شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
حملتُ اسم

حملتُ اسم "ابن عربي" وتجربتي مع جدّي كرّهتني بالدين والتصوّف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 9 سبتمبر 202101:46 م

تروي لي أمي أنها كانت في زيارة إلى مقام الشيخ محي الدين بن عربي، في دمشق، عندما كانت حاملاً بي، وأنها شعرت بالروحانية، والسكينة، بالإضافة إلى رؤيتها شيخاً منير الطلعة، أبيض اللحية طويلها، في الليلة ذاتها، فنذرت أن تسميني محي الدين، على اسم ابن عربي.

في يوم مولدي، ألبسني جدّي، والد أمي، كوفية خضراء، مباركةً، وتكريماً، كان يقتنيها شيخه الصوفي، ويضعها على رأسه عمامةً، قائلاً لأمي إنه سيكون لي من اسمي نصيب.

رؤى وكرامات

نشأتُ في حلب، المدينة التي تكثر فيها حلقات الذكر، والشقق أو الأقبية التي تُسمّى "زوايا"، ويجتمع فيها الدراويش عند شيخ متصوف، يرونه وسيلة للوصول إلى الله، بل صورة لله بشريةً، اختارها ليعرفه عباده حق المعرفة.

في بلدتي، للرؤى مقامات، وفيها كرامات، أو إنذارات، تؤخذ على محمل الجد، وتصيب صاحبها بالسرور الشديد، أو الخوف المدقع، وربما تدفع أصحابها إلى تغيير حياتهم.

كما أن في بيوت الكثيرين منّا كتباً ومؤلفاتٍ لتفسير الأحلام، كتفاسير النابلسي، وابن سيرين، يلجأ إليها الراؤون، لمعرفة مقاماتهم عند ربهم.

ولزيارة قبور المشايخ "الأولياء" هيبة، تُدخل الزائر في حالة روحية عميقة، يُرجى منها الشفاء، ورفع البلاء، وتفريج الكرب، والمباركة، كما فعلت أمي.

وللألقاب دور مهم جداً أيضاً، فلا نجرؤ على ذِكر اسم أحد الشيوخ، أو "الأولياء"، من دون أن نُلحق به عبارات مثل مولانا المُربّي فلان، وسيدنا القطب علّان، وهكذا… فالتقديس، والتعظيم، وحتى التأليه، أسلوب يتعامل به الدراويش (التلامذة)، مع شيوخهم، أو "مربّيهم".

عوضاً عن لعبي مع أولاد الحارة، كنت أجلس إلى جانب جدي، ليعلمني كلماته التي أخذها عن شيخه، وكانت تُروى على مسامعي قصص غريبة جداً، عن أماكن أفهمها، أو أصدّقها، لكنّي لم أكن أجرؤ على محاكاتها عقلياً.

أذكر من هذه القصص الكثير، ولا سيما قصة أحمد الرفاعي، ويد النبي التي خرجت من القبر يقظةً، فقبّلها أحمد، وتلا بيتي الشعر:

"في حالة البُعد روحي كنت أرسلها،

تقبّل الأرض عني وهي نائبتي؛

وهذه دولة الأشباح قد حضرت،

فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي".

هي قصة مشهورة جداً بين المتصوفين، وتُردَّد كثيراً في اجتماعاتهم الخاصة، وبحذر شديد، خشية إيصال هكذا قصص إلى العامة الذين "لم يصطفِهم الله"، على حد تعبيرهم، وينكرون حقيقة الكرامات.

قصة أخرى تُروى عن الشيخ الزاهد الذي ترك الدنيا بما فيها من لهو ولعب، واعتكف في جبلٍ بعيد، وحيداً، منعزلاً عن البشر، حتى جاءه رجل "يبحث عن ربه"، فطلب من الشيخ أن يخبره عن الله، وعن الحب، ويعلّمه الحقيقة، فصمت هذا الرجل، وأغمض عينيه، وبدأ يرتجف، وصار يتقلص ويتقلص حتى انتهى به المطاف إلى أن ذاب، وأصبح بحيرةً من الماء!

كطفل لم يكمل العقد الأول من عمره، كنت أعلم في داخلي، أنه من المستحيل، عقلاً ومنطقاً، تصديق هذا النوع من القصص، إلا أني كنت أبقي أفكاري هذه في رأسي، ثم أنكرها، خوفاً من غضب الله.

جدّي معلّمي الأوّل

كان جدّي معلمي الأول، وشيخي المربي الذي أتّصل بالله من خلاله. عندما قررت صحبته، واتخاذه معلماً، كنت في الـ17 من عمري.

أذكر أول ما قاله لي، وهو أني أستطيع تطبيق الدين كله، والوصول إلى الولاية، بتجنب ثلاثة أفعال ذُكرت في حديث نبوي واحد: "آيات المنافق في ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان."

كان جدّي يُكثر الحديث عن الخلق الحسن، وتربية النفس، وحب الذات الإلهية، وغيرها من المصطلحات الصوفية.

"كطفل لم يكمل العقد الأول من عمره، كنت أعلم في داخلي، أنه من المستحيل، عقلاً ومنطقاً، تصديق هذا النوع من القصص، إلا أني كنت أبقي أفكاري هذه في رأسي، ثم أنكرها، خوفاً من غضب الله"

ولكن الأهم من هذا وذاك كله، هو رؤيتي لشيخي، فالتعاليم كلها تذهب هباءً، إذا لم أكن مخلصاً له، محباً إياه إلى درجة الفناء، مفشياً له أسراري كلها، ملغياً نفسي في حضوره، فهو الآن صورة الله، ورسوله على الأرض…

تأثرت جداً به، حتى أنّي صرت أراه في مناماتي منقذاً لي، أنا الغريق في بحور الدنيا الغادرة.

أخبرته عن ذنوبي، وعن عثراتي كلها، وعن معاملة أبي التي كنت أراها سيئة، وعن ذهابي إلى معالِجة نفسية، وعن الفتاة الأولى التي أحببتها، والتي تكبرني سناً.

حرفياً، لقد محوت نفسي عنده، فهذا هو شرط قبول الشيخ لمريده.

كان ذكياً جداً. استطاع الوصول إلى أعمق نقطة فيّ، بحجة أنه شيخي المربي، وصورة ربي، ورسوله.

لم أكن مُكرَهاً أبداً على ما أفعله، بل أرى نفسي دائماً مقصّراً، وأركض جاهداً للمثول أمام شيخي المربي، لإخباره بأني شاهدت فيلماً إباحياً، وتبعت شهوات النفس، وأرجوه أن يدعو الله لي، بالمغفرة والهداية.

صوّرته في مخيلتي على أنه هو الله. إذا كان راضياً عني، فإن الله راضٍ، والعكس صحيح. ألجأ إليه عند كل موقف يؤلمني، وأطلب منه الرضا والدعاء، وغفران زلاتي التي حتماً سقطت مني سهواً.

ومع هذا كله، لم أكن المُريد (التلميذ) المثالي، في نظره. كان يردد لي، أن السر كله في الحب، والحب لا يكون إلّا بالفناء، وهو أصل المحبة، وأن حب العبد لربه لا يتحقق إذا لم يحب شيخه أولاً. لم أكن أعرف ما الذي يجب عليّ فعله، وأشعر بالنقص، والتقصير، وألوم نفسي، وأجلدها، وأقسو عليها، حتى أنه لا يصح أن أفرح بفعل الطاعة، فهذا من باب التكبّر، بل يجب عليّ التضرع، راجياً قبولها.

كذب وأخلف وخان

بقيتُ على هذا الحال، إلى أن صُدمت بمعرفة الوجه الحقيقي لشيخي الإلهي.

فبعد حادثة انفصال أهلي، تحيّز جدي، بطبيعة الحال، لأمي، ابنته الكبيرة، واستخدمني كمَكسر عصاً، فكذب في الحديث، وخان الأمانة، وأخلف وعده.

أراد أن يثبت لصهره أنه أب فاشل، فأفشى أسراري كلها التي كانت أمانة عنده، وأخلف في وعده بأن يحفظها لي، وكذب في نقلها، لتتماشى مع هواه.

وقفتُ مذهولاً أمام ما أرى، وأسمع، من السُباب والشتائم الصادرة ممّن اتّخذته ولياً، وممَّن سهرت معه ساعاتٍ يعلمني فيها عن حسن الخلق، وضبط النفس، وكظم الغيظ: أيُعقل أنّي في إحدى الرؤى التي سأخبره بها بعد استيقاظي؟ أم أن لهذه الأفعال حكمة ما، لا يراها العباد العاديون أمثالي؟

"كانت صدمة كبيرةً جداً لي، لكنها أودت بي إلى مكان مختلف تماماً عمّا كنتُ عليه، فأعدتُ النظر في العقائد والعادات والمواريث التي تربّيت عليها، كلها"

لا لم تكن. إنها الحقيقة الأولى التي كُشف عنّي غطاؤها. جدي هذا، الشيخ الذي يدّعي التصوف والولاية، منع أمي وأخي من التواصل معي، شهوراً عدة، مبرراً لنفسه أن ما يفعله يصبّ في مصلحتنا جميعاً.

ليالٍ قضيتها محدّقاً في سقف حجرتي، أسترجع أحاديثنا الطويلة، وأتذكر حماقتي وسذاجتي.

وقفتُ على حافة الاكتئاب. استخدمت الكثير من العقاقير. أيام طويلة قضيتها في غرفتي، لم أخرج منها قط، أدور فيها كالمجانين، وأتكلم وأبكي بمفردي، وأحترق، ثم أنام.

كانت صدمة كبيرةً جداً لي، لكنها أودت بي إلى مكان مختلف تماماً عمّا كنت عليه، فأعدتُ النظر في العقائد والعادات والمواريث التي تربّيت عليها، كلها.

هكذا تُستغلّ عواطف الكثيرين من الناس، وربما لهذا سمّوهم الدراويش.

يستخدمون الفلسفة الصوفية لأغراض شخصية، وشعبوية، وربما سياسية. يستخدمون ألسنتهم بليغة الكلام، والدين، "وكشف حقائق الوجود" (كما يدّعون)، وغيرها من الأغراض التي تصعب على العامة.

التصوّف الآخَر

أما الفلسفة الصوفية، فعلى عكس ما تعلمته من جدي، أرى الآن بعد قراءتي الكثير عنها، وعن روّادها، أنها تدعو كثيراً إلى التمرد، والتفرد، وتحدّي العادات الدينية المتوارثة، شكلاً لا مضموناً، وإلى الحرية والحب، ومعرفة الإله بشكل ميتافيزيقي، لا مادي.

فالتصوف ليس مذهباً إسلامياً، أو طائفة من إحدى طوائفه، بل هو تيار فكري روحي كتب عنه الكثيرون من الفلاسفة العرب، والأتراك، والفرس، وغيرهم، المسلمون منهم، والمسيحيون، والبوذيون، والهندوس، وحتى اللادينيون، كالمتصوف الهندي أوشو، الذي في رصيده الكثير من المؤلفات والكتب، ويقول في "كتاب الحكمة": "يتميز القرن العشرون بوجود أكبر عدد من الناس الذين يتساءلون عن معنى الحياة، ولماذا نستمر في هذا العيش القاسي، والعنف، والقتل، والمجازر، والحروب الأهلية التي تتكاثر في العالم".

أما الحلاج، الشاعر الصوفي العباسي الذي كُتب عنه، وعن فكره، وحياته، وموته، الكثير، فقد كتب عنه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، في كتابه "آلام الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي"، أنه انحرف عن الطرق السائدة في حينه، سواء الدينية منها، أو السياسية، وحتى الطرق الصوفية، فأنكر عليه الكثيرون ممَّن عاصروه من المتصوفين، ما قال، وما فعل.

وأصبح الحلاج في الأسطورة الإسلامية عند الشعراء العرب، والفرس، والترك، والهندوس، والماليزيين، نموذجاً لـ"العاشق الكامل" لله، بعد أن حُكم عليه بالصلب، لسكرته في صيحة الحال: "أنا الحق".

ورأى ماسينيون، في قصة موته، وصلبه، وتقطيع أطرافه، أنه فدى أتباعه من البلاط العباسي، مقارنه بالمسيح الذي قضى على السبيل ذاته.

كما حدث مع الحلاج، يحدث الآن، وحدث مع الكثيرين ممَّن اتخذوا التصوف مذهباً، إذ يجدون سيوف الدين قد رُفعت في وجوههم، بتوجيه من السلطات التي تخشى التمرد، كما تخشى الموت، بل أكثر.

والتصوف يحث بشدة على التمرد على النفس، والسلطات بأنواعها كافة، وعلى عدم المثول لها، كأتباع يخشون الحاكم، ولهذا يحارَبون من التيارات السلفية الوهابية التي تكفّرهم، وتصفهم بأصحاب الشطحات والبدع، وتُحِلّ في الكثير من الأحيان إراقة دمائهم.

تجربتي المدمرة مع جدي، جعلتني أكره الدين، والتصوف، والشيوخ، ومن يتلفظون بأسماء الله كلهم، لكن ذلك كان لحظياً، وردّة فعل على فعل قاسٍ وبشع. لاحقاً، أثارت فضولي لمعرفة الحقائق كما هي، ومن دون أقنعة، أو شيخ يصحبني، ليلامس الشك معتقداتي كلها. والشك بداية اليقين.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image