شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لم يكن مشياً، كان هرباً من عيون الرجال

لم يكن مشياً، كان هرباً من عيون الرجال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 29 مارس 202107:05 م


نتوه كثيراً في تحديد السجان الموجود في حياتنا، فهل هو سلطة القانون أم الدين أم المجتمع أم العائلة؟ أم هو ذاك الذي يغلق الأبواب علينا لأنه يملك الوصاية تجاهنا أو الصلاحية المعطاة من قبل أصحاب القوة؟ في الغالب، يكون سجاننا الأكثر شدة هو عقلنا وضميرنا الحي أو النائم الذي صُمّمَ ليكون جهاز التحكم الذي يتحكم بنا، والذي بُرمج لينُفذ رغبات الأهل والمجتمع وعاداتهم حتى في غيابهم. هذا العقل الذي يؤنبّني لأي خطأ قد أرتكبه حتى لو لم يجده المجتمع كذلك. فالتربية قد جعلته هكذا. وأنا لا بد أن ألتزم بالوصايا الألف التي تلقيتها منذ الطفولة، والتي تُثقل عليّ بين وقت وآخر.

لقد اعتدتُ لسنوات أن أمشي في مدينتي اللاذقية بأريحية؛ لا أفكر كثيراً في العيون المُراقِبة التي غالباً ما كانت أخف وطأةً من غيرها في مدن أخرى. تربيتُ على أن شعري ليس شيئاً كارثياً عليّ إخفاؤه، بل هو كاليد والقدم، ولا مشكلة في إظهاره. تربيتُ على أن المستوى المتوسط من اللباس هو الحالة الطبيعية في الحياة، فلا داعي للتشدد فيه ولا داعي لأن يكون لافتاً للانتباه وفاضحاً. تربيتُ على أن التحية الراقية تكون بالمصافحة، أما عدمها فتعتبر قلة احترام للطرف المقابل، وعدم وعي من قبلي باللباقة والتهذيب.

سمعت اقتراحات كثيرة عن ضرورة وضع الحجاب ضماناً للسلامة، لكني رفضت بشدة لعدم قناعتي به. وكنت أكرر دائماً: "أنا أخبّئ عيوبي وليس رأسي"

في مواقف عدّ، عند لقائي ببعض الذكور من بيئات مختلفة، كنت مضطرة لأن أقول في كلّ مرّة يقف فيها أحدهم أمامي متردداً ومفكراً: أنا أسلّم مصافحة لا تقلق! حينها فقط يكمل الشاب تحيته ويمدّ يده للمصافحة. بينما تكون التحية بأكملها قد تشوّهت بالنسبة إلي، وفقدت عفويتها التلقائية. أحتار في كلّ مرة كيف يخطر في بالهم أن فتاة "سبور" لا تصافح. أو كيف يخطر في بالهم أن أكون في هذا المستوى المتراجع من التفكير، ليشغلني أمر المصافحة التي أراها بديهية لصورة احترام الآخر؟ ليس هناك أسوأ من أن يحاصرك المجتمع، ويقرر أن يحاكمك وفق مفاهيمه ومعتقداته، غير عابئ بقناعاتك وآرائك، غير مهتم برضا والديك عنك حتى وأنت في هذا النمط من الحياة، بل يجب أن يرضا عنك المجتمع، وأن تلتزم بقوانينه حتى لو كانت خاطئة.

حين انتقلت إلى مدينة أخرى أكثر محافظةً من مدينتي، شعرت بضرورة ألا أثير استياء المحيط وألا ألفت انتباهه كثيراً، أن أتحاشى نظراته الثاقبة نحوي. سمعت اقتراحات كثيرة عن ضرورة وضع الحجاب ضماناً للسلامة، لكني رفضت بشدة لعدم قناعتي به. وكنت أكرر دائماً: "أنا أخبّئ عيوبي وليس رأسي". لكني بالمقابل تركتُ نصف ملابسي في بيتنا الريفي، والتي قد تثير نظرات الرجال في هذه المدينة. اعتدتُ في مدينتي أن أمشي بخفة، لا أفكر بمن حولي لأن لا أحد يستنكر سير فتاة حاسرة الرأس بملابس "سبور". فكل ما كان عليّ أ٫ أفعله هناك هو أن أستمتع بالسير في الشوارع. أما هنا في هذه المدينة، فكثيراً ما أشعر أن عليّ الهرب وليس السير؛ الهرب من نظرات الناس الذين لا أشبههم، الهرب من النظرات التي لا تعرف النظر إلى المرأة دون اشتهائها. حتى أني بتّ أسير منكمشة الكتفين بدرجة متوسطة، أنا التي أواظب على فتحهما أثناء ممارستي لليوغا، بتّ متنبّهة في كل خطوة إن طيّر الهواء طرف سترتي، إذ عليّ إعادتها إلى وضعها الآمن بسرعة.

أشعر أن عليّ الهرب وليس السير؛ الهرب من نظرات الناس الذين لا أشبههم، الهرب من النظرات التي لا تعرف النظر إلى المرأة دون اشتهائها

حين أمشي في الشارع أتحاشى الدخول في أي ازدحام وأترك مسافة آمنة بيني وبين الآخرين كي لا أتعرض لأي موقف تحرش. حتى حين أضطر إلى النزول من الميكرو وسط تدافع الناس للصعود، أحاول الهروب بسرعة للخروج من وسطهم، فأنا أعرف كيف يستغل بعض الوضيعين هذا الأمر للمس جسد الفتاة المحشور بين أجساد عديدة وهي تمرّ. وأنا غير مستعدة لموقف كهذا نهائياً لأنه قد يزعجني لأيام قبل أن أنساه.

أحياناً أتساءل من المُلام في ذلك؟ هل هو نفسي التي عليها ألا تعبأ بالآخرين طالما هي مدركة أنها على صواب؟ أو هو المجتمع المريض الذي كُبتَ حتى صار مقرفاً؛ علينا الهرب منه بأي وسيلة؟ أتساءل كثيراً من هو السجان الذي يسجنني؟ هل هو عقلي وفكري الذي تشرّب تربية الأهل مع الماء منذ أكثر من ثلاثين سنة؟ أم هم الناس الذين يرفضون من لا يشبههم؟ أم الرجال الذين لا يغضون نظرهم حتى في صيامهم، فيدّعون الإيمان ولكن غريزتهم لا تعرفه، فعيونهم تفضح شهوانيتهم وتوقهم إلى أي جسد أنثوي؟ كثيراً ما تابعت نظرات رجال عن بعدٍ وهي تتابع أجساد الفتيات التي تمر أو تنحني أمامهم، وكم كانت مقززة حقيقةً! لم أنس يوماً مشهد المرأة التي مرّت بجلبابها الأسود من أمام سائق التاكسي الذي لم يجد إلا قدميها دون غطاء فلم يرفع عينيه عنهما.

إذن، في من المشكلة؟ ما ذنبنا أن نأسر أنفسنا في قيود الرجال لنحتمي منهم؟ لماذا على المرأة أن تتلفع بعشرين غطاء، بينما يخرج الرجل إلى شرفة منزله في "شورتٍ" قصير فقط؛ غير عابئ بالجارات أو المارات؟ من قال له إن كرشه المتهدل جميل، أو إن جسده الأشعر لن يثير الغثيان في الغريبات؟ إن كان على الإنسان أن يحتشم في لباسه، فهذا مطلوب من الجنسين، لا أن تُخنق المرأة في أحزمتها ويتحرر هو من كل ما يضايقه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image