في تسعينيات القرن التاسع عشر، حصل خلاف "دمشقي" داخل قصر السلطان عبد الحميد الثاني. اعترض مستشار السلطان في حينها، أحمد عزت باشا العابد، على تسمية الفتى، عبد الرحمن باشا اليوسف، أميراً للحجّ خلفاً لجده العجوز.
قال العابد إن اليوسف لا يملك من الخبرة والعمر ما يؤهّله لتولّي هذا المنصب الديني الرفيع، مُطلقاً خلافاً بين العائلتين الدمشقيتين المقيمتين في قصرين متجاورين، في حيّ سوق ساروجا بدمشق. وقد دام هذا الخلاف حتى زواج ابن العابد من شقيقة اليوسف، قبل انهيار الدولة العثمانية بسنوات قليلة.
الشاب كان اسمه محمد علي العابد، وقد أصبح أول رئيس للجمهورية في سورية، لتكون زوجته زهراء اليوسف، أول سيدة أولى للبلاد. جمعت هاتان العائلتان الكبيرتان الجاه والمال، لتكونا من أكثر العائلات السورية نفوذاً وحضوراً، إلا أنه تم تدميرهما معاً، بجرّة قلم، بصدور قانون الإصلاح الزراعي سنة 1958، بتوقيع الرئيس جمال عبد الناصر.
الزواج السياسي ليس جديداً على هذه البلاد، وقد تجلّى بوضوح في عصر المسلمين الأوائل. فقد زوّج النبي اثنتين من بناته لعثمان بن عفان، وثالثة لعمر بن الخطاب، ليكونا عدلاء مع علي بن أبي طالب، زوج فاطمة الزهراء ورابع الخلفاء الراشدين
خلاف عائلي بين رئيس الجمهورية والمجلس
ومن المُلفت أن محمد علي العابد، وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1932، أجبر على التعاون مع صبحي بركات، أحد زعماء مدينة أنطاكيا السورية، المحسوب على الفرنسيين. كان العابد قد تنافس مع بركات على رئاسة الجمهورية السورية، وعند فوز الأول على الأخير، تم انتخاب صبحي بركات رئيساً لمجلس النواب.
ولكن العلاقة بينهما ظلّت متوترة جداً بسبب خلاف عائلي، ذلك أن صبحي بركات كان قد طلب يد كريمة العابد للزواج، طمعاً بميراثها الكبير عن جدها أحمد عزت العابد، الذي كان يملك أسهماً في شركة قناة السويس وقناة باناما، إضافة لأملاك وأراضٍ وأبنية في دمشق، القاهرة وإسطنبول. كان زواجاً سياسياً بامتياز، مبنياً على المصلحة لا الحب. وبالفعل، جرت حفلة خطوبة في قصر العابد، لم تشهد لها دمشق مثيلاً من قبل، حضرها ضيوف كبار من تركيا ومصر، بدعوة من جدّ العروس الذي أشرف على كافة الترتيبات بنفسه.
ولكن وبعد فترة قصيرة، فكّ بركات الخطبة بدون سابق إنذار واقترن بكريمة درويش باشا، الوجيه التركي المالك لمعظم قرى سهل البقاع. غضب محمد علي العابد من هذا الفعل غير المشرّف وغير الأخلاقي، وقضى ما تبقى من عمره لا يكلم صبحي بركات، ويرفض حتى مصافحته.
دمشق والزواج السياسي
الزواج السياسي ليس جديداً على هذه البلاد، وقد تجلّى بوضوح في عصر المسلمين الأوائل. فقد زوّج النبي اثنتين من بناته لعثمان بن عفان، وثالثة لعمر بن الخطاب، ليكونا عدلاء مع علي بن أبي طالب، زوج فاطمة الزهراء ورابع الخلفاء الراشدين. كما تزوج هو من عائشة بنت أبي بكر، أول الخلفاء. وقد أدت هذه الزيجات إلى تمكين التحالف والتصاهر بين الصحابة، ولكنها انعكست سلباً على المسلمين بعد وفاة النبي، مخلفة حروباً وصراعات ما زالت آثارها حتى يومنا هذا.
إن قائمة السياسيين اللبنانيين المتزوجين من أسر سورية تطول، ومنهم مثلاً وليد جنبلاط صهر وزير دفاع سورية، أحمد الشرباتي، والرئيس سعد الحريري، المتزوج من عائلة العظم الشهيرة، والتي كان من أصهرتها أيضاً عبد الله اليافي، رئيس الحكومة اللبنانية السابق
وفي سورية، كانت الصحف اليومية تتناقل أخبار العائلة المالكة المصرية ومصاهرتها لأمير عرش الطاووس، رضا بهلوي، الذي مرّ بدمشق وهو في طريقه إلى القاهرة لعقد قرانه على الأميرة فوزية، شقيقة الملك فاروق. وفي سورية أيضاً كان هناك الكثير من المصاهرات بين عائلاتها الكبرى، ولكن بعيداً عن الإعلام والصحف. لم يكتب عن هذه الزيجات إلّا القليل، عِلماً أنها نسجت شبكة سياسية بين تلك العائلات، استمرت لسنوات طويلة.
وكثيراً من الأحيان، تخطت هذه الزيجات حدود مدينة دمشق إلى مدن بلاد الشّام الأخرى، لتساعد على ترسيخ التحالفات السياسية بينهم. ففي الكتلة الوطنية مثلاً، التي ظهرت في سورية في نهاية العشرينيات، تزوّجت سلمى بنت لطفي الحفار، من شقيق زعيم طرابلس، عبد الحميد كرامي، الذي أصبح رئيساً للحكومة في لبنان، ومن أشهر المنادين بتوحيد البلدين بعد فرض الانتداب الفرنسي عليهما سنة 1920. وعند اعتقال الحفار، إثر الانقلاب الأول في سورية سنة 1949، توجه عبد الحميد كرامي إلى دمشق لمقابلة حسني الزعيم، قائلاً: "نرجو إطلاق سراحه، وإلا... غضبت طرابلس الشّام".
وفي بيروت، تزوج رياض الصلح من فايزة، كريمة نافع الجابري، نائب حلب في مجلس المبعوثين، ليولد تحالف متين بينه وبين رئيس وزراء سورية، سعد الله الجابري، في وجه الفرنسيين، نهاية الحرب العالمية الثانية. طبعاً، إن قائمة السياسيين اللبنانيين المتزوجين من أسر سورية تطول، ومنهم مثلاً الرئيس تقي الدين الصلح، صهر آل البرازي، ووليد جنبلاط صهر وزير دفاع سورية، أحمد الشرباتي، والرئيس سعد الحريري، المتزوج من عائلة العظم الشهيرة، والتي كان من أصهرتها أيضاً عبد الله اليافي، رئيس الحكومة اللبنانية نهاية الثلاثينيات.
كان الرئيس صائب سلام متزوجاً من تميمة مردم بك، بنت عم رئيس وزراء سورية، جميل مردم بك
وقبلهم كان الرئيس صائب سلام متزوجاً من تميمة مردم بك، بنت عم رئيس وزراء سورية، جميل مردم بك. أما داخلياً، فقد تزوج أحد أبناء الرئيس هاشم الأتاسي من سيدة من آل الركابي، وهي سليلة أسرة دمشقية كبيرة ومعروفة، لتجعله في مصاهرة مع أول رئيس حكومة في سورية، رضا باشا الركابي. وكان نجل فارس الخوري متزوجاً من شقيقة حبيب كحالة، صاحب مجلّة المضحك المبكي الشهيرة، التي كانت من أشد المناصرين له ولحزبه، الكتلة الوطنية.
وكان نسيب البكري مثلاً، من أقرباء زوجة الرئيس شكري القوتلي، وكذلك الزعيم الوطني الكبير، فخري البارودي. أما الرئيس عطا الأيوبي، فكان متزوجاً من شقيقة الأمير سعيد الجزائري، أول حاكم لمدينة دمشق بعد تحريرها من العثمانيين، الذي قام بتعيينه وزيراً في حكومته المصغرة سنة 1918. لم تتدخل أي من تلك السيدات بأعمال أزواجهن السياسية والوطنية، ولكنهن لعبن دوراً خفياً في ترسيخ التحالفات التي ولدت عن طريقهن، وبعضها استمرّ لسنوات، حتى بعد غياب أبطال قصصها الأصليين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...