ما وصل إليه المجتمع السعودي اليوم، من حالة رخاء، كثيراً ما يُسقط من الذهن صفحةً تاريخيةً مهمةً في تاريخ السعودية، المملكة التي عُرفت تاريخياً بكونها حصناً في وجه المدّ الشيوعي. فقد عرفت تلك البلاد فترةً ساخنةً في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وتلوّنت مستعمرة أرامكو بأشكال من النضالات، تنوعّت بين العمالية، والتحررية ضد الإمبريالية.
جيم كرو في شبه الجزيرة العربية
شركة أرامكو كانت أشبه بمستعمرةٍ داخل شبه الجزيرة العربية، وهي كانت شركة أمريكية 100%. ارتكزت عملياتها في مدينة الظهران النفطية، على مجموعة ممارسات وقيم إقصائية موروثة من تقنيات الأسواق في الجنوب الغربي الأمريكي، حيث كان سائداً نظام من الامتيازات، وانعدام المساواة، عُرف في أمريكا باسم قوانين "جيم كرو" العنصرية ضد السود.
فرض مسؤولو أرامكو على عمّالهم قوانين مشابهة. منعوهم من تجاوز حد الأعراق في الأحياء السكنية التي شُيّدت، كما بُنيت مدينة الظهران على غرار نظام جيم كرو، وحرموا تبعاً لذلك السعوديين من العيش مع أسرهم، ورحّلوا الأمريكيين الذين تواصلوا مع الأسر العربية المحيطة بهم.
في كتابه "مملكة أمريكا: صناعة الأساطير على تخوم النفط السعودي"، يرى روبرت فيتالس أن تقسيم العمل على أساس العرق، كان وسيلةً فعّالة لمنع التنظيم النقابي، وكانت النقابات مهمة جداً للعمال، للقضاء على نظام توزيع الأجور على أساس العرق.
وساهمت التشكيلة الكاملة من مؤسسات جيم كرو، من مساكن مفصّلة على أساس عنصري، مروراً بالتفريق في الخدمات المقدّمة، إلى خلق نظامٍ لبث الفرقة بين العمال، للتحكم بهم تالياً.
في الظهران، تكوّن جيش من البروليتاريا بفعل شيوع علاقات التبادل التجاري النقدية، ونمو الصناعات، ودخول التقنيات، ما عجّل في تدمير مهن الرعاة الرُحَّل، والفلاحين، والحرفيين الذين تركوا بدورهم الصحاري، متّجهين إلى المدن، وحقول البترول، بحثاً عن مصادر جديدة للرزق.
هكذا ازداد عدد أعضاء الطبقة العاملة في السعودية إلى مئة ألف شخص، أهمهم عمّال استخراج البترول، حسب أرقام فلاديمير لوتسكي، في كتابه "تاريخ الأقطار العربية الحديث"، وكان أغلبهم يحصلون على أجور بالكاد تجعلهم يستطيعون العيش على الكفاف.
كان يوم العمل يستمر من 10 إلى 11 ساعةً، وحين تكون هناك ساعات إضافية، فإنها تكون مجانية. وكان قسم كبير من العمّال يعيشون في ظروف غير صحّية على الإطلاق، داخل عنابر خاصة بهم. وبسبب تلك الظروف والمعيشة العسيرة، تتدهور صحتهم.
أعلن جيش البروليتاريا هذا إضرابه الأول في مؤسسات أرامكو عام 1945، إثر مطالبةٍ بتحسين ظروف العمل، وزيادة الأجور. وانهالت السلطات عليهم بوابل من القمع، إذ اعتقلت بعضهم، وعذّبت آخرين. لكنّ العمال أحرزوا النصر مستفيدين من دعم فئات السكان الأخرى من الفلاحين، وصغار الباعة، والمثقفين.
وبعد استمرار الإضراب أسبوعين، اضطرت أرامكو إلى تلبية المطالب الأساسية للعمال من زيادة الأجور، وضمان أسبوع العمل من ستة أيام، على ألا يزيد طول يوم العمل عن ثماني ساعات ونصف، وإجازة سنوية مدفوعة الأجر لمدة أسبوعين.
لكن الشركة سرعان ما حنثت بتلك الوعود، وزادت الطين بلةً بإطالتها يوم العمل، وزيادتها من تشديداتها، وهو ما تسبب في هبّة عام 1947، التي شاركت الحكومة من جديد في قمعها، واعتقلت زعماءها... فصلت الشركة الكثير من العمال، إلا أن ذلك النضال أسفر عن إصدار قانون للعمل يحدد يوم الجمعة، يوم إجازة رسمية، ويحدد أسبوع العمل بستة أيام، ويوم العمل بثماني ساعات، في جميع مؤسسات البلاد التي يعمل في كل منها أكثر من عشرة عمال أجراء، كما حدد القانون إجازةً سنويةً مدفوعة الأجر لمدة عشرة أيام، وإجازةً مرضية لمدة خمسة أيام، ومنع عمالة الأطفال.
لكن القانون نفسه منع النقابات والإضرابات، ومنح أرباب العمل حق فصل العمال من دون ضوابط.
تلك القوانين لم تحلّ الأزمة بطبيعة الحال. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، سينطلق النضال العمالي من إطار جديد هو إطار النضال ضد الإمبريالية.
وجها العملة
تأثّرت الحركة العمالية السعودية بالأحداث التي شهدتها مدينة عبدان النفطية الإيرانية. عبدان كانت "مدينةً صاخبةً يقطن فيها ما يزيد عن مئة ألف نسمة، معظمهم من العمال الإيرانيين"، حسب المؤرخ ستيفن كينزر، في كتابه "أتباع الشاه". كان العمّال الإيرانيون الذين يعملون في وظائف تحقق رفاهة "المدراء البريطانيين"، يقطنون في أحياء ضيّقة، وكان مكتوباً على بعض الأماكن "ممنوع دخول الإيرانيين".
"كانت عبدان مقاطعةً استعمارية تقليدية، ومعظم الفنيين والإداريين من البريطانيين حصلوا على منازل فخمة تحتوي على شرفات، وحدائق مقلّمة الأشجار، وكانت عبدان بالنسبة إليهم، وإلى عائلاتهم، مكاناً شاعرياً. أما عشرات الآلاف من العمال الإيرانيين فحياتهم اختلفت عن ذلك تماماً، إذ عاشوا في أحياء عشوائية، وغرفٍ مشتركة فيها نظام صحي بدائي، والمحالّ، ودور السينما، والحافلات، والمزايا الأخرى، محظورة عليهم، ولكنهم شاركوا أصحاب العمل البريطانيين الحياة، وسط شبكات من الأنابيب العملاقة، تحت صهاريج التخزين الضخمة"، يقول كينزر.
فرض مسؤولو أرامكو الأمريكية على عمّالهم قوانين الفصل العنصري، وحرموا السعوديين من العيش مع أسرهم، ورحّلوا الأمريكيين الذين تواصلوا مع الأسر العربية المحيطة بهم
الصورة نفسها كانت موجودة في مدينة الظهران النفطية. يتحدث عنها واحد من أبرز المؤمنين بالدور الحضاري الذي لعبته أرامكو في تنمية المجتمع السعودي، وهو محمد بن إبراهيم الخضير، في مذكراته المنشورة تحت عنوان "بين قرنين"، قائلاً: "كان العمال خليطاً بشرياً من جميع مناطق المملكة، يسكنون في قسم خاص بالعمال السعوديين يشبه العشش، فيه غرف من صفيح، وحماماته ومطابخه مشتركة، بعكس المجمّعات السكنية الفخمة المخصصة للأمريكيين فقط، التي تحوي جميع وسائل الراحة والخدمات والسلامة، ولها بوابات لا نستطيع الدخول منها، وتحاط بحراسات مشددة".
حين أمّم الدكتور محمد مصدق، مصادر النفط، وطرد الشركة البريطانية من إيران، وأعاد احتياطي البلاد الهائل من النفط إلى الأمة، أصبحت عبدان بعد المذلّة، رمزاً للفخر، وأثّر ذلك الحدث كثيراً في الحركة العمالية السعودية داخل أرامكو، إذ حلمت بتكراره، وساهم كثيراً في وعيها وتوسعها.
في مستهل عام 1953، شكّل عمال أرامكو لجنةً سرّيةً أصبحت مركزاً لنضالهم، وتقدمت اللجنة إلى أرامكو بمطالب وقّعها سبعة آلاف شخص تطالب بالآتي:
ـ زيادة الأجور لتناسب غلاء المعيشة مثلما زادت أجور الأوروبيين.
ـ تقديم مساكن جديدة للعمال.
وشجب البيان سياسة أرامكو الاستعمارية، وطالب الشركة بالاعتراف بلجنة العمّال كهيئة نقابية، لكن أرامكو سرعان ما وصمت العمال بالشيوعية، فاعتُقِلوا، وتعرّضوا للتعذيب، وفُصل مركز الحركة الإضرابية، في رأس تنورة، عن بقية مناطق البلاد، وسرعان ما أضرب عمال مصفاة البترول في رأس تنورة، واحتجوا، وأرسلت الحكومة عناصر من الشرطة لضرب المتظاهرين، ولكن ذلك القمع لم يسفر سوى عن لجنة مركزية جديدة، أضافت مطالب جديدة:
ـ تعميم اللغة العربية كلغة رسمية.
ـ تأمين التعليم في مدارس الشركة لأبناء العمال.
بلغت الأمور مداها في تشرين الأول/ أكتوبر 1953، حين أضرب عشرون ألفاً من العمّال تقريباً، فتوقف العمل في مؤسسات الشركة كافة. وأعلنت الحكومة حالة الطوارئ في مناطق حقول البترول. وبمساعدة من الجنود الأمريكيين في قاعدة الظهران، توجهت إلى مركز الإضرابات، وشنّت حملة اعتقالات على نطاق واسع، فاكتظت السجون بالمضربين، ما دعا الحكومة إلى إنشاء سجون ومعتقلات جديدة في الصحراء، وطردِ المساهمين في الإضراب من حقول البترول.
لم تفلح تلك الإجراءات القمعية بسبب انضمام الحرفيين والفلاحين إلى الإضراب، إذ قدّموا الملجأ، والملابس، والطعام، للمضربين، ورفض الجنود، وأفراد الشرطة، إطلاق الرصاص على العمّال، فاضطرت أرامكو إلى التراجع معترفةً بلجنة العمّال، وتفاوضت معها حتى أُطلِق سراح المعتقلين، ودعتهم إلى استئناف العمل، وزيدت أجورهم بنسبة 12-20%، إلا أن العمال لم يحصلوا على حقهم في التنظيم النقابي.
الحزب الأول
في تشرين الثاني/ نوفمبر 1953، استلم الملك سعود السلطة، وتصاحب ذلك مع دعمه لشركة أرامكو، وتقرّبه أكثر من الإدارة الأمريكية، وتشجيعه دخول الرأسمال الأمريكي إلى بلاده. هنا، بدأت حركة جديدة من النضال، تحت عنوان تحرري تزعّمته جبهة الإصلاحات الوطنية التي كانت أول حزب سياسي ذي شكل تنظيمي، له منهج ونظام داخلي في السعودية.
تكونت قيادة الجبهة من مثقفين راديكاليين، ورفعت المطالب التالية: تأمين الحريات الديمقراطية للجميع، وتحرير البلاد من سيطرة الإمبريالية، والتخلي عن الرجعية، وتنمية الاقتصاد الوطني والثقافة، والتقارب مع المعسكر الاشتراكي.
تأميم محمد مصدّق مصادر النفط في إيران، وطرد الشركة البريطانية وإعادة احتياطي البلاد الهائل من النفط إلى الأمة، أحدث أثراً كبيراً في الحركة العمالية السعودية داخل أرامكو
لاحقت السلطات السعودية الجبهة بقساوة، ما زاد من صلابتها، وتزايد نشاط العمال في أرامكو في تشرين الثاني/ نوفمبر 1955، حين تقدّموا بعريضة طالبوا فيها بتصفية لجان الارتباط التي شكّلتها الشركة، وكانت عبارة عن منظمات تتجسس على العمال والفلاحين، وتلاحق زعماءهم، وبزيادة جديدة على الأجور، وتقديم سكن مجاني بظروف صحية مناسبة، وشرعنة العمل النقابي.
كلّف الملك هيئةً للنظر في مطالب العمال، واعترفت بشرعيتها وعدالتها، إلا أن أرامكو رفضت تلبيتها، فقرر الملك سعود الانحياز إلى صفّها.
في صيف 1956، اشتعل فتيل احتجاج عمّالي يطالب بتصفية القاعدة الأمريكية في الظهران، بتأثير من الأجواء المناهضة للإمبريالية القادمة من مصر، بعد تأميم قناة السويس، وانتصار مصر السياسي في وجه العدوان الثلاثي. خرجت تظاهرات ضخمة، فأرسل الملك فصيلاً مسلحاً لمجابهة المتظاهرين، واعتُقل 56 شخصاً، وتعرّضوا للتعذيب.
وفي تموز/ يوليو من العام نفسه، أصدر الملك مرسوماً بمنع الإضرابات والتظاهرات، وهدد بسجن مَن يشارك فيها، ومنح أمير المقاطعة الشرقية صلاحيات حاكم، فاعتقلت الشرطة 125 عاملاً، معتمدةً على قوائم لجنة الارتباط الجاسوسية لدى أرامكو.
إثر ذلك، أُعلن الإضراب العام في الظهران والدمام، تحت شعار النضال ضد الإمبريالية الأمريكية، والمطالبة بإصلاحات دستورية، فاستُخدمت القوات الأمنية لإخماد الإضراب، وقُتل وجرح عشرات العمال، واعتقل 500 شخص زُجّ بهم في السجون، واستعان الملك بالبدو لاستعادة السيطرة في الشارع، وهو ما نجح فيه فعلاً عن طريق "الجيش الأبيض"، أي الحرس الوطني السعودي.
في حراك الخمسينيات، أهدرت أرامكو فرصاً كثيرة. كان بإمكانها سلوك طريق مختلف، فأحد الخيارات هو إنهاء الفصل العنصري، وتوفير موارد جدية لبناء المستشفيات، والمدارس، والطرق، وتأهيل العمال السعوديين للمناصب الإدارية... إلا أنها اختارت المقامرة، وحظي خيارها بدعم الملك سعود.
مآلات النضالات
بفضل الزيادة السريعة في استخراج النفط، وتعديل اتفاقيات الامتياز، ازدادت العوائد السعودية في السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية عشرات المرات، ولكن لم يكن جهاز الدولة في الأربعينيات والخمسينيات مناسباً البتة، للتصرف بأموال ضخمة، وتأدية وظائف اجتماعية اقتصادية.
فخزينة الدولة لم تكن منفصلةً عملياً عن خزانة الملك الخاصة، ولم يعرف البلد أي نظام مالي أو نقدي، ولم تسرِ فيه حتى تشريعات صناعية، أو تجارية، أو تُعتَمد مؤسسات حكومية اجتماعية، ولم تتوفر في البلد كوادر مؤهلة للتحكم بالمستوى المستجد للعوائد.
وفي الواقع، لم تكن جماهير العمال قد بلغت مستوى عالياً من الوعي السياسي، يؤهلها للدفاع عن مطالبها، إذ لم تكن تحمل أيديولوجيا معيّنة. لذلك، كتب مرسوم الحظر الذي صدر عام 1956، نهاية التحركات الكبيرة التي تقوم بها البروليتاريا السعودية.
ومع تزايد حصص الحكومة السعودية في الشركة منذ الستينيات، وصعود الملك فيصل الذي فصل بين خزانة الدولة، وخزانة الملك، ومع طفرة النفط في السبعينيات، نجحت الحكومة جراء عوائد النفط التي بلغت أرقاماً خياليةً، في احتواء النضال العمالي، عبر تقديمات أسكتت المطالبين بإجراء تغييرات جذرية.
وصار الانتساب إلى جهاز الدولة المتضخّم، مصدراً للجاه والمال، وعمل على ابتلاع الناشطين السياسيين، وضمن النظام السعودي لنفسه قاعدةً اجتماعيةً واسعةً ومتينةً بدرجة كافية، تتكون من الفئات الوسطى.
يقول أليكسي فاسيلييف، في كتابه "تاريخ العربية السعودية": "الظروف الموضوعية أفرغت محتوى نشاط القوى اليسارية الراديكالية، كالشيوعيين السعوديين، وأشار أحد زعماء الحزب الشيوعي السعودي إلى أن المعنويات الكفاحية كانت قد انحسرت بين الشغّيلة بعد الستينيات، بسبب ظهور المجتمع الاستهلاكي، إذ أصبح العمال السعوديون يرفلون بالنعيم، وفنّد العمال السعوديون شأن غيرهم من الشغّيلة، بعد نضالات نشيطة فعلاً من أجل حقوقهم في مطلع الخمسينيات، العقائد الماركسية، وحصلوا خلال سنوات الازدهار النفطي على كثيرٍ مما ناضل في سبيله عمّال أوروبا الغربية، طوال مئة وخمسين عاماً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع