يستوقفنا في البدء عنوان كتاب حازم صاغية، بل مجلده الأخير، فهذا العنوان ليس (الرومانطيقية) بإطلاق ولكن "رومانطيقيو"، بما يعني ذلك من فرادة وتعدد. لسنا إذن أمام مفهوم موحد، بل لسنا أمام مرجع نظري جامع. ليست الرومانطيقية بمردّها الغربي هنا سوى جملة عناصر ومقومات، بل ومواصفات تتعدد بتعدد الملتحقين بها، أو الذين يتصلون، على نحو ما، بها.
هكذا يبدأ مجلد حازم البالغ قرابة 600 صفحة، بتقديم الرومانطيقية بتعريفاتها الكثيرة والمتغيرة بحسب زمانها وبيئاتها. هكذا نقع على تعريفات لا ينكر حازم تضاربها أحياناً والتباسها. إنها العداء الحاسم للرأسمالية والتنوير، لكنها أيضاً نكوصية وطوباوية ودعوة للعودة إلى الماضي. قد تكون إلى الريف. وهي على هذا النحو انفصال عن الواقع و"قبض عليه بمبضع الأساطير".
العودة إلى الريف وإلى الماضي هي أيضاً عودة إلى الطبيعة. إنها "رسم طوبى مستقبلية تتغذى على ماض مؤسطر". هذا قد يؤدي إلى إنكار للرأسمالية وإلى نقد حديث للحداثة، وإلى صوفية وتجربة دينية، وإلى إضفاء قداسة على اللغة القومية، وإلى عنصرية وبلشفة ونازية، وبالطبع سيتلازم ذلك مع تقديس الشعب والإيمان بعبقريته.
مجلد حازم صاغية "رومانطيقيو المشرق العربي" هو عرض شامل لثقافتنا السياسية. إن فصوله في استعادتها للقصي والمتتابع والمتواتر والتفصيلي تكاد تكون، أو يكون، كل منها كتاباً قائماً بذاته. هكذا يكون مجلد صاغية كتاباً من كتب
هكذا نجد أنفسنا أمام حشد من مواصفات قد تتضارب، لكنها تكاد تجمل في انفصال عن الواقع وأسطرة للماضي و تقديس للشعب واللغة القومية. و إذا عدنا إلى تاريخها في منطقتنا، في مشرقنا العربي، فإن ذلك يتطلب العودة إلى الأصول العثمانية والتركية لها، كما يقتضي العودة إلى الأصول العربية في العراق ومصر وسوريا، بدءاً من الهوى الألماني النازي حتى الانقلابات العسكرية في مصر الناصرية والعراق وسوريا البعثيتين.
لا بد بالطبع من مرور مسهب بالمسألة الفلسطينية وبالصحوة الإسلامية السنية والشيعية، و بالحركة الماركسية. إلى أن نصل إلى إدوارد سعيد و"نقد الاستشراق السعيدي" ولواحقه وذيوله.
سنمر كذلك بتوسع في المسألة الطائفية والربيع العربي. إذا توقفنا أمام هذه العناوين التي استتبع كل منها بحثاً ملياً وعودة إلى الجذور وتقصياً لمختلف المراجع والمصادر وتتبعاً لتاريخ المسائل وأقطابها والعابرين فيها، بحيث نشعر أن مجلد حازم صاغية يكاد يشمل كل أسئلتنا ومسائلنا المطروحة والشاغلة، وبحيث نجد أنفسنا أمام موسوعة لسجالنا السياسي وفضائنا السياسي في جملته.
يكاد كتاب حازم صاغية أن يكون نقداً للثقافة العربية المعاصرة، هكذا يغطي الكتاب تقريباً هذه الثقافة بنتاجاتها وأسمائها. هي في غالبيتها الساحقة تنتمي ، وربما من دون أن تدري وعن غير قصد، إلى الرومانطيقية بمختلف نوازعها وكناياتها
مجلد حازم صاغية هو لذلك شامل لثقافتنا السياسية. إن فصوله في استعادتها للقصي والمتتابع والمتواتر والتفصيلي تكاد تكون، أو يكون، كل منها كتاباً قائماً بذاته. هكذا يكون مجلد صاغية كتاباً من كتب.
يكاد كتاب صاغية أن يكون نقداً للثقافة العربية المعاصرة. هكذا يغطي الكتاب تقريباً هذه الثقافة بنتاجاتها وأسمائها. هي في غالبيتها الساحقة تنتمي ، وربما من دون أن تدري وعن غير قصد، إلى هذه الرومانطيقية بمختلف نوازعها وكناياتها. أشخاصها من حيث لا يحتسبون واقعون في غمارها، مهما يكن الاسم الذي يتخذونه، الحداثة غالباً، بدون وعي منهم إلى أنهم في النقيض منها.
نقد الثقافة العربية المعاصرة لا يبالي في رده تلك العودة إلى الماضي، الانقلاب على الغرب والحداثة المقلوبة، إلى اسم غربي غير قائم في تراث هؤلاء ولا في موروثهم. الرومانطيقية بكل مسمياتها ونوازعها، التي حواها الفصل الأول هي التي تشمل، من قريب وبعيد في الوقت ذاته، هذه الثقافة، بل هذا التاريخ الذي يحويها.
هكذا نجد اسماً كبيراً يشمل إلى جانب هتلر وستالين، عبد الناصر وميشيل عفلق. لا يدافع صاغية عن الاسم الذي اختاره، لكن شمول هذا الاسم وكونيته يبررانه. قد نقتنع بذلك ولا نرفضه. الرومانطيقية اسم غربي يصح لتغطية نزوع ضد الغرب. هذا ما لا ينفك يحدث. مع ذلك قد يتفرع عنه ومنه اسم من داخل الإرث العربي.
يصل صاغية أموراً كثيرة في تاريخنا وثقافتنا بالقرابية التي هي موروثة فينا وفي تاريخنا. ألا يدعو هذا إلى الرجوع إلى أصل عربي طالما استعيد في أدبياتنا؟ إنه البداوة. لست متيقناً لكني أشعر أن البداوة قد تكون، على نحو ما، رومانطيقيتنا. وإذا كان ذلك قريباً من الصحة، أمكن أن نستعير البداوة وأن ندخل منها إلى التنظير لوعينا وموقعنا التاريخي وأيديولوجيتنا .
صاغية بالطبع ليس داعية لكن له دعواه التي إذا شئنا أن نطلق اسماً عليها، وجدنا الليبرالية، التي لا ريب في صدورها عن الغرب
لا تمانع نقدية صاغية المفرطة في أن تكون لديه دعوة. صاغية بالطبع ليس داعية لكن له دعواه التي إذا شئنا أن نطلق اسماً عليها، وجدنا الليبرالية، ولا ريب في صدورها عن الغرب. بل إن الغرب التاريخي يبدو في طيات النص الطويل هو المعيار والنموذج. جرياً على التاريخ الغربي، يرد صاغية في غير مكان أن أزمتنا تكمن في عدم نشوء بورجوازية. لكن الحداثة الغربية (المودرنيتي) التاريخية قد تتباين مع (المودرنيزم) الذي قد يكون "حداثة ضد الحداثة"، بالرجوع إلى صادق جلال العظم.
حازم الذي يؤكد أن الغرب ليس واحداً، يختار غربه العقلاني الرأسمالي المديني الليبرالي. إنه هكذا مع غرب يعتبره تاريخياً ضد أكثر من غرب آخر، هو غرب المودرنيزم. لكنه هو أيضا الغرب. لماذا الإصرار على أن يكون الانتساب هو لهذا الغرب الواحد، ولماذا يكون اختيار غرب آخر بحت رومانطيقية فحسب؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون