أبو ظبي في السنوات الماضية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون