تعود الخلافات الحدودية بين إيران والعراق إلى نهاية الإمبراطورية العثمانية (1924) وتشكيل دولة العراق. مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد سنوات من التوترات دخلت إيران في حالة فوضى، بعد الثورة الدستورية الكبرى (1905-1909) والتي كانت مفاهيم مثل الحرية والعدالة في طليعة المطالب الشعبية في تلك الثورة. في نهاية المطاف خُمدت الثورة الدستورية بسبب التدخل الأجنبي، وخاصة التدخل البريطاني ودخلت البلاد عهد دكتاتورية رضا شاه البَهلوي.
في العراق أيضاً وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) وانهيار الإمبراطورية العثمانية، أصبحت البلاد تحت الوصاية البريطانية. الملك فيصل وبدعم من بريطانيا وصل إلى السلطة في العراق قبل سنوات قليلة من رضا خان أو رضا شاه.
حدث الخلاف الحدودي الأول بين إيران والعراق في تلك الفترة، واستمرت الخلافات، وتم إبرام اتفاقيات بين البلدين عدة مرات، آخرها معاهدة الجزائر عام 1975 والتي أبرمت قبل أطول حرب تقليدية في القرن (1980)؛ معاهدة اعتبرها شاه إيران، نجل رضا خان، نجاحاً، ولم يكن صدام سعيداً بها أبداً.
حتى نهاية النظام البهلوي، لم تكن بين العراق وإيران علاقات طبيعية، كما أدت الحدود الطويلة بين البلدين والتاريخ المتوتر للعلاقات بينهما إلى وقوع أحداث. ووردت أنباء عن اشتباكات صغيرة ولكنها متوترة على حدود البلدين، كشفت وزارة الخارجية الإيرانية آنذاك عن بعضها. وأوضحت إحدى الوثائق الإيرانية، وهي مذكرة من السفارة الإيرانية في بغداد أن جنوداً عراقيين هاجموا نقطة تفتيش أثناء عبورهم الحدود الإيرانية وقتلوا جندياً وجرحوا آخر، وأخذوا معهم سلاح القتيل.
الثورة الإسلامية في إيران والتي كانت آخر ثورة كلاسيكية في العالم إلى اليوم أخذت معها شاه إيران. في شباط/فبراير 1979 وقبيل بضعة أشهر فقط من وصف كارتر إيران بأنها "جزيرة الاستقرار"، حدثت ثورة في إيران. سقوط النظام البهلوي قد حرّر صدام من خصمه القوي في الشرق الأوسط أي إيران. من جهة أخرى كان آية الله الخميني، زعيم الثورة الإيرانية، قد عاش في النجف لسنوات عديدة، فتظهر الوثائق أن ردود فعل العراق الأولى نحو الثورة الإيرانية كانت إيجابية.
أراد الثوار الإيرانيون العبور إلى العراق والوصول إلى إسرائيل، وكانت لدى صدام طموحات كثيرة، ومواجهة هذه العقول الطموحة سلبت أرواح البشر
في الأيام الأولى للثورة الإيرانية، عندما تم تنصيب حكومة بازَرْكان في إيران كحكومة مؤقتة، بعثت الحكومة العراقية برئاسة حسن البكر، برسالة إلى الحكومة الإيرانية في اليوم الأول من تنصيبها في خطوة غير متوقعة، معربة عن الاحترام الدبلوماسي من قبل الحكومة العراقية لنظيرتها الإيرانية قائلة إن سياسة جمهورية العراق القوية مبنية على إقامة علاقات أخوية متينة، وتعاون مثمر مع شعوب ودول الجوار، وعلى أساس احترام حقوق المِلكية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، واحترام التطلعات المشروعة للشعوب. العراق يولي اهتماماً خاصاً لعلاقاته مع الدولتين الجارتين إيران وتركيا. هاتان الدولتان ليستا جارتين فقط، بل إنهما دولتان شقيقتان تربطهما علاقات إسلامية عميقة الجذور وعلاقات تاريخية مع الأمة العربية بشكل عام و الشعب الايراني بشكل خاص. ونعتقد أن هذه العلاقات الدينية والتاريخية يجب أن تكون عاملاً لتعزيز العلاقات الإيجابية بين إيران والعراق في العهد الجديد. ونشعر بالفخر والسعادة بالنصر الذي حققته الأمة الإيرانية. الحكومة العراقية تولي اهتماماً كبيراً لتصريحات آية الله الخميني ،الزعيم الديني الشهير، وشخصيات مهمة أخرى في ثورة الشعب الإيراني. ونأمل بالسعادة لإيران الصديقة، ونتطلع إلى إقامة علاقات مستقرة مع إيران الجديدة، على أساس التعاون المثمر لتقوية العلاقات المتبادلة، وخدمة البلدين، وتعزيز الحرية والسلام والاستقرار في المنطقة.
وفقاً لقول إبراهيم يزدي، نائب مهدي بازَركان آنذاك، في المجلد الرابع من مذكراته، كان رد فعل العراق الدبلوماسي الأول سلمياً، ولكن في أذار/مارس من نفس العام (1979)، هاجمت طائرات مروحية وعسكرية عراقية الحدودَ الإيرانية، مما أسفر عن مقتل 15 شخصاً في قرى حول مدينة بانِه، غرب إيران. وأعلنت الحكومة العراقية مسؤوليتها عن الهجوم واعتذرت رسمياً، بل وتعهدت بدفع تعويضات.
في وقت لاحق في 5 نيسان/أبريل 1979 وبعد تعيين الحكومة في إيران، أرسل رئيس العراق رسالة تهنئة حميمة إلى المرشد الإيراني الأعلى. لكن بعد أيام قليلة، واصل الجيش العراقي هجماته على حدود إيران. اتخذت الحكومة الإيرانية موقفاً هادئاً من الهجمات، واعتذرت الحكومة العراقية مرة أخرى من إيران.
كانت الحدود لا تزال غير مستقرة آنذاك، ويرى إبراهيم يزدي أن غزو العراق كان من تصميم دول كبيرة لمواجهة الثورة الإيرانية، فيقول في مذكراته إن الحرب كانت متوقعة، وكان يمكن بالطبع منعها من خلال الدبلوماسية.
بعد رسالة حسن البكر تم إرسال رسالتين إلى العراق؛ إحداهما رسالة بازَركان ويزدي، وهي رسالة ودية، والأخرى رسالة منسوبة إلى المرشد الأعلى للثورة، وهي مذكورة في المجلد السابع من كتابه "صحيفة النور". هناك نوع من التهديد الضمني للحكومة العراقية في رسالة قائد الثورة التي انتشرت على نطاق واسع في الإعلام، ويقول فيها مخاطباً حسن البكر: "وصلت لنا رسالتكم الطويلة حول إقامة الجمهورية الإسلامية، ونشكركم على هذه الرسالة. كانت الحركة المتفجرة في إيران بسبب ديكتاتورية النظام البهلوي وقمعه، بمثابة تحذير لكل المتغطرسين ضد المظلومين. آمل أن تعامل جميع الحكوماتِ دولَها بشكل سلمي. يجب على الحكومات أن تخدم الشعوب، كما يجب على الدول أن تدعمها حتى تكون السعادة للجميع. نهاية القهر هو الانفجار، وهذا أمر ليس في مصلحة الشعب ولا في مصلحة الحكومة....".
كانت إحدى سياسات العراق خلال هذه الفترة طرد الشيعة، والتي عارضتها إيران بشدة. في أيلول/سبتمبر هذا العام، التقى وزير الخارجية الإيراني آنذاك، إبراهيم يزدي، بصدام في هافانا، في فيلا صدام، بوساطة رئيس الجمهورية الجزائرية، وحضر اللقاءَ وزيرُ الخارجية العراقي آنذاك سعدون حمادي، وكلّ من سفيريْ العراق وإيران لدى الأمم المتحدة، وعدد من الأشخاص الآخرين.
يظهر الحوار بين يَزدي وصدام تدخّلَ الطرفين في شؤون الآخر؛ قدم صدام الأسلحة للعرب، وقدمت إيران الدعم للأكراد المعارضين للحكومة العراقية
يظهر الحوار بين يَزدي وصدام تدخّلَ كل من الطرفين في شؤون الآخر. قدم صدام الأسلحة للعرب، وقدمت إيران الدعم للأكراد المعارضين للحكومة العراقية. كان صدام يخشى الدعاية الإعلامية ضد الحكومة العراقية ويعتبرها تهديداً لنفسه. في جزء من المحادثة، يشير صدام إلى جزر إيران الثلاث ويطلب من يزدي إعادتها إلى الإمارات. يقول يزدي إن هذا الأمر لا علاقة له بصدام، ويقول صدام إن كل القضايا العربية تهمنا لأن حزب البعث حزب عربي. رداً على ذلك يقول يزدي: منذ كم سنة تم تشكيل الحزب؟ فيردّ صدام: 50 عاماً. ويجيب يزدي أن "مدرسة نجف الدينية لها تاريخ يبلغ 900 عام، وبهذا الاستدلال لها الحق في التدخل في كل القضايا الإسلامية! والآن أنتم مختارون أن تواصلوا هذا التحدي".
على الرغم من أن محادثات هافانا لم تكن ودية تماماً، إلا أن يَزدي يعتقد أن الدبلوماسية كان من الممكن أن تحل التحدي بين إيران والعراق.
بعد مرور بضعة أشهر على عقد اجتماع هافانا، انهارت حكومة بازَركان إثر اقتحام السفارة الأمريكية في إيران (1979). بعد احتلال السفارة الأمريكية، كثف الأمريكان جهودهم لتحريض صدام على الحرب ضد إيران. في الوقت نفسه، ومع سقوط حكومة بازركان، استولى الثوار أيضاً على الجهاز الدبلوماسي الإيراني. وبحلول أذار/مارس 1980، تصاعدت التوترات بين إيران والعراق.
في 17 نيسان/أبريل هذا العام (1980) دعا المرشد الإيراني الأعلى، الجيش العراقي للانضمام إلى الشعب وانهيار حكم صدام، مضيفاً: "نتمنى أن يتم تدمير قادة مثل السادات وصدام حسين قريباً... أمة العراق النبيلة! أنتم أحفاد الذين طردوا بريطانيا من العراق. قوموا واقطعوا عن بلدكم الإسلامي اليدَ المجرمة لهذا النظام الفاسد قبل أن يدمر كل شيء لديكم... يا جيش العراق! لا تطعْ هذا المعارض للإسلام والقرآن، وتوجهْ إلى الشعب واقطع اليد الأمريكية التي خرجت من كم صدام". وبعد يومين، عنونت صحيفة "كَيهان" الإيرانية الحكومية: "الإمام يدعو الجيش العراقي إلى النهضة".
بعد أيام قليلة، أعلن الرئيس الإيراني آنذاك، أبو الحسن بني صدر، وهو يعبر عن تضامنه مع الشعب العراقي، أننا لن نبيع الشعب العراقي للحكومة العراقية وأن "حياتنا الوطنية تعتمد على الفوز في النضال المفروض علينا من قبل الأعداء".
هذا الجو المتوتر مهد الطريق للعراق لغزو إيران. هاجم صدام إيران بطموحه الذي سبب له فشلاً كبيراً في ما بعد. كان يعتقد صدام أنه سيقوم بشيء بسيط، في حين أنه كان لدى القادة الإيرانيين مفهوم خاطئ مماثل. كما أنهم ارتكبوا خطأ الإطاحة بالحكومة العراقية من خلال التأثير على الشعب العراقي.
أراد الثوار الإيرانيون العبور إلى العراق والوصول إلى إسرائيل ومحاربتها، وكانت لدى صدام طموحات كثيرة، ومواجهة هذه العقول الطموحة سلبت أرواح البشر. قُتل أكثر من مليون شخص من البلدين في الحرب التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988)، ولحقت أضرار جسيمة بالبلدين، اللذين كانا يشكلان تهديداً لإسرائيل. في نهاية الحرب، واجهت الحكومة الثورية الإيرانية وحكومة صدام العديد من الأزمات يطول الحديث عنها هنا.
باعت الولايات المتحدة أسلحة لكل من الطرفين في الحرب، وأيدت معظم الكتل الشرقية والغربية العراق. في الحقيقة، كان الرابح الحقيقي في هذه الحرب هو الولايات المتحدة والخاسر الكبير والحقيقي هو كل من الشعب الإيراني والعراقي، وربما الشرق الأوسط بأكمله، وبشعوبه؛ الشعوب التي تناضل من أجل القيم الإنسانية منذ سنوات، وقد أسرتها سياسات القوى العظمى وطموحات حكامها منذ سنوات طويلة إلى اليوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
Apple User -
منذ 6 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا