معاناة النساء في لبنان مضاعفة في ظل الانهيار الاقتصادي. فمنذ بدء الأزمة التي شملت كل جوانب الحياة تمّ تهميش حاجات النساء الأساسية من خلال عدم دعم السلع الخاصّة بهنّ مثل الفوط الصحية أو من خلال وصول الحال إلى انقطاع أدوية منع الحمل وتحديد النسل التي صارت شبه مفقودة في أغلب الصيدليات. وفي حال وجدت فبكميات محدودة وسريعة النفاد. وعليه، بات غياب هذه الأدوية الوقائية من حياة النساء يؤدي في بعض الحالات إلى حمل غير مرغوب، وتلقائياً إلى خوض إجهاض قد يكون غير آمن أو غير متوفّر بسهولة.
أجسادنا كنساء محتكرة منذ القدم، واليوم يزيد احتكارها الانهيار في لبنان
بحسب تقرير كانت قد أعدّته منظّمة أطبّاء بلا حدود، فإن 7,000,000 امرأة وفتاة يعانين مضاعفات الإجهاض غير الآمن كل عام و97 بالمئة من عمليات الإجهاض غير الآمن تحصل في البلدان النامية. وتعتبر نحو 45 بالمئة من حالات الإجهاض عالمياً غير آمنة، وتموت أكثر من 22 ألف امرأة وفتاة سنوياً بعد الإجهاض غير الآمن، حسبما أفاد تقرير شامل صدر عام 2018 عن معهد غوتماكر.
الأدوية مفقودة في صيدليات بيروت
في جولة على أربع من أهم صيدليات بيروت تم إبلاغنا عند السؤال عن أدوية منع الحمل، أنها فُقدت من السوق منذ أكثر من شهر وأنه في حال توفّرها فإن سعر العلبة الشهرية الواحدة من دواء “ياسمين” مثلاً، وهو دواء منع الحمل، صار يبلغ حوالي الـ104000 ليرة لبنانية بينما كان يبلغ سعره قبل عام حوالي الـ21000 ليرة لبنانية.
في مناطق أخرى، تؤمّن الصيدليات عدداً محدوداً من هذه الأدوية لأن الطلب في القرى أدنى من الطلب في بيروت، وبالتالي باستطاعة الصيدلاني أن يؤمّن الكمية المطلوبة للزبونة بحسب طلبها. وعن هذا الأمر بالتحديد يقول الصيدلاني أ. ح. المقيم في جنوب لبنان: “حبوب منع الحمل لم تنقطع نهائياً. لكنّ الشركات تتحكّم بالكميات التي تصلنا. لدي عدّة أنواع مثل: Yasmin ,Microgynon ,Marvelon. لكن لا يصلني من النوع الواحد أكثر من علبتين وأحياناً ثلاث، يتم شراؤها في الأسبوع الأوّل فور وصولها وأنا بدوري أحرص على بيع زبوناتي كي لا ينقطعن عن أدويتهن".
شح الأدوية الضرورية لأجساد النساء وتحديداً لخياراتهن المرتبطة بالجنس والأمومة عرّض في الفترة الأخيرة عدداً منهن للكثير من المخاطر الجسدية والاجتماعية، إن كان عبر إنهاء حمل غير مرغوب به والمصاعب التي تأتي مع هذا الفعل، أو من خلال عدم توفّر الوسائل الكافية لتأمين الحماية من الحمل، وبالتالي خوفهنّ الدائم من اختبار إجهاض في المستقبل.
إجهاض منزلي ونزيف
“استطعت أن أؤمّن كمية كافية من دواء السايتوتك من قبل صديق أعرفه يعمل في السلك الطبي، لكن حبوب الميفيبريستون التي تعتبر غير قانونية في الأساس في لبنان كانت مفقودة تماماً، وبالتالي نزفت لمدّة أسبوع دون أن يحصل الإجهاض بالكامل”.
وكأن الأزمة تفرض علينا أن نحبل وأن ننجب ونحن نحاول بقدراتنا المادية أن نتّخذ كافة وسائل الحماية الممكنة، لكنها فعلًا لم تعد متوفّرة
في بيتها الواقع في منطقة عرمون، بكت ريمي (اسم مستعار- 25 عاماً) ثلاثة أيام حين علمت بخبر حملها غير المخطّط له.
في إحدى المرات وأثناء ممارستها الجنس مع خطيبها شعرت ريمي بتمزّق الواقي الذكري فقصدت الصيدلية بهدف الحصول على حبوب الصباح التالي وهي نوع من وسائل تحديد النسل الطارئة، يتم استخدامها لمنع الحمل في حالة المعاشرة الجنسية دون استخدام وسيلة لمنع الحمل، أو في حالة فشلها. وكانت صدمتها أن الحبة غير متوفّرة في الصيدليات. انتظرت ريمي حتى اليوم الثالث إلى أن وجدت الحبّة التي ابتاعتها من السوق السوداء بمبلغ بلغت قيمته 300 ألف ليرة، في حين كانت تبلغ التكلفة قبل أكثر من عام 40 ألف ليرة.
تناولت ريمي حبّة الدواء واعتقدت أنها ستكون بخير. لكنها بعد حوالي الثلاثة أسابيع اكتشفت أنها حامل، في مقابلة أجرتها مع رصيف22، تشرح ريمي قصّتها: “لجأت إلى طبيبي النسائي وأخبرته عن كل الخطوات التي اتخذتها بهدف تجنّب الحمل، وأعلمني أنني كنت في فترة الإباضة وأنني انتظرت طويلاً قبل الحصول على الدواء وبالتالي تم التلقيح. من هناك بدأت رحلة بحثي عن الأدوية بهدف التخلّص من الحمل. اخترت استخدام الدواء في المنزل بدلاً من إجراء عملية في العيادة أي عملية شفط، لأن الأخيرة كلفتها عالية وتصل إلى حوالي 400 ألف ليرة، أي ما يضاعف قيمة راتبي الشهري. لكن للأسف في نهاية المطاف عدت وخضعت لها، لأنني عانيت من نزيف حاد بسبب عدم قدرتي على تأمين الدواء الأساسي وهو الميفيبريستون الذي يثبط إنتاج البروجسترون، ويزيد من تقلص عضل الرحم، ويؤثر على بطانة الرحم. ونتيجة لذلك، ينقطع الحمل وتفرز بويضة الجنين”.
بعد عدّة أيام من تناول حبوب السايتوتك واختبار تقلّصات تشبه تقلّصات الولادة أدركت ريمي أن الحمل لم ينتهِ، وحين لم يتوقّف النزيف عادت إلى العيادة حيث أخبرها الطبيب بضرورة إجراء العملية الجراحية كي لا يتعرّض رحمها لمضاعفات.
الجلد مستمر على أجساد النساء، وهؤلاء هن اللواتي يحتجن للمساعدة لأن العار الاجتماعي قاتل
دفعت ريمي مع خطيبها كلفة العملية والأدوية والفوط الصحية وقرّرا عدم دفع بدل إيجار المنزل لهذا الشهر. في حديث لرصيف22، يقول خطيبها: “هذا أسوأ ما اختبرناه طوال فترة علاقتنا المستمرة منذ خمس سنوات. طبعاً لا يمكنني أن أقارن قلقي بمعاناتها النفسية والجسدية، لكن فعلاً كل ما اختبرناه هو من ناحية مباشرة أو غير مباشرة نتيجة الانهيار الاقتصادي. الواقي الذكري الذي ابتعته تمزّق لأنه كان من نوعية غير جيدة وذلك لأن الأنواع الأخرى صار سعرها خيالياً، فمثلًا علبة الدوريكس الصغيرة سعرها يُقارب 300 ألف ليرة ويختلف بين صيدلية وأخرى، وفي الوقت عينه وسائل منع الحمل غير متوفّرة، وأدوية الإجهاض أيضاً. وكأن الأزمة تفرض علينا أن نحبل وأن ننجب ونحن نحاول بقدراتنا المادية أن نتّخذ كافة وسائل الحماية الممكنة، لكنها فعلاً لم تعد متوفّرة. بالتأكيد نحن غير قادرين على إنجاب طفل وتحمّل تكاليفه في الوقت الحالي في لبنان”.
عمل النساء السري
تشرح ميسم (اسم مستعار) وهي عاملة اجتماعية في الصحة الإنجابية والجنسية أن الجمعيات التي لم تكن معنية سابقاً بتأمين الأدوية صارت اليوم تحاول أن تؤمّنها بسبب الشح والاحتكار المسيطرين، وذلك تلبية لحاجات النساء المتزايدة في ظل الانهيار الاقتصادي.
في جولة على أربع من أهم صيدليات بيروت تم إبلاغنا عند السؤال عن أدوية منع الحمل، أنها فُقدت من السوق منذ أكثر من شهر
في السابق، كان بإمكان النساء أن يقصدن صيدلية وأن يحصلن على الأدوية اللاّزمة من قبل معارف لهنّ، وطبعاً بأسعار مضاعفة وبتدقيق من قبل أصحاب الصيدليات. كما أن بعض الأطباء كانوا يؤمّنون الأدوية للنّساء اللواتي يقصدهنّ وأيضاً بكلفة أعلى. الآن، الأدوية ليست متوفّرة في الصيدليات، وبالتالي تلجأ النساء للجمعيات.
تقول ميسم: “في لبنان يوجد إجهاض آمن إلى حد ما، فالنساء قادرات على التخلص من الحمل غير المرغوب به في نهاية المطاف، ولو أن الطريق ليست سهلة بسبب الاستغلال الذي يحصل والكلفة العالية والقلق الاجتماعي.
بمعزل عن الانهيار الإقتصادي الصعوبات موجودة. لكنها اليوم صارت أصعب بكثير لأن الأدوية محصورة بجمعيات محلية ودولية تحاول أن تملأ الفراغ الحاصل في السوق.
تردنا في الفترة الأخيرة اتّصالات عن حاجات أساسية مفقودة مثل الفوط الصحية والملابس، وفي ظل كل هذا يبدو أن حالات الإجهاض مستمرة وتأمين الأدوية من الخارج مستمر، لكن الطلب ارتفع ونحاول قدر الإمكان تلبية حاجات الحالات الصعبة، مثل النساء اللواتي تعرّضن للاغتصاب أو النساء المعرضات للخطر الاجتماعي من قبل المحيط في حال ظهر الحمل”.
تؤكّد ميسم أن الأدوية متوفّرة بمحدودية لدى الجمعيات لكن العديد من النساء لا يدركن وجودها، لأنهن لا ينتمين لشبكة العلاقات التي بإمكانها أن تشرع أمامهن أبواب الجمعيات التي تعمل “تحت الأرض”، لكنّها متوفّرة أمام النساء اللواتي يطلبنها.
إجهاض غير آمن
قبل ثماني سنوات، وأثناء إقامتها في منزل ذويها تعرّضت ز. ز. (27 عاماً) لحمل غير مرغوب، وحاولت أن تتخلّص منه عبر استخدام آلة حادّة وضرب معدتها بقوّة.
“كنت صغيرة جداً، وغير منتمية لمجموعات قادرة على مساعدتي في ذلك الحين. وبالتالي حاولت أن أفعل ما كنت أشاهده في الأفلام. في نهاية المطاف ساعدتني شقيقة صديقتي عبر أخذي لطبيب في ضواحي منطقة صيدا أجرى لي عملية إجهاض آمنة. منذ تلك الفترة وأنا أساعد الفتيات للحصول على إجهاض آمن، وذلك لأنني أعرف من تجربتي، أنه لو لم يتوفّر حق الإجهاض أمامي كنت سأموت إمّا قتلاً من عائلتي، أو من المضاعفات الجسدية التي كنت سأتسبب بها لنفسي”.
تعمل ز. اليوم على تأمين الأدوية والإرشادات اللازمة للنساء المتزوجات وغير المتزوجات المقيمات خارج بيروت، وتشرح: “النساء والفتيات اللواتي لا يملكن القوة الاجتماعية المتشعّبة من الانتماء لمحيط مليء بالنساء الفاعلات، يعتقدن أن الحمل هو نهاية حياتهن. وهو كذلك في حال لم يتلقين المساعدة اللازمة. فهؤلاء النساء يتم نبذهنّ وسجنهنّ في المنزل العائلي، وقد يصل بهن الأمر إلى التعرض لجريمة قتل بداعي الحفاظ على شرف العائلة. وهؤلاء تحديداً في ظل الانهيار الإقتصادي هن الفئة المهمّشة، ومنهن لبنانيات وغير لبنانيات.
لو لم يتوفّر حق الإجهاض أمامي كنت سأموت إمّا قتلاً من عائلتي أو من المضاعفات الجسدية التي كنت سأتسبب بها لنفسي
أجسادنا كنساء محتكرة منذ القدم، واليوم يزيد احتكارها الانهيار في لبنان. ولبنان ليس بيروت فقط. العاصمة تؤمّن قوّة للنساء أكثر من باقي المناطق، عبر إمدادهنّ بالوسائل اللازمة من قبل نساء يعملن طوال الليل والنهار في هذه المعركة. ولا أقول هذه العبارة بهدف الانتقاد، بل بهدف عكس الواقع الذي يبرهن لي يومياً أن الكثير من النساء حتى اللحظة يتم إنهاء حياتهن في القرى والمجتمعات المحافظة بسبب قراراتهن الشخصية. وفي ظل الانهيار الاقتصادي وغياب الدولة والجلد المستمر على أجساد النساء، هؤلاء هن اللواتي يحتجن للمساعدة، لأن العار الاجتماعي قاتل”.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...