شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
العراقية صاحبة البشرة الزرقاء

العراقية صاحبة البشرة الزرقاء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 18 مارس 202112:43 م

لقد كان الأمر بمثابة هدية من السماء، لمنحي تجربة العيش بوجهين وحياتين مختلفين، بسبب لون بشرتي متقلّب المزاج. لا أمزح، هكذا تجري الأمور هنا؛ أنت تعيش وفق مزاج لون بشرتك، فهي تقرر نيابة عنك. أن تعيش مترفاً أو ضائعاً في متاهات التنمر والسخرية، ليستقر فيما بعد، جلدي، على لون ثابت، يقال عنه أحياناً: أزرق. يخبرني أقاربي، بحماس وبشكل مستمر، كنوع من التذكير والتساؤل باستغراب عمّا حل بوجهي القديم- والذي تبدل بعد عمر الحادية عشر- أني حينما ولدت، كنت ببياض الغيمة الربيعية، فأحبوني. ووهبت أياديهم، قدسية التنافس في حملي، والتغزل بوجنتين زهريتين، ربّانيّتين. واستمر هذا الحب حتى بدت ملامح المراهقة تأخذ طريقها إلى جسدي. فيما لم تنل ابنة عمي- وهي بمثل سني، لكن كانت وقتها سمراء البشرة- أي قسط من الدلال أو الحمل على الاكتاف. وإذا ما رفعوها قليلاً، سيخبرونها بجدية بالغة: ها الزرگة، متى تصبحين بيضاء؟ يضحكون بسخرية ويقولون: "الكارثة اسمها نور، ها، اسم على غير مسمى".

فتجيبهم: أوغا! ولا تسكت ضحكاتهم. كان عليها أن تبرر لهم الأمر وهي بعمر الشهرين لا أكثر. لكن حمداً للرب أن تبريراتها لم تبق طويلاً حتى تغيرت لون بشرتها وأصبحت حرة من تساؤلاتهم، بعدما أصبحت فجأة بيضاء اللون. وهبت الشمس بعضاً من لسعاتها الذهبية مسامات وجهي وجسدي. تبادلنا الأدوار سريعاً، وبدأت قصتي مع حفظ المفردات الجديدة والمتعلقة بلون بشرتي. يلقون باللوم أحياناً على ابنة عمي، لعلها نقلت لي العدوى، وكأن الموضوع أشبه بحمى، تنتقل إلى لون البشرة. تلك الجمل الموجهة نحو لون جلدي، لا علاقة لها بلون الجلد وتدرجاته منذ بدء الخليقة وتعدد الأعراق والألوان حتى يومنا هذا. إذ أخبرني أحد أقاربي يوماً وأنا بعمر الثانية عشر، أنني زرقاء. لم أفهم حقاً ما يعنيه، حتى وضحت لي أمي أن الكلمة تقال لذوي البشرة المائلة للسمرة. ولم أفهم شرحها أيضاً، لأني تمعنت بلون جلدي مطولاً ولم أجد الأزرق الذي منحني إياه.

أخبرني أحد أقاربي يوماً وأنا بعمر الثانية عشر، أنني زرقاء. لم أفهم حقاً ما يعنيه، حتى وضحت لي أمي أن الكلمة تقال لذوي البشرة المائلة للسمرة

لم تتبدد بعدئذ هذه الكلمة مطلقاً من حياتي ولم تتلاشى. لقد استمرت كما اسمي ولاصقته أحياناً. فتخرج مرات على شكل مزاح، كـقولهم: "آية الزرگة، لا تحاولي تجميل نفسك". بالنسبة لهم، إن حاولت وضع أحمر شفاه، فإنه لا يناسبني أو يميل لجعلي أكثر سمرةً. وفي مرات عديدة، نصحت بعض السيدات أمي، أن تجلب لي خلطة تبييض العروسة. وهي خلطة لعدة منتجات مبيضة وكريمات، عسى أن يأتي العريس. فبالطبع لن يقبل أن يرث صغاره لون بشرة زرقاء من أمهم. وإن وافق، فلن تفعل أمه، التي تبحث له بشكل دائم، عن وجه أبيض مستدير، وعينان زرقاوان أو خضراوان، وشعر أشقر رمادي فاتح، وكرش صغير، هل تريدون أن تزوجه أمه من فتاة ضعيفة وسمراء؟ كيف؟ حتى أن ابنة عمي نور عندما تزوجت، أشاروا لي بضرورة معرفة المنتجات التي صارت تستخدمها منذ سن صغير لتصبح أكثر بياضاً. هم يخبرونني ذلك، "حرصا عليّ"، لئلا يفوتني القطار ولا أجد في المحطة من ينجذب إلى السمراوات! فيما تردد إحدى النساء: "لو بشرتك أفتح قليلاً، لخطبتك لابني".

تُمغط هذه الكلمة مثل عجينة بيتزا، وتتمدد تحت مشبك روحي. فتصنع مرادفات لا تختلف كثيراً في أذاها. لكنها تعيد لي التساؤلات، وإذ كنت أسأل نفسي عن لون الزرقة التي تعتلي جلدي، فأي زرقة هي منهن؟ البحيرة مثلا؟ أو أزرق السماء يقصدون، أو زرقة الشروق؟ أي تدرج من الأزرق يعنون عند نطقهم لها، ولم لا أختار بنفسي درجة أميل لها؟ أحب الأزرق الغامق ولا مشكلة عندي مع أي لون كان. ولا أجد كلمة زرگة وصفاً معيباً أكثر من كونه اسم للون، لكنهم يجدون. لقد أنجبت هذه الكلمة، في حياتي وحياة من يملكن لون بشرة مشابه، عبارات جديدة، مثل كلمة "دبسة"، التي عرفتُ فيما بعد، أنهم وببراءة، يشبهون البشرة بلون دبس التمر، واو، بارعين نحن باختراع المفردات والتشبيهات القاتلة. كل حرف بمثابة سكين صغير يشق جزءًا من وجهك ولونه دون أن ينتبهوا، لكن الشق يمنح اللون الأزرق مخرجا للظهور أكثر، كل مرة كنت أتباهى بلوني، وأحبه أكثر.

نصحت بعض السيدات أمي، أن تجلب لي خلطة تبييض العروسة. وهي خلطة لعدة منتجات مبيضة وكريمات، عسى أن يأتي العريس

الزرگة حسب مفهوم بعض من يعيش في هذا المجتمع، لا يحق أن ترتدي أي لون تحب، لا يمكنها أن تصبغ لون شعر تفضله، كيف يمكنها أن تضع طلاء أظافر؟ ذلك يجعل بشرتها أكثر زرقة. هم يحصرونك في قفص أزرق، ولا يسمحون لك أن تخرج منه إلى عالم ألوان أخرى. طالما أنت ازرق بنظرهم، فلن تجرب الألوان الأخرى. جرب فقط، وانتظر فيضان التنمر والسخرية والتحقير. مرة ارتديت أصفر فاقعاً، وكان لوني المفضل، مع تنورة حمراء. جمّع زميل لي في العمل الزملاء وقال: "تعجبني ثقة آية، رغم زرقتها، إلا أنها ترتدي الأصفر. لا تصدقون ما هو دمج الأصفر مع الازرق؟" ثم تعالت ضحكاتهم. هذا التنمر الذي حينما تجيب عليه، سيقابلونه ببلادة: لا تتحسس، نحن نمزح معك، وأنت فعلاً زرقاء. حينما لا تمنحهم وقتاً إضافياً من المرح، على حسابك، ستكون حساساً أيضاً. يا إلهي.

نعم أنا زرقاء وأحب أن أبدو جميلة. ولا أريد أن أبدو جميلة لأغطي اللون الازرق الذي يرونه دون أن أراه، بل لأني أحب وضع مساحيق التجميل حتى تلك الصارخة التي تعجبني، وارتداء الألوان التي تبهج قلبي وتصنع مزيجاً أحبه مع لون بشرتي. ولا مانع من وضع بعض الفلاتر على وجهي أحياناً وأنا ألتقط السيلفي. ولا يعني أني وضعت هذا لأبدو ناصعة كالغيمة الربيعية ولا أريد. في كثير من الأحيان ينهال علي سيل من التعليقات التي تذكرني بأني زرقاء، فلمَ لا أحاول تبييض نفسي؟ كيف أشرح لهم أني أحب بشرتي، وبأي لغة أقول إني مستعدة لسماع مفردة جديدة واسم للون جديد؟ هم يرون أنه ليس من حقك وضع الفلتر حتى. أنت زرقاء هل تحاولين تجميل نفسك؟ سؤال متكرر منذ عشرين عاماً.

حسناً، لا تحاول الاحتماء بعالم ركيك لا يقوى على تحمل لون بشرة. أحبْ ما يحدث في جسدك دون جهد، واستمتع

أنا لا أتعلم ولا أحب أن أتعظ. يعجبني شعور الحزن المتكرر تجاه التنمر الذي أتعرض له على بشرتي، حتى في تعليقات السوشال ميديا، لأنه يؤمن لي فكرة عدم غض الطرف عن مثل هذا الموضوع. من البديهي ألا نلتفت لكل شيء في الحياة، لكن لا تسمح لأحد مطلقاً أن يعتبر أن السخرية من وجهك هو أمر عابر، ولا ترضى بعبارة "عديها لم يكن يقصد". أسترجع الآن وأنا أكتب، ما حصل معي مرة وأنا أسير في إحدى أزقة بغداد، إذ تفوه أحد الواقفين بعبارة تحرش جعلتني أقف لرده بقسوة، ليجيبني باسترخاء شديد: "ديلا فوك ما عبرتج؟ هو إنت زرگة". هم يستكثرون التحرش، هذا الفعل الموحش مثل الغربة، عندما تجيبهم فتاة سمراء. وكأنه قد قدم لها فعلاً نبيل بالتحرش منها وهي التي تحمل لون بشرة لا تنفع لغير السخرية، فلا يكتفون بإهانتك مرة ببشاعة أخلاقهم، بل يبهرونك بعنصريتهم.

أعيش مع عالم مستمر من هذه المواقف، وجوابي صار لكل كلمة جديدة: حسناً، لا تحاول الاحتماء بعالم ركيك لا يقوى على تحمل لون بشرة. أحبْ ما يحدث في جسدك دون جهد، واستمتع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image