الجنس البشري ليس مفطوراً على حب الاستطلاع وتلمّس مفاجآت الآتي من الأيام فحسب، بل على هاجس كشف ما مرّ من أحداث وما خفي من أسرار. وإن كانت الرسالة محصورة بين شخصين في زمن كتابتها، وظنّاً من طرفيها أنّها ستبقى من ممتلكاتهما الشخصية أو الحميمة، فهي قد تكشف عالماً من الشخصيات والأحداث.
ليس من سرّ يخصّ اثنين يبقى محاصراً بين الخزائن والأدراج؛ فكيف إذا ما كانت هذه الرسائل بين أعلام الفكر والثقافة؟ ستكون حينئذٍ، وراء كل رسالة حكاية، وأمام كل توقيع مؤرّخ تاريخ يروي سيرة أمّة!
في حوار أجراه جيوفري موفيوس مع سوزان سونتاغ (بوسطن ريفيو، يونيو 1975)، (ترجمة زين الشافعي، موقع Boring Books)، ترى الكاتبة والروائية الأميركية أنّ كتابات الروائيين الوحيدة التي ما زالت تثير انتباه بعض أصدقائها، هي رسائلهم ومذكراتهم.
وتردّ أسباب هذا الزعم إلى امتداد الرؤية السيكولوجية التي باتت تسيطر على كل شيء، وتخصّ بالذكر الأجواء المنعكسة في بلدها أكثر من أي بلد آخر؛ مشيرة إلى أنّ للوثيقة التي تحتوي شخصية الكاتب وتجربته سلطة أكبر من الأدب الرّوائي نفسه.
من ختم النسر إلى علم الوصول بخط اليد
حين يتحوّل كاتب ما إلى أيقونة في وجدان شعب ينتمي إليه، تغدو لمتعلّقاته جميعها جاذبية خاصّة. هو الأمر الذي يحدث مع نجيب محفوظ. وليس كتاب الصحفي طارق الطاهر "بخط اليد وعلم الوصول" (بتانة، 2021) سوى حلقة من سلسلة أعمال تدوّن سيرة الروائي المصري، إنما من وجهة نظر مختلفة، ذلك عبر تقنية كتابة موجزة تشبه "التوقيعات"؛ ألا وهي الإهداءات في تصدير الكتب المهداة إلى الأديب الراحل، وفي الإيجاز بلاغة، وتبليغ رسالة، وغير حكاية.
من لويس عوض لنجيب محفوظ
يأتي هذا المنجز للطاهر بعد كتاب "نجيب محفوظ بختم النسر"، برؤية التاريخ الوظيفي للراحل، وتتبع ثلاثمئة مستند/ ورقة رسمية ترصد الوظائف التي عمل بها والمهام التي أوكلت إليه. وقد عرضت خمس وسبعون وثيقة نادرة تخصّ محفوظ في متحف يحمل اسمه، وبعنوان "بختم النسر"، في تكية "أبو الدهب" في وسط القاهرة؛ ذلك وفق خبر نشره موقع رصيف22 (2 سبتمبر 2019).
كتاب الصحفي طارق الطاهر "بخط اليد وعلم الوصول" (2021) ليس سوى حلقة من سلسلة أعمال تدوّن سيرة نجيب محفوظ، إنما من وجهة نظر مختلفة، ذلك عبر تقنية كتابة موجزة تشبه "التوقيعات"؛ ألا وهي الإهداءات في تصدير الكتب المهداة إلى الأديب الراحل
على الرغم من البحث الجادّ في مكتبة الروائي ومكتبات أخرى فتحت أدراجها أمام شغف الكاتب بكشف الأسرار، لم ينكر طارق الطاهر (رئيس تحرير جريدة "أخبار الأدب"/ 2014-2020) جهود زملاء تناولوا سيرة الروائي، بل جاءت منجزاتهم أسانيد، وشواهد لربط أجزاء الحكايات.
من محمود أمين العالم لنجيب محفوظ
منها "حوارات نجيب محفوظ" و"في حضرة نجيب محفوظ" لمحمد سلماوي، و"في حب نجيب محفوظ" و"صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" لرجاء النقاش، و"المجالس المحفوظية" و"نجيب محفوظ يتذكّر" لجمال الغيطاني.
ولم تكن الإهداءات إلا جسر عبور إلى عالم العلاقات بين المرسلين والمرسل إليه؛ وقل إنّها وثائق وحيلة فنية، في الوقت نفسه، للتنقيب في حكاية الورقة التالية لأغلفة الكتب، مشفوعة بصور هذه التوقيعات بخط اليد، بما يرضي فضول القارئ.
قصة لم يكتبها محفوظ رغم ضائقته المالية
كتب مصطفى أمين في تصدير كتابه "الـ200 فكرة" إهداءً، له لغزه، وهو بنصّه: "إلى الأستاذ الكبير نجيب محفوظ، الكاتب الذي أعجبت به منذ عام 1945، وتمنيت أن يكتب قصة في "أخبار اليوم"، ولم أحقق هذه الأمنية التي ظللت أتمناها طوال هذه السنين. مصطفى أمين(13فبراير، 1980)".
من طه حسين لنجيب محفوظ
هذا الإهداء –برسالته المتضمّنة- يكشف حكاية تمنّع محفوظ عن تلبية الاستكتاب، ليس لأسباب سياسية -بما يتفق وظنّ أمين- بحكم أنّه يناصر حزب الوفد، ويقدّر مصطفى النحاس الذي توجه له "أخبار اليوم" نقداً لاذعاً، بل لأنه لا يريد الانصراف عن رواية كان قد بدأ بكتابتها، فينشغل عن إنجازها بالقصة.
نُقلت هذه الحكاية ممّا سجّله جمال الغيطاني في كتابه "المجالس المحفوظية"، إثر اللقاء الذي انعقد بين الروائي ومصطفى أمين، في مكتب هذا الأخير بعيد إصدار كتابه.
بيليد، أمالدي، يوري وشيا
يروي رجاء النقاش على لسان محفوظ، قصته مع باحث يعدّ أطروحة دكتوراه موضوعها الأعمال الأدبية لنجيب محفوظ في إحدى الجامعات الأميركية، كان قد وجّه إليه خطاباً يطلب فيه تزويده بما يفيد عن نشأته وعوامل أثرت في تكوينه.
من صلاح عبد الصبور لنجيب محفوظ
وقد لبّى الروائي طلب الباحث، لتصله بعد حين نسخة من الأطروحة في عام 1971، فيكتشف بعد قراءة الاسم أنّ الباحث يدعى ماتيتياهو بيليد، وهو إسرائيلي يعمل في إحدى الجامعات في تل أبيب، وقد شارك في حروب ضد مصر حين كان ضابطاً في جيش العدو، قبل أن يخرج من الخدمة ليتخصص في الأدب العربي.
إنّما خطاب الباحث كان دليلاً على عدم تورّط محفوظ، إذ احتفظ به وأبرزه لضابط مختصّ بشؤون الصحافة في وزارة الداخلية لتوضيح حقيقة تواصله مع الباحث، ومرّت الحادثة بغير استدعائه إلى تحقيق رسمي.
يروي رجاء النقاش على لسان محفوظ، قصته مع باحث يعدّ أطروحة دكتوراه موضوعها الأعمال الأدبية لنجيب محفوظ في إحدى الجامعات الأميركية، كان قد وجّه إليه خطاباً يطلب فيه تزويده بما يفيد عن نشأته وعوامل أثرت في تكوينه ليكتشف محفوظ لاحقاُ أن الباحث اسرائيلي
ويشير محفوظ إلى أنّ الباحث الإسرائيلي توصّل في دراسته للنصوص إلى أنّ توجّه محفوظ إسلامي لا ماركسي، بعكس رؤية النقاد العرب واستنتاجاتهم. وبالمثل تعرب الباحثة والمترجمة الإيطالية دانييلا أمالدي، عن شكرها وامتنانها لصدق تعاون الروائي معها في ما يتعلّق بموضوع أطروحتها ودراساتها لأعماله.
إهداء عبد الوهاب البياتي لنجيب محفوظ
وتنعته في رسالة إهداء لأحد كتبها له بـ"الأخ العزيز". كما كان لها إسهامات في ترجمة المعلّقات، وروايتي "زقاق المدق" و"الكرنك" إلى الإيطالية، ذلك في وقت مبكر قبل حصول محفوظ على جائزة نوبل.
يذكر طارق الطاهر شغف الباحث الروسي روشين يوري بأدب محفوظ والذي يعود إلى ستينيات القرن العشرين، وقد توصّل في أطروحته الرائدة (1967)، والتي لم تذكرها أي بيبليوغرافيا، إلى وسم ثلاثيته بالواقعية النقدية، مهدياً نسخة منها لصاحب الثلاثية مصدّرة برسالة تذكارية.
وللمترجمة لي يوي شيا إسهام في ترجمة ثلاثيته إلى الصينية، وكانت قد التقت به في القاهرة، واصفة علاقتها به بأنّها "حب لا ينسى"، ذلك في رسالة على النسخة الصينية المهداة إليه لرواية "السكرية".
يشير محفوظ إلى أنّ الباحث الإسرائيلي توصّل في دراسته للنصوص إلى أنّ توجّه محفوظ إسلامي لا ماركسي، بعكس رؤية النقاد العرب واستنتاجاتهم
ممّن أحبّه إلى من لم يعجب به، فمن نبّهه وحاول اغتياله
تعرّض محفوظ لمحاولة اغتيال فاشلة عام 1995، واتّهم بالكفر لتعرّضه للذات الإلهية، إثر نشر روايته "أولاد حارتنا" بطبعتها المصرية. وتكشف سطور معدودات لسيدة غير معروفة في الأوساط الثقافية، تدعى سلوى صابر، كتبتها في إهداء لمحفوظ على كتاب سيد قطب "التصوير الفني في القرآن" (إصدار 2004)، نصيحة بمنزلة تنبيه لاتّباع الصراط المستقيم والابتعاد عن طريق الضلال، حين اكتفت بنسخ آية من سورة "الأنعام".
إهداء من الباحثة والمترجمة الصينية لي يوي شيا لنجيب محفوظ
وكان محفوظ معجباً بقدرات قطب النقدية والأدبية، وإن اختلف معه فكرياً بعد جنوحه نحو التطرّف والتكفير، وصدم بتنفيذ حكم الإعدام فيه (1966)؛ وكان قد رسمه شخصية (بمراحل تطوّره) في روايته "المرايا".
لم يحتفظ توفيق الحكيم بكتب أهداها إليه محفوظ، لا سيما رواية "عبث الأقدار" ليجدها بين يدي صديق له يعيدها إليه بما يحقّق –واقعياً- دلالة عنوانها؛ ذلك على عكس الأخير الذي يحرص، علاوة على الإهداءات من الكتب، على الاحتفاظ بقلم من الحكيم الذي تربطه به علاقة روحية ووجدانية، يضمّه متحفه في وكالة أبي الدهب. وبعد الحملة التكفيرية على محفوظ، يخطّ الحكيم في إهداء لأحد كتبه، يصفه بالكاتب "المؤمن"، تأكيداً لموقف مغاير للشائع.
وإن كان ثمة اكتشاف مبكر لموهبة محفوظ من قبل قطب والحكيم، وتقدير متبادل، فيذكر الطاهر نقلاً عن الغيطاني أنّ لويس عوض –وكان يصفه بالصديق العزيز في إهداءات/هداياه- لم يكن معجباً بكتابات الروائي، وقد منع نشر رواية "المرايا" في "الأهرام"، وكذا "الحب تحت المطر".
من مصطفى محمود لنجيب محفوظ
ويذكر للنقاش أسباب انتقاد لويس عوض لثلاثيته، وتعود إلى إسقاطه الكثير من أحداث ثورة 1919، متناسياً أن النص التخييلي الروائي ليس وثيقة تاريخية، بحسب تعقيب محفوظ على نقد عوض.
الرؤية إلى العالم وروح العصر
قد لا تكون الإهداءات الموقّعة على صفحات الكتب جميعها على القدر نفسه من الأهمية الدلالية، كأن تتضمن نفاد بصيرة أو حدساً أثبتته جائزة مستحقّة نالها الروائي الراحل، أو عظيم صداقة تعلنها كلمة "صديقي"؛ فالعرب ميالون بالسجية إلى المبالغات العاطفية والتأنّق اللفظي وتعظيم يظهر في استخدام صفات على شاكلة "الكبير" و"أستاذنا"، وإلى ما هنالك من عبارات كيّسة.
كثيراً ما نعجب بعبقرية نصية تصدمنا حقيقة/ واقع صاحبها المعيش، بمعنى أدقّ: أداؤه الإنساني
إنّما ما يعني القارئ هو المرسل إليه بقلم صاحب العمل المهدى، وبعينيه؛ والحكاية أو الحكايات المخبوءة في طيات رسالة الإهداء، لعلّها تكشف أحداثاً تخصّ أفراداً، وتشكّل روح عصر وحركة تاريخ، فكراً، أدباً وصيغ تعبير.
أضيف إلى ملاحظة سوزان سونتاغ حول تعلّق الإنسان بالرسائل والمذكّرات، انجذابه إلى أي نص ذي حكاية مرجعية. ولعلّ إضافتي هذه تسوّغ اختياري لموضوع مقالي، ولكتاب لا يكتفي بتوثيق الإهداءت في صورها الأصلية، ويبين اختلافات الخطوط وصيغ الكتابة لأصحابها، بل يذهب إلى حكاياتها ليكشف الوجه الإنساني- الأخلاقي، والعلائقي لنجيب محفوظ.
هو أمر على درجة من الأهمية النقدية في كشف الكاتب خارج نصّه ومدى انعكاس ذاته في نصوصه، وشفافية رؤيته إلى العالم وصدقها الفني والواقعي معاً.
فكثيراً ما نعجب بعبقرية نصية تصدمنا حقيقة/ واقع صاحبها المعيش، بمعنى أدقّ: أداؤه الإنساني. لكن ذلك يحتاج بحثاً متأنّياً يكمل هذه السطور التي لا أريد لها الابتعاد عن شخصية إنسانية بمكانة محفوظ، وقد وعى مبكراً قيمة الصداقات والعلاقات، نستشفّها ممّا رواه الطاهر عنه في قوله: "هو لا يريد لنفسه أن ينسى، فاحتفظ بهذه الإهداءات، وتعامل معها على أنّها رسائل، تشكّل في مجموعها سيرة له".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...