المطبخ الإسباني اليوم هو من أهم المطابخ في الساحة العالمية إلى جانب المطبخ الفرنسي والياباني.
وفي السنوات الأخيرة بدأ الاهتمام بالطعام ينمو تدريجياً في إسبانيا كغيرها من بلاد الغرب إلى درجة أنه أصبح يعتبر نوعاً من الفنّ كغيره من الفنون الإنسانية.
وأكثر المناطق شهرة في هذا المجال هي منطقة الباييس باسكو الشمالية حيث نجد بعض طبّاخيها بين أحسن طباخي العالم، يقصدهم الطلاب من كل الأنحاء للتعلم على أيديهم، مما دفعهم إلى تشييد كلية متخصصة بعلوم الطبخ.
ولا شك أن البرامج الأمريكية كـ"ماسترشيف" (MasterChef) الذي استوردته القناة الدولية منذ أعوام قد ساهمت بشكل بارز في تعزيز تقدير الجمهور غير المتخصص للتفنُّن في هذا المجال.
ولا تنحصر هذه البرامج على العالم الغربي فحسب، فـ"ماسترشيف المغرب" يبث هذه السنة موسمه الثالث:
https://youtu.be/dSS3xbpXnNo
والاهتمام بالطعام إلى درجة التفنن فيه هو من معالم الرفاهية والحياة المتحضرة ؛ ولكنه يندرج أيضاً ضمن فلسفة حياتية تبحث عن العودة إلى الطبيعة والاعتناء بالعقل والجسم معاً؛ والابتعاد عن العصبية والاكتئاب الذي تسببه ضغوط الحياة السريعة.
وهذا أمر مازالت تحافظ عليه المجتمعات العربية، وكذلك المجتمع الإسباني.
حيث يمثّل الاجتماع على المائدة لاقتسام الطعام التقليدي الشهي فرصة للاستراحة والهدوء والاستمتاع بلذة من ملذات الحياة تتعدى حواجز اللغات والثقافات.
كما تعبّر السمات التي يتميز بها كل مطبخ بشكل مباشر عن طابع البلاد الثقافي، وعن تأثير المحيط والثقافات المجاورة له، فنجد ذلك في مكوناته وطريقة تجهيزه وأسماء مأكولاته.
فزيت الزيتون مثلاً الذي يتميز به المطبخ السوري هو قوام المطبخ الإسباني أيضاً ومناطق أراغون الشمالية وأندالوثيّا الجنوبية معروفة بأشجار الزيتون العريقة. فهل تركت الأندلس أثرها في فن الطبخ في شبه الجزيرة الإيبيرية؟
المطبخ الأندلسي
قد يتساءل المرء: كيف لنا أن نعرف ماذا كان يأكل الأندلسيون منذ قرون؟ أكان لهم كتب متخصصة في وصفات مطبخهم ككتب الطبخ اليوم؟ ليت الأمر كان كذلك، ولكنه ليس بهذه البساطة، فنحن اليوم مازلنا نتناقل هذا النوع من المعرفة بمعظمه شفهياً، رغم توفّر كتب الطبخ ومواقع النت، وفي الأندلس كذلك، لم يحظ هذا العلم بالتدوين كغيره من العلوم. فنجد معلومات عنه متناثرة في كتب الجغرافية والرحلات والزراعة والطب والأدب والحِسْبة والشعر والشريعة.لا تزال مطابخ إسبانيا تفوح بروائح الأندلس ونكهاتها من عهودها الغنية أيّام العرب والمسلمين
من بلاد الشام وشمال إفريقية، انتقلت فنون الطبخ إلى الأندلس، ومنها إلى المطبخ الإسباني اليومومع ذلك فقد حالفنا الحظ ووصل إلينا كتابان في غاية الأهمية في هذا المجال، كلاهما يتناول موضوع الطبيخ في الغرب الإسلامي في القرن السابع الهجري، أي الثالث عشر للميلاد. أولهما "فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان" لابن رزين التجيبي؛ والثاني لكاتب مجهول عنوانه "كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين"، ويتبين فيهما تأثر المطبخ المغربي والأندلسي بالمطبخ الشرقي آنذاك. من هذين الكتابين، نجدُ أنّ لحوم الطيور والأرنب والخروف تشغل المكان الأول في الوصفات، تليها الحلويات التي يكون معظمها مقلياً، ومزيناً بالمكسرات، ثم العجائن والبيض والشوربة، ولا نجد السمك إلا نادراً. أكثر الوصفات في المصادر هي تلك التي تقوم على القمح أو الخبز، وأولها الهريسة التي كانت من نوعين: إما باللحم والشحم أو بالعسل والزبدة، وقوامها كما نعلم هو القمح المنقوع. كذلك نجد الثريد المطبوخ بالخبز المفتت في شوربة دسمة مع قطع من اللحم، ووصفات هذا الطبق متنوعة بتنوع الأماكن التي كان يطبخ فيها، ففي ريف قرطبة مثلاً كان يحتوي على الحليب والزبدة والجبن. ولا ننسى السخينة هنا، فهو طبق عنصره الأساسي الخبز كحال الثريد. ومن العجائن كان أبرزها الإطْرِية، وهي كالخيوط تعدّ من الدقيق، وهي شبيهة بالكنافة، والشعيرية المصنوعة من الشعير، والكسكس المشهور في المطبخ المغربي المعاصر. كان القمح المكون الأساسي في المطبخ الأندلسي، أما الرز فكان استهلاكه محدوداً، ولكنه كان مستخدماً مثلاً في تحضير طبق معروف إلى يومنا هذا وهو الرز بالحليب. واللحوم كانت تُسَبَّك في أغلب الأحيان بالبقول المتوفرة، ويسمى هذا الطبق "بقليّة" بشكل عام ثم "قرعية" إن غلب عليه القرع، أو "قنابيطية" إن غلب عليه القُنَّبيط أو القرنبيط. ومن أشهر الحلويات بالإضافة إلى الهريسة، اشتهرت الفطائر بالجبن التي كانت تعرف بـ"المجبّنات".
الأثر الأندلسي في المطبخ الإسباني
تحافظ اللغة الإسبانية على كثير من الكلمات العربية المتعلقة بالطعام. فمنها الفواكه: كالبرقوق (albaricoque) والنارنج أو البرتقال (naranja) والليمون (Limón). وأغذية أخرى كالباذنجان (berenjena) والسبانخ (espinacas) والرز (arroz) والزيت (aceite) والسكر (azúcar) وتوابل كالحَبَقة (albahaca) والزعفران (azafrán). إلى جانب بعض أدوات الطبخ كالمهراس (almirez) والطاسة (taza) وأطباق كالكسكس (alcuzcuz) والإطرية (aletría) والرُّب (arrope) والشراب (jarabe) وفطائر المجبنة (almojábana) والبنادق (اللحمة المفرومة) (albóndigas). ولكن تأثر المطبخ الإسباني بالأندلسي وعن طريقه بالمغربي والشرقي لا يقتصر على بضع كلمات حافظت عليها اللغة عبر القرون؛ بل إن هناك وصفات ما زالت تحمل نكهة عربية تذكرنا بتلاشي الحدود أحياناً بين الحضارتين وبوجود تبادل ثقافي مستمر حول البحر الأبيض المتوسط. [caption id="attachment_108451" align="alignnone" width="700"] Espinacas a la catalana[/caption] ومن ضمن هذه الوصفات هناك السبانخ على الطريقة الكتالونيّة (Espinacas a la catalana) التي تحتوي على الزبيب والصنوبر، ومن المعروف أن المكسرات هي من مميزات المطبخ العربي. [caption id="attachment_108454" align="alignnone" width="700"] Fideuá[/caption] والفيديوا (Fideuá) المشهورة بمنطقة بالنسيا الشرقية حيث تطبخ الإطرية (aletría أو fideo) مع السمك والمأكولات البحرية؛ والكباب الذي يسمى Pincho moruno، أي سيخ عربي؛ والبنادق (albóndigas) وهي عبارة عن كرات من اللحم المفروم يخلط بالبيض والتوابل. [caption id="attachment_108453" align="alignnone" width="700"] Pincho moruno[/caption] ومن الحلويات نجد مثلاً الرز بالحليب والمرصبان (mazapán) الذي يصنع من اللوز والسكر وأطيبه من توليدو (طليطلة)؛ والمجبّنة (almojábana) فطائر الجبن والعسل وهي مشهورة خاصة من منطقة مورثيا وأليكانتي الجنوبية الشرقية. وما كان يسمى بالحشو (alfajor)، وهي حلوى قوامها المكسرات والعسل في منظقة أندلوثيّا الجنوبية، والبانيليت (Panellet) بالسكر والبيض واللوز والصنوبر في أراغون وكاتالونيا وهي موجودة أيضاً في شمال إفريقيا اليوم. ونتفاجأ كذلك بنوع من الثريد بالسمك في المطبخ البرتغالي يسمى Açorda، وفي هذه كلها بصمات عربية واضحة. ومن الجدير بالذكر أن المطبخ الأندلسي لم يكن عربياً فحسب، بل كان يهودياً أيضاً، وهذا الأخير ترك بدوره أثره في المطبخ الإسباني المعاصر. ومن الأطباق الأكثر انتشاراً لدينا الكوثيدو (Cocido) أي المسلوق وفق ترجمة حرفية، وكانت تعرف بالدفينة (adafina) عند الأندلسيين، يطبخها اليهود يوم الجمعة ويدفنونها بالجمر لتؤكل يوم السبت لأن الطبخ محرم عليهم ذلك اليوم. وصفة الكوثيدو الإسبانية تختلف باختلاف المناطق، ويحتوي على اللحوم المتنوعة والخضر والبقول (خاصة الحمص) المسلوقة ببطء، وأشهره في منطقة العاصمة مدريد يعرف بـEl Cocido Madrileño. [caption id="attachment_108449" align="alignnone" width="700"] El Cocido Madrileñ[/caption] إن كان الطبخ نوعاً من الفنون والعلوم، فهو أيضاً مادة غنية لدراسة التاريخ والثقافة. فنجد أنّه قد تحوّل في إسبانيا إلى مساحة للتفاعل بين الثقافات، وتشابك تواريخها وتأثيراتها المتبادلة. ولأنّ لذَّات الحياة التي نتذوقها، كالتلذذ بالطعام ومشاركة حديث على سفرة الطعام، تدخل أُنساً وسكينة في نفس الإنسان، فهي تجعل منه كائناً حسّاساً مقبلاً على الحياة ومحبّاً للآخر. المصادر: "التغذية المدنية العامة في الأندلس" لإكسبيراثيون غاثيا سانيشيس؛ والمطبخ الإسباني لكلوديا رودَن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت