"أسبوع طويل مرَّ، تاركاً المجال لأسبوعٍ آخر سيكون أطول وأقسى.
سأحاول أن أكتب بشكل متواصل عن يومياتي في هذا الزمن، زمن فيروس كورونا، زمن الوباء، ولكن أيضاً زمن التخلي عن الكماليات والتشبّث بما كنا نسيناه: الوجود بحد ذاته.
سأحاول أن أكتب كطبيبة بات هذا الفيروس من يومياتها منذ أكثر من شهر، كطبيبة تحاول مع زملائها التأقلم مع احتياجات تتكاثر وتتسارع يومياً. احتياجات مادية ولكن أيضاً نفسية، لخوف تراه في أسئلة الكثيرين من حولها.
هذا الخوف الذي يولِّد في نفسي، وفي نفس العديد من الأطباء، تساؤلات عن قدرة تحملنا النفسية والجسدية في الأيام والأسابيع القادمة. تساؤلات أيضاً عن خطورة هذا الفيروس على من هم حولنا.
لن نستطيع هذه المرّة حماية أحبائنا مما نعيشه في عملنا... فهم باتوا جزءاً منه".
وجدتُ هذه الخواطر بين أوراقي. كتبتها بتاريخ 15 آذار 2020. لم أتمكن من الالتزام بما خططت له من تدوين مذكراتي في ظل جائحة فيروس كورونا. كان الوقت والتعب عائقين أساسيين في الفترة الأولى، ثم نوعاً من الهروب من تلك الفترة في المرحلة الثانية. بعد الهدوء الأول لانتشار الفيروس، استطعنا استعادة بعض ما يُعتبر "حياة طبيعية".
لم يكن خوفي الأول، كطبيبة أمراض جرثومية في فرنسا، متعلقاً بالخوف من العدوى من الفيروس، ومن المرض بشكل عام. كانت سرعة تراكم العمل واكتشاف الفيروس يولّدان نوعاً من التحدي لاكتشاف المزيد والغوص في تلك الموجة التي تغزو العالم. لم أكن خائفة من العدوى، كنت أشعر بهدوء أمام احتمال المرض، هدوء ممزوج بانتظار العدوى، دون أن يكون ذلك الانتظار مرضياً أو حتمياً.
طبعاً، العيش بمفردي ساهم بغياب الخوف من نقل الفيروس الى عائلتي، خاصة أنهم في لبنان، حيث كان انتشار الفيروس أقل من فرنسا حينها.
غياب الخوف من العدوى لم يكن عملاً بطولياً، بل كان نوعاً من الحماية النفسية الذاتية، خاصة مع وجود تساؤلات ومخاوف أخرى تتمثل بقدرتي الشخصية، وقدرتنا جميعاً كفريق عمل، لمواصلة العمل بنمط سريعٍ لساعات طويلة ولأيام متتالية، دون أيام الراحة الاعتيادية التي يُؤَمِّنها نظام العمل الفرنسي.
كم سيمضي من الوقت دون أن يظهر ضعفنا الجسدي والنفسي؟ كم سيمضي من الوقت دون أن نستسلم أمام تلك الوتيرة السريعة وأمام مشاهد الموت الكثيرة، التي مهما زادت سنوات خبرتنا تبقى غير اعتيادية، في ظل سبب غير اعتيادي؟
كم سيمضي من الوقت دون أن يظهر ضعفنا الجسدي والنفسي؟ كم سيمضي من الوقت دون أن نستسلم أمام تلك الوتيرة السريعة وأمام مشاهد الموت الكثيرة، التي مهما زادت سنوات خبرتنا تبقى غير اعتيادية، في ظل سبب غير اعتيادي؟
تعود إليَّ ذكريات تلك الفترة: أول مريض، أول حالة تم إدخالها الى قسم العناية الفائقة، أو الإنعاش كما نسميه بفرنسا، الأدوية التي تم استخدامها دون أي بديل آخر، والتي تمَّ منعها لاحقاً لعدم ثبوت فعالياتها. ذكريات لم يمض عليها الكثير من الزمن، ولكن تغيَّر الكثير، ولا زلنا داخل دوامة لم تظهر نهايتها بعد.
ومرّت تلك "الموجة الأولى" من تفشي الفيروس. لم يختف. كنا نعلم أنها ليست سوى استراحة، تمكّنا خلالها من لملمة تعبنا واستعادة القليل من الاختلاط الاجتماعي.
وها نحن في "الموجة الثانية". نتخبط فيها. خطواتنا الطبية أكثر ثقة وأقل اهتزازاً، مع الخبرة العلمية والإنسانية التي اكتسبناها خلال ربيع 2020، ولكنها تطول، وتأخذ أشكالاً أخرى.
يأخذ خوفي أشكالاً أخرى.
عشت بداية الموجة الثانية في فرنسا ثم لأسباب عائلية، جئت الى لبنان منذ بضعة أسابيع. لا يمكنني العمل في بلدي، لأني بانتظار إنهاء المعاملات الرسمية.
انتقلتُ حينها الى الجهة الأخرى، خارج المستشفى. أمام شاشة التلفزيون، أتتبع الأرقام وأقلب بين الشاشات، متأرجحة بين أرقام الحالات في لبنان وبعض التسلية في البرامج والمسلسلات القديمة.
لطالما كنت أتمنى الراحة في الحجر المنزلي خلال الموجة الأولى، وها أنا هنا، أستمتع بعض الشيء بهذا الوقت الطويل، بهذه الراحة الإجبارية والمُنتظرة منذ شهور مع العائلة.
أراقب ما يدور من حولي، كشاهد على مسرحية كان يوماً من أبطالها، وها هو بين مشاهديها. رغم أن عودتي كانت مرتبطة بحاجتهم وحاجتي للبقاء مع أهلي، إلا أني كنت أشعر بخليط بين الرغبة بالمشاركة المهنية والإحساس بالذنب لوجودي المريح في بيتي.
شهدتُ استخفاف بعض الناس في لبنان من جهة، ولكن ما كان واضحاً أكثر أن الحجر المنزلي ترف لا يمكن لأغلب الناس تطبيقه، خاصة دون الدعم المادي المؤمن في البلاد الأوروبية
شهدتُ استخفاف بعض الناس من جهة، ولكن ما كان واضحاً أكثر أن الحجر المنزلي ترف لا يمكن لأغلب الناس تطبيقه، خاصة دون الدعم المادي المؤمن في البلاد الأوروبية. هذا الحجر يصبح أصعب، مع غياب المنطق في القرارات الرسمية المتخذة، إن كان من خلال التأخر أو غياب التجهيزات الطبية واللوجستية لوباء عالمي أكمل عامه الأول، أو من خلال التسلسل الزمني لها بعد فترة "افتتاحٍ عام" تلتها فترة "إغلاق عام".
شهدتُ مهزلة الوسائل الإعلامية وغياب أي احترام لخصوصية المريض أو مهنية في التقارير الطبية.
شهدتُ غياب التنسيق الطبي، مع استخدام طرق علاجٍ لا إثبات لفعالياتها.
شهدتُ أيضاً محاولة العديد من زملائي وزميلاتي العاملين في القطاع الصحي ممارسة مهنهن/هم، وسط تجاذبات بين السياسيين والمنتفعين من هذا القطاع المنهار والمنهك من الاستنزاف المتواصل له.
شهدتُ التخبط في المستنقع السياسي الهزلي.
شهدتُ العبثية في كل شيء...
تغيّر خوفي. بات خوفاً على أهلي. بات خوفي من أن أقف عاجزة، رغم سنوات دراستي وممارستي للطب، أمام مرض وألم من حولي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...