قد تكون الميثولوجيا الإغريقية الأكثر شغفاً بالشهوات الجنسية المفارقة لطبيعة المشتهي عن المشتهى. كان أرباب الأوليمب، من زيوس مروراً بأبولو وكيوبيد، وحتى هاديس، إله الجحيم، شغوفين بالنساء الأرضيات اللواتي أنجبوا منهن أبناء، سواء أكان الأمر عن حبّ أم اغتصاب. إن هرقل، أخيل، بيريوس وغيرهم الكثير، هم أبناء الآلهة من نساء أرضيات.
لم تتوان الآلهة النساء عن فعل ذلك، فنرى فينوس تضطجع مع أنشيز وتنجب منه إينياس، المؤسس الأول لروما. وفي بلاد ما بين النهرين، كانت عشتار، بتجلياتها العديدة، رائدة في اشتهاء الذكور الأرضيين، فمن الراعي، إلى المزارع، إلى جلجامش، الذي عيّرها بما فعلت بعشاقها السابقين.
عذراوات يشتهين الملاك جبريل، وآلهة شغوفون بالنساء الأرضيات، وآلهات شغوفات برجال أرضيين... عن الاشتهاء بين الأرضي والسماوي
لم تسجّل الديانات التوحيدية مثل هذا الأمر. يهوا/ الآب/ الله، سواء أكانوا أسماء عديدة لمسمى واحد أم العكس، فلم يلحظ أن تم تسجيل حادثة واحدة لاشتهاء امرأة أرضية، من قبل يهوا. وتبقى قصة مريم العذراء ذات خصوصية، ففي هذه الحالة، لا يوجد شهوة جنسية كما عهدناها عند آلهة الأوليمب. ولربما يعود الأمر إلى أن الإله أصبح متعالياً بشكل لا يسمح بهكذا اتصال، ما غيّب فكرة أن يشتهي السماوي الأرضي.
لم يغب الاشتهاء الجنسي بين السماوي والأرضي في الديانات التوحيدية بشكل مطلق، لكن أصبح الأمر من طرف واحد فقط: الأرضي يشتهي السماوي
ومع ذلك لم يغب الاشتهاء الجنسي بين السماوي والأرضي في الديانات التوحيدية بشكل مطلق، بل ظلّت حالات عديدة تلمّح إلى التقاليد الإغريقية والرافدية، لكن أصبح الأمر من طرف واحد فقط: الأرضي يشتهي السماوي. وقد سجل لنا التاريخ الديني حالات عديدة، تجلّت فيها الشهوة الجنسية بشكل صريح من دون مواربة الصوفية، كما في حالة رابعة العدوية: أحِبُكَ حُبَيْنِ حُبَ الهَـوى/ وحُبْــاً لأنَكَ أهْـل لـِذَاك.
ضيوف لوط
كان لوط ساكناً سَدُوم وفق ما جاء في التوراة، "فَجَاءَ الْمَلاَكَانِ إِلَى سَدُومَ مَسَاءً، وَكَانَ لُوطٌ جَالِساً فِي بَابِ سَدُومَ. فَلَمَّا رَآهُمَا لُوطٌ قَامَ لاسْتِقْبَالِهِمَا، وَسَجَدَ بِوَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ". أخذ لوط ضيفيه إلى بيته، لكن امرأته كانت قد وشت به، فجاءه أهل سدوم، مطالبين بالضيفين: "أَيْنَ الرَّجُلاَنِ اللَّذَانِ دَخَلاَ إِلَيْكَ اللَّيْلَةَ؟ أَخْرِجْهُمَا إِلَيْنَا لِنَعْرِفَهُمَا"، وكلمة (لنعرفهما) ذات دلالات جنسية.
وجاء في قصص الأنبياء لابن كثير عن السُّدي، بأن الملائكة خرجت من عند إبراهيم نحو قرية لوط. فلما بلغوا نهر سدوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، فقالوا: يا جارية هل من منزل، فقالت: نعم، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم. فأتت أباها، فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم قط، هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم. أدخل لوط ضيوفه بيته من دون أن يعرف أهل المدينة، إلا أن زوجته أخبرت قومها أن في بيت لوط رجالًا لم تر مثل وجوههم قط.
وقد ذكر ابن وهب: "قال: فلما جاءه المرسلون، خرجت امرأته الشقية من الشقّ، فأتتهم فدعتهم، وقالت لهم: تعالوا فإنه قد جاء قوم لم أر قطّ أحسن وجوهاً منهم، ولا أحسن ثياباً، ولا أطيب أرواحاً منهم".
تعتبر حادثة سدوم هي الحالة الوحيدة التي تسجل اشتهاء الذكور للملائكة أو ما شبه لهم على أنهم ملائكة
هرع ساكنو مدينة سدوم يريدون ضيوف لوط، وقد علم لوط مرادهم الجنسي وحاول منعهم إلا أنهم لم يرتدعوا، فطمس الله بصرهم: "وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ". والمروادة ذات طبيعة جنسية كما في قصة النبي يوسف مع زليخة.
لقد أدرك سكان سدوم أن ضيوف النبي لوط ليسوا على شاكلة البشر، ربما لم يعرفوا أنهم ملائكة، لكنهم خمّنوا على الأقل أن الضيوف من طبيعة تسمو على الصفة البشرية. يخبرنا التاريخ أن قوم لوط كانوا يأتون الذكران شهوة بدلًا من النساء. وبناء على ذلك تعتبر حادثة سدوم هي الحالة الوحيدة التي تسجل اشتهاء الذكور للملائكة أو ما شبه لهم على أنهم ملائكة.
"ما هذا بشراً"
إن قصة النبي يوسف مع زليخة لا تدخل ضمن هذا السياق إلا في اللحظة التي أرادت فيها زليخة أن تنتقم من النسوة اللواتي تناولنها بالسوء. جاء في القرآن "وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ". لقد أدركت النسوة أن الفتى يوسف التي راودته زليخة عن نفسه، ليس بشراً وصرحن أنه ملاك، ومع ذلك اشتهينه، ومن شدة شهوتهن له قطعن أيدهن: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِن أَرْسَلَتْ إِلَيْهِن وَأَعْتَدَتْ لَهُن مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُن سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِن فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُن".
لدينا هنا حالة قد تأكد فيها للمشتهي بأن الذي يشتهيه من طبيعة سماوية، وعلى الرغم من ذلك ذهب بشهوته إلى حدّ الذهول عن الألم. هذا ما حدث بالضبط مع النسوة اللواتي عُبن زليخة زوجة العزيز والتي كانت قد سبقتهن إلى الهيام بهذا الملاك، ومراودته عن نفسه، أكانت عارفة بهويته الملائكية أم لا.
نور النبوة
بعد أن تم فداء عبد الله بمئة من الأبل، أراد عبد المطلب تزويجه، وفي الطريق مرّ عبد الله بامرأة تدعى فاطمة الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجهه، فقالت: يا فتى هل لك أن تقع عليّ الآن وأعطيك مئة من الأبل. فقال: أنا مع أبي، ولا أستطيع خلافه وفراقه. ثم تزوج عبد اللّه بآمنة في نفس ذلك اليوم، وقضى معها ليلة واحدة. في اليوم الذي تلاه أتى المرأة الخثعمية الّتي عرضت نفسها عليه وأبدى استعداده لتنفيذ رغبتها، ولكن الخثعمية قالت له: ليس لي بك اليوم حاجة، فلقد فارقك النورُ الّذي كان مَعك أمس!
يورد لنا التراث الإسلامي العديد من الروايات على أن الملاك جبرائيل كان يأتي الرسول بصورة دحية الكلبي، ودحية كان جميلاً جداً. وذكر ابن قتيبة الدينوري بأن دحية عندما كان يأتي المدينة لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه. والمعصر هي الفتاة في أول الحيض
لقد ذهب النور السماوي الذي كان في وجه عبد الله إذ ألقى بذرة النبوة في رحم آمنة، لكن لو كانت المرأة تريد أن تكون أم النبي الأمي فقط، من دون أية نية شهوانية بالنور السماوي الذي كان في وجه عبد الله، لكان لها بعد خسارة نطفة النبوة أن تلجأ للخطة (ب) وأن يكون لها من أب الرسول ابناً غير شقيق، وسيكون في النهاية أخاً للرسول من جهة الأب وذلك عبر أسلوب براغماتي. وهذا مكسب للغاية البراغماتية التي فسّرت بها رغبة فاطمة الخثعمية بعبد الله، إلّا أن رفض فاطمة لعبد الله بعد زواجه يؤكد بأن رغبتها كانت أن تضطجع مع السماوي الذي حلّ بعبد الله، وأنار وجهه.
المعصرات يشتهين جبرائيل
يورد لنا التراث الإسلامي العديد من الروايات على أن الملاك جبرائيل كان يأتي الرسول بصورة دحية الكلبي. "روي عن أنس رضي الله عنه، أن النبي قال: كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبي"، ودحية كان جميلاً جداً. وذكر ابن قتيبة الدينوري بأن دحية عندما كان يأتي المدينة لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه.
والمعصر هي الفتاة في أول الحيض. إن تركيز ابن قتيبة على أن كل معصر تخرج لرؤية جبرائيل بصورة دحية الكلبي، يؤكّد ما ذهبنا إليه في أن الأرضي يشتهي السماوي جنسياً.
إن السماوي له إغواء يتعدّى صفة القداسة إلى الشهوة الجنسية. وإن كان من أثر باقٍ إلى هذه اللحظة نجده في التشابيه الشعرية والأقوال، كأن يوصف الحبيب بالملاك. وهذا لم يمنع أن يكون محلاً للشهوة الجنسية، على الرغم ما يعنيه الملاك من قداسة لا يُقبل تلويثها حتى بالنوايا، فكيف بالاشتهاء الجنسي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...