اكتُشف عام 2019 سبع صخور في الحرّة، شمال شرقي الأردن، منقوش عليها نصوص بـ"الصفائية" و هي لغة أو لهجة (لا حسم حول الموضوع) يمكن اعتبارها واحدة من جذور اللغة العربية، قبل أن يأتي الإسلام ويوحّد اللهجات واللغات على أساس قبيلة قريش ومصحف عثمان.
المميز في هذه الاكتشافات التي تعود إلى ما قبل 2000 عام، هو وجود جذور لأكثر الكلمات إشكالية في اللغة العربية، ألا وهما "ليس" التي تنفي الجنس، و"حتى" التي مازالت في نفوس الكثيرين، منهم الأستاذ أحمد الجلاد من جامعة أوهايو، الذي أنجز هذا العام ورقة بحثية عن النقوش السابقة، إلى جانب العديد من الدراسات والكتب في أصل اللغة العربية وعلاقتها مع ما قبلها وما بعدها.
قبل الخوض في "حتى" و"ليس" وما وجد بين الأحجار من عبارات، نشير إلى أن الصفائية، حسب جلاد، هي شكل من أشكال الكتابة التي استخدمها البدو والرحّل من سكان الصحراء الأردنية- السورية، ولا نعرف بدقة بداية استخدامها، خصوصاً أن الأحرف فيها تختلف عن الشكل التقليدي للخط المسند المنتشر في تلك المنطقة، كما وجد في هذه النقوش العديد من العبارات التي ظهرت لاحقاً في القرآن.
اكتُشف عام 2019 سبع صخور في الأردن، منقوش عليها نصوص بـ"الصفائية" و هي لغة أو لهجة يمكن اعتبارها واحدة من جذور اللغة العربية، قبل أن يأتي الإسلام ويوحّد اللهجات واللغات على أساس قبيلة قريش ومصحف عثمان
هل من نفي أقدم من "ليس"
نقرأ على واحد من الأحجار العبارة التالية: من قبل (أقوم بن سلم بن جيز بن وسع بن رب، بن ملكت) أُخذت الماشية، وكان قلقاً، و"ليس" هناك أي مقابل، والآن الأمر للقدر في الانتظار.
الواضح من النص (الذي لم نتلاعب بترجمته من الإنكليزية فيما يخص الضمائر) أن هناك من أضاع أغنامه أو خرافه أو ربما سرقت، وحاول البحث عنها، وحين عجز عن ذلك، سلّم أمره للقدر.
تظهر "ليس" وكأنها سابقة على الاستسلام أو غياب الأمل، وهنا نرتجل، هي علامة على الاختفاء الكلي ربما، صاحب الماشية بحث طويلاً في الصحراء، وانتظر، ثم سلّم أمره للقدر مستسلماً، فـ"ليس" هناك من ماشية، وكأنه استنفذ كل الاحتمالات. تظهر هنا "ليس" أشبه بعلامة على الفناء، وكأن كل الماشية تلاشت ولم يعد لها من أثر، (نفي جنسها)، وكل ما قد ينشأ عنها من مقابل مادي أو معنوي، ليس هنا، وكأن "ليس" تؤسس لقطيعة مع الزمن واحتمالاته، في ذات الوقت تنفي الفاعلية البشرية، شكل من أشكال التسليم إذ لم يعد بوجه صاحب الخراف سوى انتظار القدر.
يؤكد جلاد أن "ليس" تستخدم في الصفائية، كونها ظهرت في نص سابق، ويشير أنها "نفت" إمّا عودة الخراف أو فرصة استعادتها من اللصوص، وكأنها ثقب أسود، أو سُرّة لغوية تنفي كل ما يأتي بعدها، فلازمن ولا احتمالات ولا إرادة لبشري.
يشير الجلاد في الهامش إلى ورقة بحثية أنجزها، يناقش فيها جذور كلمة "ليس" الإيتمولوجية (علم أصول الكلمات)، ويشير في هامش هذه الدراسة أيضاً إلى شكّه حول وجود قرين لها، يتمثل بكلمة "أيس" التي لا أصل لها في النصوص قديمة، بل تظهر لاحقاً في اللغة العربية في المعاجم، ويشير أيضاً إلى غموض المصادر التي استعيرت منها "ليس".
الغموض المحيط بأصل "ليس" يزيد من جاذبيتها، هي خطرة، وكأنها نفت تاريخها نفسه وشتته في هذا النفي، لتبقى فقط أجزاء من أصواتها حاضرة. لا يمكن بدقة أن نحدد متى قيلت أول مرة، متى نطق هذا "النفي" وفتح الطريق نحو الفناء
فهناك نظريات فقط حول أصولها التي تعود إلى "الآشورية الجديدة"، وبعد نقاش ومقارنات يصل إلى الاحتمالات التالية التي تضعف على التوالي : أولاً، "ليس" بشكلها القرآني مستعارة، ثانياً، وجودها في الأصل الصفائي ينفي أصلها الآرامي، أي هي أقدم، ثالثاً، ربما هي فعل تمت استعارته من الآشورية التي تحوي ما يشبهها.
هذا الغموض المحيط بأصل "ليس" يزيد من جاذبيتها، هي خطرة، وكأنها نفت تاريخها نفسه وشتته في هذا النفي، لتبقى فقط أجزاء من أصواتها حاضرة. لا يمكن بدقة أن نحدد متى قيلت أول مرة، متى نطق هذا "النفي" وفتح الطريق نحو الفناء، فـ"لا" تمهد لنظام بديل تختزنه، أما "ليس" فتعلن النهاية فقط دون أي بشارة يمكن انتظارها.
نموت وتبقى "حتى"
لا داعي للحديث أو التقديم بخصوص "حتى"، فإن كانت "لو" تفتح عمل الشيطان، و "ليس" تنفي حد الفناء، و"لولا" ملعونة ومن يتبعها، فـ"حتى" ترسم حافة الهاوية، هي الخط الفاصل الذي لا يمكن تحديده، سواء كنا نتحدث عن الأحاجي، الألاعيب اللغوية أو الفقه، فـ"حتى" محط الجدل دوماً.
نقرأ على أحد الحجارة المكتشفة النص التالي: من قبل (ابن حرج بن بهرمه بن رفعت)، هو ذهب في غزوة/ معركة، حرث الأرض الجرداء/اليباب "حتى" موعد النبات.
نقرأ "حتى" الآن بمعانيها المتعددة في خزان العربية الكلاسيكية القريشية وبعض لهجاتها، لكنها في النص واضحة، حسب جلاد، أي أن ذاك الذي ذُكر، حصد الأرض وذهب. لكن، وهنا نتساءل متى سيعود؟ في نهاية الإنبات من أجل الحصاد أو مع بدايته؟
لا تحدد "حتى" النهاية بشكل عام، نعرف لحظة البدء وفي أي سياق تمر فيه لكن تبقى النهاية غامضة، كما في المثال المشهور "أكلت السمكة حتى رأسها"، أي نعلم أن لحظة الأكل محددة زماناً ومكاناً، لكن، هل أُكلَ الرأس أم لا؟ وأين توقف الشخص عن الأكل؟ خصوصاً أن حتى (وهنا نتأول دون أي معرفة لغوية)، تحوي توكيداً من نوع ما، لحظة هامة لابد من تحديدها تتمثل بالبداية، لكن هذا التحديد مع تدفق زمن الفعل يميّع نهايته، وكأن "حتى" تعبر عن فترة زمنية لا لحظة محددة.
كأن "حتى" ذات مفعول سحري، تخلق الشبهة، وتتلاعب بالأعراض وتهدد الخواص، وكأن كل ما قلناه يلتبس بين اليقين والحذلقة "حتى" يُكتب
هذا الجدل حول "حتى" يزداد مع تنوع الأمثلة عبر العصر والسياق، كـالآية الشهيرة " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين"، فإن أتى اليقين (بغض النظر عن معناه) هل نتوقف عن العبادة أم نتابع؟ وهل ذاك الذي رحل في النص السابق، سيعود ليحرث الأرض ويكمل العمل أو سيعود مع بداية الإنبات؟
هذا اللبس في "حتى" بين استمرار الزمن أو توقفه، هو ما يكسبها حيويتها، خصوصاً أنها قد تثبت وتنفي، دون يقين حول المصير النهائي للفعل وفاعله، نقرأ للبحتري مثلاً: فُؤادٌ مَلاهُ الحُزنُ حَتّى تَصَدَّعا/ وَعَينانِ قالَ الشَوقُ جودا مَعاً.
تهدد "حتى" هنا الفؤاد نفسه، فهل تصدّعه ينفي عنه لاحقاً صفة "الفؤاد"؟ أيخسر واحدة من خصائصه التي تجعله على حاله؟ لا أجوبة عن هذه الأسئلة التي تتنوع من تنوع الأمثلة، وكأن "حتى" ذات مفعول سحري، تخلق الشبهة، وتتلاعب بالأعراض وتهدد الخواص، وكأن كل ما قلناه يلتبس بين اليقين والحذلقة "حتى" يُكتب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع