تحاصرني الصور وتتكاثر بعد مسير أكثر من ساعة ونصف الساعة في سوقي الحميدية والحريقة، فأقرر الاستراحة على شبه مقعد حجري عند الجامع الأموي، لأسند ظهري لحائطه وأخرج دفتري وأخربش بعض الأفكار.
أعجز عن مقاومة العطش، بعد أن منعني خجلي من أن أشرب في العلن و"الدنيا رمضان"، فأخرج عبوة ماء من حقيبتي وأرتشف ربعها وأعيدها وأنا أخاف النظر حولي لئلا أرى عيوناً لائمة تحدق بي.
منذ يومين، وأنا أشرب بعض المياه في الطريق، رمقني رجل أربعيني بنظرة لم أعلم هل ساخرة هي أم غاضبة، وصاح بي: "انشالله ألف صحة".
سوق الحميدية لا يزال شبه فارغ، فالساعة لا تتجاوز الواحدة ظهراً، والحركة في رمضان تبدأ في وقت متأخر نسبياً خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة.
تنتشر البسطات على جانبي السوق المسقوف، والذي يعود تاريخه إلى أكثر من مئتي عام، وفي كل مرة أرتاده، أعجب كيف تستقر قطعة كرتونية سميكة كبيرة - أشبه بماكيت الرسامين - على كرسي لا يصلح سوى لجلوس الصغار، ويضع صاحب البسطة فوقها عشرات قطع الملابس، دون أن تهتز أو تقع.
أعتقد أنها واحدة من مهارات "التجار الدمشقيين". أرى امرأة تجلس أمام بسطة ملابس، وهو أمر غير مألوف كثيراً في المدينة. تضع أمامها كيسين أسودين كبيرين يحتويان على بضاعة متنوعة: ثياب داخلية، ثياب نوم، مناشف، وتنتظر قدوم الزبائن دون أن تدعوهم لذلك كما يفعل معظم أصحاب البسطات من شباب وأطفال وكبار في السن.
يلاحق أحد العساكر المنتشرين على طول السوق فتاة صغيرة تبيع الورود مطالباً إياها بالابتعاد والتوقف عن البيع. لا أعلم بأي داعٍ، لكنه يغض البصر عن طفل أصغر منها، يضع أمامه بضع عبوات ماء مثلج، ويبيعها متناسياً شهر الصيام، وتهرب الفتاة الصغيرة لتختفي في أحد الأزقة.
مع ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الليرة السورية، بتنا نقسم أي سعر نسمعه على 10، لنعرف كم كان يعادل قبل أعوام
تغيب أجواء الصيام هذا العام عن طرقات دمشق. هل انخفض عدد الصائمين؟ هل امتنعوا عن الصيام لسوء الأحوال؟تغيب أجواء الصيام هذا العام عن طرقات دمشق. هل انخفض عدد الصائمين؟ هل امتنعوا عن الصيام لسوء الأحوال الاقتصادية؟ أم أن غير الصائمين باتوا أكثر جرأة في الإعلان عن مواقفهم؟ نقاشات دارت بيني وبين أصدقاء خلال الأيام الفائتة دون التوصل لنتيجة حاسمة، لكن ما نعلمه هو أن كثيراً من محال الأطعمة تفتح أبوابها خلال ساعات النهار في رمضان على غير المعتاد. مع ذلك، لا أزال غير متأقلمة مع فكرة تناول أي أطعمة أو مشروبات بشكل علني خلال هذا الشهر، وأفضل أن أتوارى قدر الإمكان لدى قيامي بذلك. أنعطف نحو المسكية وسوق الألعاب، لا أبحث عن شيء معين لكني أحب "الفرجة". أرى أقنعة صغيرة أعتقد بأنها يمكن أن تفرح أطفال العائلة. سعر القناع 50 ليرة سورية، أي عشرة سنتات. مع ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الليرة السورية بمقدار عشرة أضعاف، باتت لدينا عادة تقسيم أي سعر نسمعه على عشرة، لنعرف كم كان يعادل قبل ستة أعوام، وإن كان باهظاً أم معقولاً. "خمسون ليرة؟ يعني خمس ليرات... يا بلاش"، أهمس لنفسي وأطلب منه أربعة أقنعة، رغم أنها شبه ورقية ولن تصمد في أيدي الأشقياء الصغار أكثر من نصف ساعة. يحرص البائع العجوز على التأكد من أنها أربعة، ومن عدم وجود قناعين ملتصقين أحدهما بالآخر، يضعها في كيس، ويتأكد من أني أعطيته مئتي ليرة بالتمام والكمال. "ميتين يعني عشرين..."، أهمس مرة أخرى لنفسي. أعود للسوق الرئيسي، أرى سياحاً أو زواراً، ليسوا سوريين. في مناسبات أخرى، سيحلو لكثيرين التحليل بشأن جنسياتهم، وسيمطروننا بأسئلة لا تعنيني الآن في شيء. أكمل المسير لأخرج من السوق. تقفز الفتاة الصغيرة بائعة الورود أمامي من جديد، وتحاول التواري بين المارة الذين بدأوا بالازدياد، والتخفي عن عيني العسكري. أخرج من الحاجز المقام أول الطريق عند باب الحميدية، والذي يقف عليه شاب وفتاة بملابس عسكرية بهدف تفتيش الداخلين للسوق. أتجه نحو سوق باب سريجة القريب. أتساءل "هل حقاً أزالوا البسطات؟". فمع أول أيام شهر رمضان، صدر قرار عن محافظة دمشق بمنع انتشار بسطات المأكولات الرمضانية كالمعروك والناعم والمشروبات الرمضانية كالجلاب والتمر هندي والعرقسوس في أحياء المدينة، بحجة أنها تعتبر تعدياً على الأملاك العامة، وكجزء من حملة تهدف لإعادة المظهر الحضاري للمدينة. بالنسبة لنا نحن سكان دمشق، الصائمين والمفطرين، تشكل هذه البسطات جزءاً غير قابل للاندثار من ذاكرتنا الرمضانية.
أدخل السوق لأرى باعة الفاكهة والخضار واللحوم والدجاج على طرفي الطريق. كل ينادي على بضاعته محاولاً جذب المزيد من الزبائن. أنعطف يميناً لتبدأ محال بيع المواد الغذائية والتي تبيع كل ما يخطر وما لا يخطر بالبال. أصل نهاية الطريق وقلبي يقفز بين أضلعي، فلا بسطات هنا، وبقاياها وآثارها لا تزال على الأرصفة والشارع، في حين يقف شرطي ثلاثيني معتداً بنفسه وهو يشير للسيارات بالمرور. بعد عدة أمتار، أجد رجلاً يفرش بسطته ويضع عليها أرغفة الناعم، وبقربه امرأة تجادله محاولة تخفيض سعر الكيس من 500 إلى 400 ليرة. "ألم يزيلوا كل البسطات الرمضانية؟" أقترب وأساله. "أي اختي شالوها، بس مبارح سمحولنا نرجع... وعلى كل الأحوال كنا كل يوم ندبر حالنا ونحط البسطة ونبيع. أهلا وسهلا فيك. أنا بضل فاتح لأذان المغرب". يجيبني بابتسامة عريضة. أقرر العودة بعد أن أنهكني الحر والسير. أستقل سيارة أجرة للمنزل. أرى الشرطي وهو يشير للسيارات كي تعبر، وكأنها لن تتابع سيرها دون إذنه. وأهمس لنفسي "سعر كيس الناعم 500. 500 يعني 50"، وأبتسم وأنا لا أعلم هل فعلاً عاد المظهر الحضاري لشوارع دمشق في الأيام الفائتة.بالنسبة لنا نحن سكان دمشق، الصائمون والمفطرون، تشكل بسطات المعروك والجلاب جزءاً غير قابل للاندثار من ذاكرتنا الرمضانية
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 3 أيامحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 6 أيامtester.whitebeard@gmail.com