أسفل كاتدرائية قلب يسوع الأقدس (ساكريه كور) في باريس، حديقة عامة صغيرة تحمل اسم الكاتب الصحافي والروائي المعروف بـ "نادار"، الذي غدا، منذ عام 1858، أول إنسانٍ يأخذ صورةً جوية. وفي هذه الحديقة تمثال لشابٍ مكتسٍ بزيّ يدل على انتمائه إلى فئة نبلاء النظام القديم. وتُعرّف بضع كلماتٍ أسفل التمثال بهوية من يجسّده:
شوفالييه دو لا بار
قضى تحت التعذيب في الـ19 من العمر
في الأول من تموز/ يوليو 1766
لأنه لم يلقِ التحية اللائقة على موكب (دينيّ) مرّ إلى جانبه.
لم أعلم، حتى قرأت كتاب المؤرخ الفرنسي باتريك فايل الجديد، عن "العلمانية في فرنسا"، أنّ دو لا بار كان آخر ضحايا تهمة "التجديف"، قبل اندلاع الثورة الفرنسية. الشاب الذي عُذّب، وقُطع رأسه، ثم رُمي ليغذي جسده النار، بعد أن سُمّرت نسخة من قاموس فولتير الفلسفي إلى جذعه.
هنالك إشارة إلى المأساة التي حلّت بدو لا بار في الفصل الأول من رواية تشارلز ديكنز، قصّة مدينتين، يقول فيها "كانت (فرنسا)، بإرشادٍ من رجال الدين المسيحيين فيها، تمتّع نفسها… بإنجازاتٍ إنسانية كالحكم على شابٍ بتقطيع يديه، ونزع اللسان بالكلّابة، وإحراق جسده وهو حيّ، لأنّه لم يركع تحت المطر تكريماً لموكب قذر للرهبان الذين مروا في مرمى ناظريه، على بعد خمسين أو ستّين ياردة."
كان باتريك فايل منغمساً في إعداد كتاب عن حياة السفير الأميركي في فرنسا أثناء الحرب العالمية، وليم بوليت، عندما وقعت طامة قطع عنق أستاذ التاريخ الفرنسي سامويل باتي، في كونفلان-سانت-أونورين، بالقرب من باريس، في اعتداء إرهابي ارتكبه إسلاميّون راديكاليون، هزّ أركان فرنسا والعالم. لم تنسَ موجة الهلع والاشمئزاز والشجن المرور بمنزل فايل، الذي كرّس مباشرةً معظم وقته لإنجاز كتابٍ جديد عن العلمانية في فرنسا، مندفعاً بحاجته إلى شجب تلك الجريمة، وسوء فهم العلمانية بشكل عام، والنسخة الفرنسية منها بشكل خاص، سواء من قبل من يدّعون الوصاية على الدين، أو على العلمانية ذاتها.
"عن العلمانية في فرنسا"، سردٌ تاريخيّ لمغامرةٍ خطرة في منعطف تاريخي كان روّاده رجال سياسة فرنسيين من عهد الجمهورية الثالثة، مثل جورج أريستيد بريان، ولوي ميجان، وجورج كليمنصو. يلقي الكتاب الضوء على قانون طموح تبنّاه مجلس الشيوخ الفرنسي في كانون الأول/ ديسمبر 1905، وهو القانون الخاص بفصل الدين عن الدولة.
"لا نستطيع الحديث عن الحق بالإيمان أو عدم الإيمان بدين ما دون الدخول في آليات وضوابط هكذا حق، مثلما لا نستطيع القول فقط بأن دولةً ما تعترف بالحق بالملكية، دون الدخول في تفاصيل ما قد يحصل في حال لم يحترم شخص ما، مثلاً، الحق بملكية عقارٍ ما"
"هذا القانون أسّس لحياد الدولة التي كانت، حتى صدوره، مرتبطة بالكنيسة الكاثوليكية، والتي كانت تدفع المال لثلاث طوائف: الكاثوليكية، والبروتستانتية، واليهودية، ما يعني أن المؤمنين بمذاهب أخرى، أو من هم من غير المؤمنين، لم يكونوا على قدم المساواة (مع من يتبعون لتلك الطوائف)"، قال باتريك فايل. "هذا الحياد يسمح للدولة أن تقول إنه من الممكن لأي فرد أن يؤمن أو لا يؤمن، بغض النظر عن معتقداته."
مارّاً بأبرز مواد ذلك القانون، كالمادة الأولى التي تُعنى بحق الأشخاص بالعبادة، والمادة الثانية التي تتحدث عن فصل الدين عن الدولة، والمادة 32 التي تعاقب من يمنع غيره من ممارسة حقه في العبادة ضمن الأطر القانونية، شرح فايل دور القانون في ضمان حرية ممارسة العقيدة، والجهر بها من دون التعرض لضغط، وضمان الدولة للمساواة بين المواطنين من دون ميلها إلى هذه الطائفة، أو تلك.
ارتبط القانون باسم المشرف على كتابته وتطبيقه في ذلك الوقت، النائب الاشتراكي المستقل أريستيد بريان، الذي تبوأ لاحقاً وزارات عدة بينها الداخلية.
"من نتائج القانون 1905 التي نعيشها حتى اليوم، هي أن كل الأديان، وما يتفرّع عنها من طوائف، لهم الحق الكامل بالتنظيم والعبادة في فرنسا، بحرية كاملة، سواء كان الشخص مسيحياً، أو يهودياً، أو مسلماً؛ سنّياً أم شيعياً أم درزياً أم إسماعيلياً أم علوياً، وغير ذلك."
يوافق فايل على أنه عند التفكير في العلمانية في فرنسا، يظنّ كثيرون، وبعضهم مسؤولون في البلاد، أنه مجرد مبدأ نظري يُلخَص ببضع كلمات، وأن هنالك حاجة لضوابط إجرائية في فرنسا تقيّد التطرف الذي قاد إلى الجريمة الإرهابية التي أودت بحياة سامويل باتي، أو تلك التي جرت في 2015، سواء في مكتب صحيفة شارلي إيبدو الساخرة، أو في مسرح باتاكلان، أو في مقاهٍ في باريس.
"لا نستطيع الحديث عن الحق بالإيمان، أو عدم الإيمان بدين ما دون الدخول في آليات وضوابط هكذا حق، مثلما لا نستطيع القول فقط بأن دولةً ما تعترف بالحق بالملكية، دون الدخول في تفاصيل ما قد يحصل في حال لم يحترم شخص ما، مثلاً، الحق بملكية عقارٍ ما".
من هنا جاءت الحاجة إلى إعادة زيارة نص القانون 1905، الذي، بحسب فايل، يبدو أن الكثيرين ممن هم في السلطة قد نسوه اليوم في تسرّعهم للحديث عن الحاجة إلى نصوصٍ وقوانين جديدة، ونسي بعض معارضي العلمانية من المتدينين أن فيه سبلاً لصون حقّهم في العبادة لم تكن متاحة قبله.
"ينسى من يظنّ أن العلمانية الفرنسية مصممة ضدّ الإسلام أنّ الممثلة الشهيرة بريجيت باردو أدينت خمس مرات بسبب إثارتها للكراهية ضد المسلمين، وكذلك الأمر بالنسبة للكاتب اليميني إيريك زمور"
عام 1906، أدان البابا بيوس العاشر هذا القانون "الجائر"، على حد تعبيره، داعياً أحد الكاردينالات لتذكير الأساقفة الكاثوليك الفرنسيين "أننا ولدنا من أجل الحرب: ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً"، مستعيراً من إنجيل متى 10: 34.
تَدَخُّل البابا بدعوته لإعلاء قانون الفاتيكان على قانون الدولة التي ينبغي أن يخضع أولئك الأساقفة لقوانينها، وتحدي قوانين هذه الدولة في سبيل سلطةٍ إلهيةٍ عليا، يشابه إلى حدٍ ما في سماته إحدى أبرز جبهات المواجهة اليوم بين فرنسا، وما تسمّيه بـ"الإسلام الانفصالي"، أيّ رجال الدين والمؤسسات الدينية المرهونة لدولٍ أخرى مالياً وعقائدياً، منتهكةً بذلك القانون الفرنسي، وسيادة الدولة الفرنسية.
قبل بيوس العاشر بمئة عام، وقّع البابا بيوس السابع مع نابليون بونابرت اتفاقية كونكوردات، (وهي نوع خاص من الاتفاقيات كانت تتم بين فريقين: الكرسيّ الرسوليّ من جهة، ودولة ذات سيادة من جهة أخرى)، عام 1801. كان هذا الكونكوردات بمثابة مصالحة بين الثورة الفرنسية والفاتيكان، وأفاد بأنّ المذهب الكاثوليكي هو ما تدين به أغلبية الفرنسيين، وبالتالي هو السائد في البلاد.
يُذكر أن بعض أحكام الكونكوردات لا تزال ساريةً في إقليم ألزاس-موزيل الفرنسي، إذ كان تحت سيطرة الإمبراطورية الألمانية عندما تم التصويت على قانون العام 1905.
"تمت مناقشة القانون مع الكنيسة الفرنسية، ولكن أوامر البابا كانت أن لا يتم احترام القانون، ما قاد إلى حافة الوقوع في حرب أهلية، حيث بات بعض رجال الدين يهدّدون الأطفال، ويهدّدون المؤمنين"، قال فايل. "هذا العنف أدّى وقتها إلى سقوط الحكومة."
أما حملة ضبط ردة فعل رجال الدين الكاثوليكيين، الذين شعروا بتهديد مركزهم المتفوق على غيرهم من البروتستانت واليهود والمسلمين، فكانت شديدة في البداية، إذ تعرض من واجه فصل الدين عن الدولة بالعنف، والانصياع للفاتيكان، لخطر نزع الجنسية الفرنسية منه.
قانون العام 1905، الذي تمت دراسته بعمق مدة عامين قبل تبنيه من دون أي تعديل، لم يُسنّ بغية استهداف المسلمين، بل تمت مناقشة الدين الإسلامي عند تحضيره، كبقية الأديان، وتم، للمرة الأولى في تاريخ فرنسا، النظر إلى تلك الأديان كلها على حد سواء. السيادة التي منحتها العلمانية (لايسيتيه، بالفرنسية، والنعت: لاييك)، للسلطة المدنية على تلك الدينية، هي البعد الذي قاد أتاتورك إلى تبني مصطلح العلمانية (لاييكليل، بالتركية)، عند تأسيس الدولة التركية الحديثة، مع غياب بُعد فصل الدين عن الدولة بالشكل الذي تم فيه في فرنسا، حسب كتاب فايل.
أما في بعض ردود الفعل التي تبعت الجدل حول "حدود حرية التعبير"، والغضب الذي عم العالم الإسلامي نتيجة رسومات شارلي إيبدو "المسيئة"، لم يجد فايل إلّا سوء فهمٍ لو تم إصلاحه بعقلانية، لارتأى الكثيرون من الغاضبين ضرورة الإيمان بقانون العلمانية، لا بل التلويح بنصّه في وجه من يقيّد حرية ممارستهم لدينهم، لكن من دون أن ينسوا ضرورة احترامهم لحق غيرهم بالإيمان بعقيدة مغايرة، أو عدم الإيمان، أو الانتقاد والسخرية.
"أقول للتلاميذ كلّما تحدثت إليهم عن الموضوع أنه على الرغم من محاولة الأهل تمرير أفكارهم عن الدين لأولادهم، لدى أولئك التلاميذ الحق في اختيار طريقهم بحرية كاملة. إذا هددهم أحد أو ضغط عليكم، قد يذهب للسجن"
"لا علاقة بقانون فصل الدين عن الدولة، وحرية التعبير"، أكد فايل. مشيراً إلى أن احترام حق الناس في ممارسة شعائر دينية، أو رفض ممارستها، شيء، والتمييز ضد الآخرين على أساس إيمانهم أو عدم إيمانهم شيء آخر.
"الكثيرون تساءلوا لماذا لدى الناس الحقّ بالسخرية من الإسلام، وأن ذلك حرية تعبير، ولكن السخرية من اليهودية هي معاداة للسامية، وهذا خطأ"، قال فايل، مشيراً إلى أن نظير معاداة السامية هو الإسلاموفوبيا، وكليهما يُعنيان بالتمييز ضد الناس على أساس دينهم، وليس بالسخرية من أنبياء ونصوص الإسلام، أو اليهودية.
"ينسى من يظنّ أن العلمانية الفرنسية مصممة ضدّ الإسلام، أنّ الممثلة الشهيرة بريجيت باردو أدينت خمس مرات بسبب إثارتها للكراهية ضد المسلمين، وكذلك الأمر بالنسبة للكاتب اليميني إيريك زمور."
"نعاني اليوم من جهلٍ على كافة الأطراف، المدافعة عن العلمانية والناقدة لها، بنص هذا القانون الذي فيه من الحداثة والروعة ما لا يزال قادراً على حماية المؤمنين على أنواعهم، وغير المؤمنين."
فايل أراد أن يرى المدرسون في فرنسا في كتابه الجديد عوناً للحديث مع طلابهم عن العلمانية، ولمساعدتهم على فهم مبدأ حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، وفصل الدين عن الدولة.
"أقول للتلاميذ كلّما تحدثت إليهم عن الموضوع أنه على الرغم من محاولة الأهل تمرير أفكارهم عن الدين لأولادهم، لدى أولئك التلاميذ الحق في اختيار طريقهم بحرية كاملة. إذا هددكم أحد أو ضغط عليكم، قد يذهب للسجن، وإذا هددوا هم يوماً أحداً، قد يعانون من العقوبة ذاتها".
بين مقتل دو لا بار، وسامويل باتي، قرون عدة من الزمن، تتلخص في تفاصيل الحادثتين، وتفاصيل الحوادث التي لا تعد ولا تحصى بينهما، وفي أن الكراهية المبنية على التمييز على أساس الدين، أو العرق، أو النوع الاجتماعي، أو الميول الجنسية، أو غيرها، ليست حكراً على دينٍ واحد أو مجتمع واحد. التعمق في فهم العلمانية كآلية لتوسيع الإدراك بأن الأرض تتسع للجميع يصب في مصلحة الأفراد والجماعات أينما كانوا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...