شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أمي لم تكن تعرف بأن ثمة رجل سينزع هذا الجورب

أمي لم تكن تعرف بأن ثمة رجل سينزع هذا الجورب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 4 مايو 202101:07 م

في صيف بعيد وأنا في العاشرة من العمر، خرجت في ذلك الصباح لأشتري الخبز من إحدى كوات البيع، فأنا معتادة على ذلك.

كان الزحام شديداً. تتدافع النساء مع الرجال وأضيع أنا بين الأقدام الكبيرة، تركت الشجار الخفي ذاك، ولحقت مجموعة من صبايا الحيّ اللواتي قطعن الشارع لأخذ حافلة إلى مكان آخر لإحضار الخبز.

ثوان قليلة فقط، ورأيت نفسي أحلّق عالياً جداً ثم أعود لأرتطم بقسوة على أرض من صفيح ساخن، وتسحبني عجلات شاحنة ضخمة خلفها لأمتار قبل أن تتركني ملطخة بدمائي.

يأتيني صوت امرأة أعرفها تصيح: "ثمة بنت صغيرة دهستها سيارة"، ركضت المرأة جهتي وحملتني بين ذراعيها بعد أن عرفت من أكون، وأنا في كامل وعيي ونزيفي المستمر.

شق طولي يمتد من الركبة حتى إبهام القدم اليسرى.

يبرز العظم بقوة من بين الدماء بعد أن تقطّع سروالي واحترق، وأقول احترق، فقد عانيت مع هذا الشق الطولي من حروق سيئة في معظم الساق بعد أن سحلتني عجلات الشاحنة خلفها فوق الإسفلت.

كل ما كنت أبحث عنه لحظتها حذائي البلاستيكي الجديد أصفر اللون، الذي اشترته لي أميّ قبل يوم من الارتطام، وجدته وسألت المرأة التي حملتني ولفتني في ثوبها أن تحمل حذائي أيضاً.

وصلتُ إلى المستشفى.

قبل ذلك، كاد أحد أعمامي أن يفرغ رصاص مسدسه في رأس سائق سيارة أجرة رفض أن يحملني والدماء تنزف مني، مخافة أن تتلوث مقاعد سيارته بدماء حارة غزيرة التدفق.

في مستشفى المجتهد في قلب دمشق ألقوني على عربة الإسعاف، ثم تُركت وحدي قرابة ساعتين وأكثر وأنا أنظر إلى ذلك الشق المفتوح وبقايا القماش الذي التصق باللحم والعظم.

كنت صغيرة كفاية وأقل من أن أصرخ بهم: نضّوا عني جسدي، لم أعد أحتمل كل هذا الستر، قلت هذا في نفسي بصوت ميت. شعرت بضربات متتالية، لهاث وأنفاس متقطعة، فيما السخونة والبلل يضربان طوقاً من حولي.

بعد شهر من الحادثة، انتصبت واقفة ومشيت جيداً وعدت لأركض في الأزقة مع أبناء حارتي... ثم كبرتْ فجأة ووصلت إلى مراهقتي، وصلت إلى مطرح لن أعود منه كما عدت من موتي.

تجتمع بنات العمومة سويّاً يتحدثن عن ملامح الجسد التي بدأت بالتغيّر… عن صدورهن التي نهضت قليلاً، عن الدماء الفاتحة التي يجدنها في إحدى الصباحات، عن الزغب أو الشعر الكثيف الذي بدأ يغزو أماكنهن الخاصة، كنت أجلس بينهن أستمع بنهم وكأنني لست مثلهن معنية تماماً بكل هذا الفيضان وكل ذلك الربيع.

تجتمع بنات العمومة سويّاً يتحدثن عن ملامح الجسد التي بدأت بالتغيّر… عن صدورهن التي نهضت قليلاً، عن الشعر الذي بدأ يغزو أماكنهن الخاصة، كنت أجلس بينهن أستمع بنهم وكأنني لست مثلهن معنية تماماً بكل هذا الفيضان وكل ذلك الربيع

يومها عدت إلى البيت، دخلت الحمام، أردت أن أجرّب كيف أزيل الشعر بالشفرة الحادة الخاصة بأمي.

نزعت سروالي وبدأت بساقي اليمنى التي نبت فوقها القليل من الزغب، انتهيت من ساقي اليمنى وانتقلت إلى اليسرى، لكنني لم أجد شعراً ولا زغباً، فالساق التي تحمل من ركبتها حتى إبهامها عشرين ندبة هي ذكرى للخيط الذي أعمله الطبيب قبل سنوات في جرحي، لن تحمل شعراً أيضاً، وعلى الطرف الآخر منها تناثرت بقايا اللحم المشوي الذي احترق يوماً وأنا أُسحل خلف العجلات... مرّ يومي عادياً بعد أن ارتديت ثيابي وخرجت من الحمام مذهولة للعلامة التي لم انتبه إليها قبل ذلك.

مرت بضع سنوات وأنا على هذه الحال أعيش ضمن أسرة محافظة جداً، وكان يمنع علينا أن نرتدي ثياباً أو تنانيراً قصيرة تكشف سيقاننا.

ومضيت هكذا، كلما وقفت أمام خزانتي لأُبدّل ثيابي كنت أرى تلك الأفعى التي تسلقت ساقي ولم تغادرها.

بعد أن ارتدت الجامعة شكّلتُ علاقات أوسع خارج قوقعة أهلي وبنات عمومتي وخالاتي، صرت ألبي القليل من الدعوات لحضور الأفراح والأمسيات حيث تتبارى الفتيات بفساتينهن المكشوفة وتلك التي ترتفع فوق الركبة، وأنا الوحيدة ربما التي كنت أظهر في كل تلك المناسبات أرتدي سروالاً أيّاً كان نوعه أو لونه، مختبئة خلف خجلي ونقصان أنوثتي. هكذا تسرب إليّ أول شعور بالنقص، ومن على مقاعد الحديقة في كلية الآداب بدمشق نما الحنق الشديد في قلبي كلما رأيت فتاة تؤرجح ساقيها بالهواء دون أن تكترث لثوبها القصير أو للشورت التي يغطي الساقين إلى ما تحت الركبة وكان يسمى "بنتكور".

ثمة ما هو غير مكتمل فيّ، لقد ضيّعت شرطاً من شروط اكتمال الجسد عند النساء، وفقدت فرصة كبيرة للغواية أردت استخدمها كما تستخدمها قريناتي للإيقاع بالشريك أيّاً كان توصيفه.

عشت هكذا لا أحتفي بساقي هذه، لا بل أشعر في بعض الأحيان بأنها قدمت لي هدية بشكلها هذا، فأنا سأقضي فيما بعد وقتاً أقل حين أنزع شعرها، لم أبدّل مرة ثيابي أمام أحد سوى أمي وشقيقاتي، لم يعد أحد من الأقرباء يتذكر شيئاً عن الحادثة، كلهم غرقوا في أجسادهم المكتملة.

مرت سنوات قبل أن أقع بالحب للمرة الأولى ثم الأخيرة.

في مرّتي الأخيرة عرفت رجلي لثلاث سنوات قبل الزواج… في علاقة أخذت كل تفاصيلنا وأشكالنا كشريكين محتملين، لكنها لم تقترب يوماً من الساق، كنتُ أبقيه دائماً على مسافة منها، حكيت له عن حادثتي لكنه لم ير أبداً ندبتي وأفعاي الزاحفة.

عرفت رجلي لثلاث سنوات قبل الزواج… في علاقة أخذت كل تفاصيلنا وأشكالنا كشريكين محتملين، لكنها لم تقترب يوماً من الساق، كنتُ أبقيه دائماً على مسافة منها، حكيت له عن حادثتي لكنه لم ير أبداً ندبتي وأفعاي الزاحفة

اخترعت في مخيلتي فساتيناً بشق طولي من جهة اليمين لا اليسار، صممت ملابساً داخلية دون فتحة، فضفاضة واسعة تخفيني وتخفي عشرين غرزة خاطها الطبيب العجول في مشفى حكومي بائس.

رأيت كثيراً من الحب وقعت فيه ووقع فيّ، كنتُ قوية بما يكفي لأصدّ هذا الشريك، وكلما طلب أن يرى الساق كنت أحتمي بالعتمة، أحتمي بالخوف من الصدمة بأن أهجع وحدي في سكوني وبكائي.

كرهت ساقي كثيراً، كرهت تلك الكتل الصخريّة التي توزعت هنا وهناك، وكرهت ذاك الوادي قليل العشب والماء الذي تشكّل هو الأخر على امتدادها.

حقدت عليها لأنها لم تلبني حين أردت أن أهبني بكل ما فيّ لهذا الرجل، مقتّ نصف القمر، أنصاف الدوائر، أنصاف الإجابات التي كنت أدفع بها للرجل الذي أحبّني.

حقدت على ذلك السائق الذي سحلني خلفه، وعلى جسدي، وقذفته بأشنع الصفات، وأحسست في كثير من المرات بالبشاعة وبأنني أقل من امرأة، كما لو أنني ولدت هكذا.

نسيت شكل ساقي قبل ذلك الصباح وتذكرت فقط ثوب جارتنا الذي كان من الممكن عصره لتقطر منه دمائي.

تذكرت ما قالته يوماً الممثلة ميريل ستريب: "أبداً لن أسمح لأحد بإزالة تجاعيد جبيني، فهي نتيجة دهشتي أمام جمال الحياة. ولا تلك المحيطة بفمي، فهي تظهر كم ضحكت وكم بكيت، ولا البقع السوداء تحت عيوني، فخلفها تختبئ ذكريات أحزاني وبكائي، إنها جزء مني وأحب جمالها. سأبقى على ملامحي لأنها دلالة على تجاربي في الحياة".

لكنها على كل حال ميريل ستريب وليست امرأة عادية تريد أن تقدم لرجلها أحلى ما فيها وكل ما فيها، لكنني لم أستطع. عرفت طعم الحرمان. عرفت معنى أن أشفى ولا أشفى. أن تضخ أوردتي دماء إلى ساقي دون أن تفتح جلدها وتسوّي ندبها.

أمي لم تكن تعرف بأن ثمة رجل سينزع هذا الجورب، ويمزقه بأسنانه وأظافره.

كانت أمي تواسيني وأنا أصغر من ذلك في بعض الأحيان. تخدعني بالقول: غداً عندما تكبرين قليلاً ويمتلئ جسدك قليلاً ستتفتح مساماتك أكثر وتذهب ندبك هذه وتمتلئ جداولك بالماء.

لكن ذلك لم ولن يحصل.

كانت تبتسم في وجهي أو تصرخ حين أطلب أن تحملني إلى طبيب تجميل، فتردد على مسمعي: البسي جورباً سميكاً ولن يلاحظ أحد ذلك.

أمي لم تكن تعرف بأن ثمة رجل سينزع هذا الجورب، ويمزقه بأسنانه وأظافره.

أمي لا تعرف بأنني أكره هذا الجورب وأشعر بالضغينة على ذلك السائق، ووصل كرهي إلى أنني أعاني منذ عامين من ألم حاد في ساقي اليسرى، يمتد من الركبة حتى إصبع الإبهام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard