دخلت الفنانة المصرية مريم صالح عالم الفن من بوابة المسرح، تحديدًا مع فرقة والدها “السرادق”، فقدّمت عروضًا يختلط فيها الترفيه بالغناء والتمثيل. أسّست فرقتها الأولى “جواز سفر” عام 2002 وعملت من خلالها على نشر تراث الشيخ إمام بين أبناء جيلها، وهو ما استكملت فعله عام 2008 مع فرقة سايكدليك روك “بركة”.
بين عامي 2015 و2018 أدّت صالح عشرات العروض على مسرح “مترو المدينة” في بيروت، لكن التجربة توقفت بعد ولادة ابنتها الأولى، وتفشّي وباء كورونا واضطرارها إلى الانتقال مجددًا إلى مصر.
رصيف22 حاورها أثناء إقامتها في بيروت على هامش عودتها بعد غياب لتقديم عرضي “الفرح الشعبي” أغاني أحمد عدوية و”أغاني سرفيسات”. في ما يلي نص الحوار.
مريم صالح
كيف تصفين تجربتك مع “مترو المدينة”؟
كما تعلم، لم تكن المرة الأولى التي أصعد فيها على المسرح كممثلة. خلال طفولتي عملت مع فرقة أبي “السرادق” التي أعتبرها من التجارب الاستثنائية في حياتي، ولم يكن هناك ما يضاهيها متعة لكنّها توقفت بعد وفاته.
في “مترو المدينة” شعرت بالعودة إلى تلك الطفلة التي كنتها مع أبي. وجدت في المكان أشخاصًا أصبحوا بمثابة أفراد عائلتي. يحبونني دون شروط، يحزنون لحزني ويفرحون لفرحي.
أهمية “مترو المدينة” الأساسية تقع في الجرأة الفظيعة المقدّمة في العروض. فهذا النموذج لا نجد شبيهًا أو قريبًا له في المنطقة العربية رغم تعطّش الناس لهذا النوع.
من ناحية أخرى يضم المكان موسيقيين مؤسّسين بشكل جيد وسمّيعة، وأشخاصًا يعرفون جيدًا ما يقومون به. كما أن المخرج هشام جابر استثنائي ولديه العين الخاصة التي تربط جميع العناصر بعضها ببعض. وقد رآني بشكل مختلف وتمكن من الضغط على الأزرار التي تستطيع إخراج أفضل ما في داخلي بطريقة فطرية.
في “مترو المدينة” شعرت بالعودة إلى تلك الطفلة التي كنتها مع أبي.
عام 2012 أطلقت مريم صالح ألبومها الأول “أنا مش بغني” والذي تبنّت فيه أساليب تجريبية في الموسيقى ودرامية في الغناء والألحان جعلتها مستوحاة من المسرح. حينذاك عكس الألبوم بشكل غير مباشر المناخ التمردي الذي كان يشهده العالم العربي، عبر استخدام الإيقاعات الصاخبة التي تلامس الميتال والسايكدليك روك.
تناقلت وسائل الإعلام في العام 2018 خبر منعك من الغناء في مصر، لكنّك نفيت الخبر. هل يمكنك توضيح ما حصل؟
بدأت القصة بهجوم شنّته فنانة معروفة على فيسبوك بعد سماعها أغنية “أنا مش بغني” إذ ادّعت أنها أصبحت عاجزة عن النوم، مستغربة كيف يُسمح لي بالغناء أصلاً في مصر. ممّا خلق شبكة تفاعل معها من قبل مجموعة من الفنانين الذين ينتمون إلى جيلها، تبنّوا الآراء نفسها وارتأوا أيضًا أنّه يجب منعي ومنع الفنانين الذين يشبهونني من الصعود على المسرح. علمًا أن تلك الفترة شهدت حوادث منع شبيهة لفنّاني المهرجانات بشكل خاص.
عَرفت بمنعي من الغناء من خلال رسالة خاصة تلقّيتها من أحد الأشخاص، إلا أنني لم أتلقَّ قرارًا رسميًا. وحتى اللّحظة لا أعرف إن كنت فعلًا قد مُنعت. نعم، مرّ بعض الوقت دون أن أتلقى دعوات للغناء على مسارح مصرية، لكن ليس بالضرورة لهذا السبب.
لاحقًا، بدأ يتردّد بين الفنانين أن ما حصل معي يتعلق بألبوم “الإخفاء” الذي ربما رأت الرقابة أن كلمات إحدى أغنياته “تسكر تبكي – ميدو زهير” خادشة للحياء العام. لا أعرف إن كان ذلك صحيحًا، لكن جميع الدعوات التي تلقيناها في مصر لاحقًا لأداء هذا الألبوم كانت محصورة ضمن الحلقة الضيقة التي تضم مؤسّسات أوروبية كالمعهد الفرنسي مثلًا، ولم تحصل دعوات من مسارح مصرية معروفة.
لا آخذ بعين الاعتبار احتمال حصول المنع، فأنا لا أستطيع العمل في حال شعرت بأنّني أمارس رقابة ذاتية على نفسي
تعاونت صالح خلال مسيرتها مع عدد كبير من الفنانين العرب والأجانب، من بينهم زيد حمدان في “حلاويلا” الذي أعاد توزيع أغاني الشيخ إمام من وجهة نظر موسيقى التريب هوب الإلكترونية. ومع تامر أبو غزالة وموريس لوقا في “الإخفاء” الذي يحاكي جزءًا منه موسيقى المهرجانات، ويُعتبر تجربة استثنائية في المشهد الموسيقي العربي خلال العقد الماضي.
هل للمنع علاقة بعدم حصول ألبوم “الإخفاء” على النجاح المنتظر في مصر؟
صحيح أن الاهتمام الذي تلقاه الألبوم في أوروبا أو بعض البلدان العربية يفوق الاهتمام الذي تلقاه في مصر، لكن ذلك ليس له علاقة بالمنع أو بوجود شتيمة في إحدى الأغنيات. ببساطة تلك الفترة شهدت اهتمامًا أكبر من الجمهور بأنماط أخرى مثل الراب والتراب، ولم تكن لحظة مثالية للألبوم.
لم أعد راغبة بالتحدث عن حادثة المنع بشكل عام. إذ صرت أعتبرها من الماضي، خاصّة بعد مرور وقت طويل عليها مرفقًا بالكثير من الأحداث الأخرى. كما أنّني اليوم، عدت لتقديم الحفلات في مصر بشكل طبيعي كما السابق وفتحت صفحة جديدة.
هل ذلك يعني أنك أصبحت تسيرين قرب الحائط كما يقول المثل؟
لا طبعًا. لم أفعل ذلك يومًا. ليس قبل الثورة، وليس بعدها. حين أختار القصائد أو الكلمات، لا آخذ بعين الاعتبار احتمال حصول المنع، فأنا لا أستطيع العمل في حال شعرت بأنّني أمارس رقابة ذاتية على نفسي. وذلك لأنّني فطرية، أقول الأشياء مباشرة وأعود لأفكر بها لاحقًا. كما أنّني مؤمنة بأن الفعل السياسي لا ينبع من الأسلوب الخطابي المباشر فقط، فحديثي عن ذاتي وأزماتي الشخصية هو فعل سياسي أيضًا.
عندي رغبة بالتوقف عن إدخال المزايا الحزينة في ألبوماتي، خاصة أنّني صرت في مكان بعيد عن تلك الفتاة الكئيبة التي كنتها سابقًا
هل تحضّرين أعمالًا جديدة؟
انقطعت خلال السنتين الماضيتين عن العمل في الموسيقى بسبب انشغالي بولادة ابنتي والإغلاق العام الذي فرضته جائحة كورونا. لكن قبل ذلك، كنت أحضّر لعدّة مشاريع من بينها ألبوم يتضمّن عشر أغنيات، يتولى إنتاج كل تراك منتج خاص بينما تُربط الأعمال بعضها ببعض من خلال ألحاني وكلماتي. من الفنّانين الذين تواصلت معهم يومها مولوتوف والناظر، لكن المشروع تأجل، وفقط منذ شهر عدت للعمل عليه على أمل أن لا يعود للتوقّف مرة أخرى.
تنتمي هذه الأسماء إلى أنماط لم يعتدها الجمهور منك. من أين أتى هذا التوجه؟
منذ سنوات، وأنا مأخوذة بما تشهده أنماط موسيقية مثل التراب والراب والمهرجانات من تطور. أتحدّث هنا عن مشهد يضم أسماء مثل أبيوسف، وشب جديد، ويجز، وزوكش دبل، وعنبة، وأبو سهر. بالإضافة لأسماء جديدة تظهر كل فترة. من الأشياء التي تثير اهتمامي هي طريقة تعاملهم مع اللغة وأسلوب رمي الكلمات على الإيقاعات كما في حالة أبيوسف والناظر، بالاضافة للإخلاص للنمط عوضًا عن الفنان نفسه كما في حالة شب جديد الذي أعتقد أنه من أكثر الذين طوّروا العمل في المجال.
مريم صالح على خشبة مسرح مترو مدينة- تصوير لارا نهرا
مؤمنة بأن الفعل السياسي لا ينبع من الأسلوب الخطابي المباشر فقط، فحديثي عن ذاتي وأزماتي الشخصية هو فعل سياسي أيضًا
وهل هنالك مشاريع أخرى؟
هناك أكثر من مشروع أعود للعمل عليها اليوم بعد توقف، مع موسيقيين في أوروبا والعالم العربي. ربما الأكثر إثارة للإهتمام بينها هو مشروع بحثي كنت قد باشرت بكتابة قسم منه، وهو يتمحور حول المعتقدات والعادات العربية المرتبطة بالموت.
من أين أتى اهتمامك بهذا الموضوع؟
واجهت في عمر مبكر موت والدي القاسي في حريق مسرح “بني سويف” وقد ترك ذلك أثرًا كبيرًا عليّ ولا يزال سببًا لعدم الاتّزان في حياتي. بالإضافة لموت أصدقاء وأشخاص مقرّبين منّي. وصلت مؤخرًا لمرحلة صرت أنسج فيها باستمرار سيناريوهات سوداء حول الأشخاص الذين أحبهم. طبعًا تفاقمت هذه المشكلة خلال مرحلة تفشّي فيروس كورونا، لكنها لم تكن سوى حلقة من سلسلة مستمرة. في النهاية قررت التوقّف عن الهروب والبدء بإخراج هذه “الحتّة” مني لأواجهها، ولأتمكّن من رؤيتها من مسافة أبعد.
من ناحية أخرى، أنا مهتمة بالتراث المرتبط بالرثاء والموت مثل أشعار العديد في الصعيد والترانيم التي تتمحور حول الصلب عند المسيحيين بالإضافة للندبيات عند الشيعة التي كنت أسمعها خلال وجودي في الكويت. كل قبيلة أو طائفة لديها تراثها الخاص بالموت، لذلك قررت اختيار نماذج منها لإعادة العمل عليها، والتركيز على المزايا اللحنية والأدائية التي أجدها استثنائية وجميلة.
مهتمة بالتراث المرتبط بالرثاء والموت مثل أشعار العديد في الصعيد والترانيم التي تتمحور حول الصلب عند المسيحيين بالإضافة للندبيات عند الشيعة
كما أن عندي رغبة بالتوقف عن إدخال هذه المزايا الحزينة في ألبوماتي وأعمالي الأخرى، خاصة أنّني من الناحية الفنية صرت في مكان بعيد عن تلك الفتاة الكئيبة التي كنتها سابقًا. ولهذا السبب كان لا بد من التركيز على مشروع واحد أواجه فيه مخاوفي، مستخدمةً العناصر المرتبطة مثلًا بخامة الصوت أو الألحان التي لا أستطيع وضعها في ألبوماتي. في النهاية، ليس عليّ أن أوزع شريط بروزاك مع كل ألبوم جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...