الساعة التاسعة صباحاً، استيقظ على اتصال صديقي مجد.
مجد: "أخيراً! جو بالمستشفى وقد استفاق من غيبوبته إثر وقوعه بالليل وضرب رأسه برخام المطبخ، سأكون أمام بيتك في غضون نصف ساعة، يوجد فرن تحت المشفى، سنفطر المعجنات بغرفة جو، وإياك التأخر هذه المرة، لأنه طفح الكيل معي".
- حسناً لن أتأخر، بانتظارك.
أهلنا يشعروننا بالذنب من حبهم المطلق لنا، من حبهم غير المحدود.
بعد انتهاء الاتصال، ست عشرة مكالمة لم يتم الرد عليها كانت كفيلة لانتشالي من "أحلامي المراهِقة" والنهوض بسرعة من السرير لموافاة مجد.
نصل لغرفة جو، أطمئن عليه بسرعة وأحضّر الطاولة لبدء فطورنا، يحدّثنا جو عن انزعاجه الشديد لوجود أهله بقربه، ويقول: "إنهم هم زائد فوق همي على نفسي، لكن أتعرفون؟ لقد سقطت أرضاً بينما أمضغ القطعة الأخيرة من الحلو العربي".
أقول ضاحكاً: "جيد، إذاً سقطت مطمئناً عليهم في معدتك".
لم يعجب مجد ما عبّر عنه جو، بعصبية: "أطعموك، ألبسوك، واشتروا الحلو العربي، وتسرقه بالليل كرد جميل، هذا غير قلقهم عليك وحبهم لك، وتنزعج! والله يا جو أنت تريد تربية وليس مشفى".
- جو: "يعني... لست منزعجاً، لكنني لست مرتاحاً أيضاً، من الجيد أنكما أتيتما كي أتسلى معكما وأنسى ألمي. مجد... عندما أرى تعابير وجهي والديّ وخاصة أمي أشعر بالضيق الشديد…".
يقاطعه مجد رافعاً من نبرة صوته ورافضاً حجته: "ما هذا الخراء يا جو، أنا متأكد أنني لن أتألم إن رأيت وجهي والديّ القلقين علي، أقسم يا جو أنك تريد المساعدة، يجب أن لا تكون هنا، ربما مستشفى المجانين سيناسبك أكثر".
- جو محاولاً التبرير: "كلا مجد، لكنك لم تجرب موقفي…".
أقاطع جو محدّثاً إياه بينما أمضغ لقمتي: "لا تبرر جو، أنت الذي من لم تجرب موقفه، فقد جرّب العكس تماماً، لم يهت…".
- يقاطعني مجد ناهياً ما قلته: كفى، كفى ألا تريدون الأكل؟ يتناول منقوشة ويقضم قطعة كبيرة محاولاً تناسي ما قد حدث".
- جو: "ليس لدي شهية".
"ما هذا الخراء يا جو؟! أنا متأكد أنني لن أتألم إن رأيت وجهي والديّ القلقين علي، أقسم يا جو أنك تريد المساعدة، يجب أن لا تكون هنا، ربما مستشفى المجانين سيناسبك أكثر"
أتابع طعامي مراقباً وجهيهما، وجه جو كان يقول: "ما هذا الغبي، منذ متى هذا مجد لا يمكنه الاستيعاب". بينما وجه مجد يدل على نكرانه لحجج جو وندمه على خوض حديث كهذا خسر به أعصابه.
عادةً، أهلنا يتألمون علينا أكثر من ألمنا نحن المرضى الحقيقيين، في العيادة، في الصيدلية، في البيت، حتى ونحن نائمون يقلقون، إن كنا نشعر بالألم أو لا نشعر به، نشاهد الأحلام السعيدة أو الكوابيس!
بعد انتهائي من الأكل، أتذكّر نفسي عندما كُسرت ساقي إذ كان عليّ الاستلقاء وعدم الحركة، بسيطة. حينها، أهلي كانوا يدورون حولي طوال الوقت، لا أعرف لماذا، أمن أجل التأكد إذا كان ينقصني شيء، لكنني جاهز لعدم الحركة وبدأت استلقائي منذ حوالي ربع ساعة، لماذا تدورون حولي كالنحل؟
أنا متأكد أني لا أحتاج كل هذا الاهتمام والرعاية، فقط دعوني وحدي قليلاً، ارحموني من أسئلتكم المتكررة هل أنت بخير أو لا، فقط أمّنوا لي ما أحتاجه واتركوني وحدي. لا أدري لماذا تجتمعون حولي قلقين عليّ أكثر من قلقي على نفسي، أرجوكم ابتعدوا وهاتوا أصدقائي المقربين، لكنكم طبعاً مقتنعون أنه ليس وقت الأصدقاء إنما وقت العائلة للتضامن والتعافي السريع، وإن أتى بعض الأصدقاء فسيأتون لوقت قصير بحجة أنني تعِب وأريد الراحة، وهم مدركون تماماً أن هذا السبب ليس حقيقياً لكنها توصيات أهلهم الصارمة، فأهلهم يعرفون حق المعرفة ومقتنعون أيضاً أنه وقت العائلة لا الأصدقاء، يمكنك أن تكون مع أصدقائك كيفما شئت في المدرسة أو الشارع أو النادي لا يهم، لكن ليس بهذا الوضع.
لا أدري لِمَ، لكن بالرغم من عدم رعاية الأصدقاء المبالغ بها إلّا أنها لا تزعجنا، مع الأهل نشعر بالذنب، ربما لأنهم يتألمون أكثر من تألمنا على أنفسنا، ويهتمون بنا أكثر من اهتمامنا بأنفسنا، نشعر بالذنب لأنهم يتألمون، يشعروننا بالذنب لأننا أُصبنا، يُشعروننا بالذنب لأننا تألمنا، أهلنا يشعروننا بالذنب من حبهم المطلق لنا، من حبهم غير المحدود، أهلنا يشعروننا بالذنب لأننا أولادهم. نتألم نحن فيتألمون أكثر ثم نتألم لأنهم تألموا، لا أدري ما الحلّ، ربما تجاهل هذه المبالغة. نتألم فتتألمون ثم نتألم بالخفاء، نتجاهل تألمكم علينا كي لا نتألم نحن. رحلة مليئة بالألم. فلتتوقف.
لا أدري لِمَ، لكن بالرغم من عدم رعاية الأصدقاء المبالغ بها إلّا أنها لا تزعجنا، مع الأهل نشعر بالذنب، ربما لأنهم يتألمون أكثر من تألمنا على أنفسنا، ويهتمون بنا أكثر من اهتمامنا بأنفسنا، نشعر بالذنب لأنهم يتألمون، يشعروننا بالذنب لأننا أُصبنا، يُشعروننا بالذنب لأننا تألمنا
لكن من الجهة الأخرى، عدم تألمهم علينا واهتمامهم المبالغ به سيسببان لنا الحزن وللبعض العقد والمشاكل النفسية، عدم رعاية الأهل هذه ستسبب الإحباط والشعور بنقص ما، أنتم كأهل مطالبون بها، لكننا لسنا مطالبين باستقبالها، أنتم مطالبون بالمبالغة الصادقة. ربما لن تتوقف هذه الرحلة، بقدر أوجاعها، هي مهمة ووجودها ضروري.
لا أدري ما هذه العلاقة المبنية على الألم المتبادل والمناورة عليه، لكنها بالنهاية علاقة بيننا نحن الأبناء وأنتم الأهل. وبحسب شعوبنا: لن نشعر بحب آبائنا حتى نصبح آباء. شكراً لكم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...