شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"الوحش كامن في منازلنا"... أم لبنانية تختصر أزمة الغذاء في لبنان اليوم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 29 نوفمبر 202110:21 ص

أربع حبات بطاطا مسلوقة، هي الوجبة الرئيسية اليوم، تُحضرها زيلا خليل لأسرتها المكوّنة من خمسة أشخاص، مع رغيف خبز ورشّة ملح، فقط. تجلس الأم على طاولة "السفرة" مع زوجها وثلاثة أبناء، هم صبيّان وفتاة، تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عاماً، وتتجنب أن تقع عيناها في عيون أبنائها، "متفاديةً نظرات العتب، أو ربما الانكسار". في المقابل، فإن وجبة الفطور باتت تتكرر يومياً، هي في أغلب الأحوال سندويش زعتر مخلوط بالماء بدل الزيت، يأخذها الأولاد إلى مدارسهم، وأحياناً كثيرة لا يأكلونها، لأنهم سئموا من طعمتها. أما الوجبة اليومية الثالثة، فهي أمر غير مضمون.

تقول زيلا لرصيف22: "مضت ثلاثة أسابيع على آخر مرة تناول فيها أولادي وجبةً غذائيةً تتضمن اللحم، أو أي طعام من مصدر حيواني، كالبيض والحليب ومشتقاته". بالنسبة إلى الأسرة اللبنانية التي هوت من الطبقة الوسطى إلى الفقر المدقع، بفعل الانهيار الاقتصادي، بات الطعام وسيلةً لسد الجوع، لا وسيلة لإشباع حاجات الجسم الغذائية. والفارق بين سد الجوع والحصول على الغذاء كبير جداً، لا يتنبه له المنعمون بسهولة الوصول إلى الغذاء. 

"مضت ثلاثة أسابيع على آخر مرة تناول فيها أولادي وجبةً غذائيةً تتضمن اللحم، أو أي طعام من مصدر حيواني، كالبيض والحليب ومشتقاته"

في بلد مثل لبنان، يُحذّر الزعماء السياسيون من شبح الجوع، الذي بات يسكن في غالبية المنازل. والجوع ليس فقدان الوصول إلى الطعام بشكل نهائي، بل أيضاً عجز الناس عن تأمين الحد الأدنى من الغذاء الذي يحتاجون إليه للنمو، وللعمل بشكل سليم. وفق هذا التعريف، فإن معظم اللبنانيين اليوم جوعى يكابرون على أنفسهم، ويحاولون ترويض الوحش، كي لا يفترسهم، فيبحثون باستمرار عن بدائل تناسب قدرتهم الشرائية، وعلى الطريق، يتنازلون شيئاً فشيئاً عن مصادر الغذاء الرئيسية، نحو بدائل قد "تشبع" بطونهم مؤقتاً، لكنها لا تغنيهم عن الحاجة الطبيعية إلى الطعام المتنوع.

معظم اللبنانيين اليوم جوعى يكابرون على أنفسهم، ويحاولون ترويض الوحش، كي لا يفترسهم، فيبحثون باستمرار عن بدائل تناسب قدرتهم الشرائية، وعلى الطريق، يتنازلون شيئاً فشيئاً عن مصادر الغذاء الرئيسية

 تروي السيدة الثلاثينية أنه قبل عامين، كانت لأولادها وجبة مفضلة، هي شريحة اللحم مع بطاطا مهروسة بالحليب والزبدة. ترسم السيدة التي فقدت عملها بفعل الانهيار الاقتصادي، ابتسامة سخرية خفيفة على وجهها، وتقول إن إعداد هذه الوجبة مرة أخرى لأسرتها اليوم، سيكلّفها أكثر من ثلث مدخول زوجها الشهري، الذي لا يتعدى المليون ومئتي ألف ليرة لبنانية، وهو للمناسبة ثابت منذ سنتين، على الرغم من تدهور العملة، ويوازي ما قيمته 60 دولاراً حسب سعر الصرف في السوق السوداء اليوم.

 وفيما كانت أم الأولاد الثلاثة تحرص سابقاً على إدخال اللحم والدجاج والسمك إلى الحمية الغذائية لأطفالها يومياً، تقول الآن إنها باتت تعجز حتى عن توفير الخضار لهم، فضلاً عن الفاكهة، "بسبب أسعارها الخيالية، فما بالك باللحم". مثلاً، لا تتذكر زيلا آخر مرة أعدّت فيها طبق تبولة، "وحتى الموز، وهو أرخص أنواع الفاكهة هنا، لا نستطيع شراؤه، لأن سعره مرتفع جداً، وخارج قدرتنا الشرائية"، وتضيف: "هذا البلد لم يعد صالحاً للعيش". 

 مؤخراً، قدّر برنامج الغذاء العالمي أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت في لبنان بنسبة 628% في غضون عامين فقط، مع استمرار الانهيار الاقتصادي، الذي دفع ثلاثة أرباع السكان إلى الفقر، وخفّض قيمة الليرة اللبنانية بنحو 90%. في الإطار ذاته، قدّرت الأمم المتحدة أن أكثر من ثلاثة أرباع الأسر في لبنان، بما في ذلك ما يقرب من 100% من جميع عائلات اللاجئين السوريين، ليس لديها طعام، أو مال لشرائه. هذا بينما يذكر تقرير آخر لليونيسيف أن طفلاً من كل ثلاثة أطفال يبيت ليلته جائعاً. 

 تصدر التقارير، وتنشغل بها وسائل الإعلام ليوم أو يومين، حسب ما يسمح به وقت نشرة الأخبار وزحمة الأحداث، إلا أن قضية انعدام الأمن الغذائي تبقى غائبةً عن أولويات الحديث السياسي في البلد، كأن قدر الجوعى أن يناموا جوعى كل يوم، من دون أن يذكرهم أحد. 

رب الأسرة يدخل كل يوم من باب منزله عائداً من عمله "ذليلاً أمام أولاده، وعيونه في الأرض، لأنه غير قادر على تأمين حتى الطعام المناسب"، فيما هي تتذكر بألم مواجهتها مع ولدها، حين قال لها "أنت مسؤولة عن إطعامي، لأنك أنت من أنجبتني"

 في بيت زيلا، رب الأسرة يدخل كل يوم من باب منزله عائداً من عمله "ذليلاً أمام أولاده، وعيونه في الأرض، لأنه غير قادر على تأمين حتى الطعام المناسب"، فيما هي تتذكر بألم مواجهتها مع ولدها، حين قال لها "أنت مسؤولة عن إطعامي، لأنك أنت من أنجبتني"، وعندما طالبته بأن "يشعر معها"، قال لها ما تعرفه سلفاً: "أنا لم أعد قادراً على أن أشعر وأن أتفهم أكثر". تتوقف زيلا عن الكلام هنا، وتقاوم دمعتها، ثم ترفع رأسها وتقول بحزم: "أشعر بأن من واجبي أن أتحدث، ومن واجبي أن أضيئ على هذا الوضع، وأن أطالب بحقوق أولادي، فالحصول على الطعام هو أبسط حقوقهم!"

 لكن لعلّ أكثر ما يؤلم هذه الأم اللبنانية اليوم، هو خوفها على صحة أولادها: "أنظر في عيونهم، فأجدها ذابلة، ووجوههم صفراء. أرى أولادي يغرقون في الحزن من دون أن يُعبّروا عنه. وجه ابنتي شديد الاصفرار. أنا أموت من القهر". لكن زيلا، على الرغم من هذا، لا تستطيع التوجه إلى طبيب مختص للاطمئنان على صحة أولادها، فـ"المستشفيات تطلب مبالغ عالية، وبالدولار، فيما مدخولنا الشهري يوازي بضع عشرات من الدولارات فقط".

جولة في الأسواق كفيلة بفهم الواقع المأساوي، فشراء المصادر الرئيسية لهذه المعادن من لحوم وألبان، بما يكفي حاجة مراهق واحد لأسبوع، يكلّف ما يوازي معدل الرواتب الشهرية للبنانيين اليوم.

تعدد زيلا عوارض مهمة تؤشر إلى وجود نقص حاد في الغذاء، فأخصائية التغذية بثينة الغول، تشرح لرصيف22، أن "اصفرار الوجه أو ذبول العينين هي عوارض معروفة لنقص الحديد في الجسم. ومع غياب التنوع الغذائي، واقتصار الطعام المتوفر على النشويات، من دون المصادر الحيوانية للحديد من اللحم، وبعض المصادر النباتية من الخضار الورقية، يتصاعد خطر الإصابة بنقص الحديد، وبالأخص لدى الفتيات في عمر المراهقة، بسبب فقدان الدم في كل دورة شهرية".

توضح أخصائية التغذية أن "المراهق يمرّ بطفرة في النمو، وزيادة في كتلة العظام، وتزايد الاحتياجات الغذائية، ومن الضروري اتّباع نظام غذائي متوازن ومتنوع يشمل جميع المجموعات الغذائية، من بروتينات، وبقوليات، وحبوب، وفواكه، وخضار، ودهون، قدر الإمكان. كما أنه وخلال هذه السنوات، تزداد الحاجة إلى بعض المعادن بسبب التغيرات الجسدية، ومن أهمها الحديد والكالسيوم".  

تحذّر الغول من أن نقص الكالسيوم سيؤثر حتماً على النمو، وسيعرّض الفرد لهشاشة في العظام في سن أكبر. جولة في الأسواق كفيلة بفهم الواقع المأساوي، فشراء المصادر الرئيسية لهذه المعادن من لحوم وألبان، بما يكفي حاجة مراهق واحد لأسبوع، يكلّف ما يوازي معدل الرواتب الشهرية للبنانيين اليوم.

تقول آلاء حميد، من منظمة "أنقذوا الأطفال"، إن فقدان الحقوق الأساسية، إذ يؤثّر على الأسر بشكل مباشر، فإنه يؤثّر بشكل خاص على الأكثر هشاشةً فيها، وهم الأطفال. تشرح حميد أن مؤشر المجاعة في لبنان ارتفع من 8% عام 2020، إلى 23% حالياً، "وهذا ما نلاحظه على الأرض من خلال ما يخبرنا به الأولاد. هناك أولاد يخبروننا بأنهم ينامون جوعى، فيما هناك أسر أخرى تضطر إلى اختصار إحدى الوجبات الأساسية".

تردد زيلا بين جملة وأخرى أهمية "الحديث عن الجوع، هذا الوحش الكامن في منازلنا، وهذه ليست أسرار بيوت، بل قضية شعب تُرك يواجه مصيره وحيداً"

تدرك زيلا هذا الواقع، وتقول إنها "لا تعرف كيف سنستمر، وإلى أين قد تصل بنا الأمور، لكنني أعرف أن الأزمة تؤثّر على الجميع، والأسعار خيالية"، وتعدّ نفسها محظوظةً لقدرتها على تقديم البطاطا لأولادها، فـ"هي غالية الثمن أيضاً، والوجبة اليوم كلّفتني أكثر من 40 ألفاً، أي ما يعادل مدخول أسرتي اليومي"، وفي المقابل، "هناك أسر لا تقدر على صرف هكذا مبلغ على الطعام".  

تستذكر الأم اللبنانية أيام الأكل المتنوع والحلويات التي كانت تعدّها في مطبخها، لتجتمع حولها أسرتها. أيام ولّت، وحلّ مكانها كفاح مستمر لتأمين الأساسيات. تؤكد زيلا ضرورة "الحديث عن الجوع، هذا الوحش الكامن في منازلنا، وهذه ليست أسرار بيوت، بل قضية شعب تُرك يواجه مصيره وحيداً".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard