لطالما كان الطعام يحمل الكثير عن تراث وعادات وتقاليد الحضارة التي يأتي منها. من المهم المحافظة على هذا النوع من التراث، ليس فقط لتأصيل تداوله بين ناس هذه الحضارة، بل أيضاً لتوثيقه وحفظه من الزوال.
أنيسة الحلو واحدة من روّاد الطبخ وكتّاب الطعام في الشرق الأوسط، ذات أصول لبنانية سورية، وقد أثّرت خلفيتها هذه على إنتاجاتها وكتاباتها عن هاتين الحضارتين الغنيتين وحفظ ذاكرتيهما في الطعام. من خلال سلسلة حوارات، سنتعرف أكثر على هذه الرائدة من عالم الطبخ، ونتعلم عن مبادئها وعملها وقصة نجاحها.
يرجى رسم خريطة أو رسم فني أو التقاط صورة لشيء يصفك ويصف رحلتك، ويرجى توضيح سبب اختيارك له؟
قد اختار الساطور وهو عبارة عن سكينة ضخمة. أنا أعيش في عالم الطعام كطاهية وكاتبة طعام، وقد اكتشفت هذه السكين قبل عشر سنوات في كاليفورنيا، عندما رأيت طاهياً تركياً يستخدمها. أحب جمع السكاكين، ولهذا وقعت في حب هذه السكين لأنها ضخمة ومخيفة. هي ترمز لما أفعله وعن شخصيتي التي أعتبرها مخيفة نوعاً ما.
أعلقها في مطبخي بإيطاليا، وتدهش الناس أحياناً وترعبهم. لا أستخدمها بشكل مستمر، لكنها تعكس طبيعة عملي وبعضاً من شخصيتي، فأنا لست بامرأة ضعيفة كما يصور الشرق الأوسط المرأة على أنها ضعيفة وتحتاج لغطاء أبوي ذكوري، ولهذا فهي فعلاً تعكس استقلاليتي كامرأة ترفض تقاليد الشرق الأوسط.
قلت في مقابلتك مع سكوت جاكوبسن: "كنت أحاول أن أجد طرقاً لكسر الحاجز مع والدي، لكن لم يكن لدي المال، لذا لم أستطع مواجهته"، كيف تعتقدين أنه يجب على الوالدين أن يدعموا أهداف أطفالهم وشخصياتهم؟
إذا كنا نتحدث عن الآباء في الشرق الأوسط أكثر من الآباء بشكل عام، فأعتقد أن الآباء في الشرق الأوسط يجب أن يكونوا أكثر دعماً، خاصة فيما يتعلق بالنساء. بشكل عام، يحب الآباء أن يفكروا في أطفالهم كمنتجات لهم وأن يعوضوا طموحاتهم بأطفالهم، في حين يجب عليهم تفهّم أطفالهم بشكل أفضل، وتفهّم ما يريدون القيام به وكيف يمكنهم دعمهم ورعايتهم على هذا الأساس.
أنيسة الحلو واحدة من رواد الطبخ وكتّاب الطعام في الشرق الأوسط. فلنتعرّف أكثر على هذه الرائدة من مجال الطبخ، ولنستلهم من قصة نجاحها
كان والدي صارماً لكنه كان شخصاً محباً ولطيفاً جداً. لقد كان نوعاً ما من الطراز القديم. أعني، لقد كان من مؤيدي الفكر المتمثل في عدم قدرة المرأة على العيش بمفردها. أحبنا والدي وأراد منا أن ندرس ونعمل. لذلك أراد أن نكون أفراداً متعلمين، لكنه أراد أن يحمينا أيضاً. وأعتقد أنه في تلك الأيام كان الأمر مفهوماً. لكني أعتقد أن الآباء يجب أن يكونوا أكثر تقدماً وفهماً.
وإذا رأوا أن أطفالهم يريدون شيئاً مختلفاً عما يتوقعونه أو يريدونه، فعليهم دعمه. بالطبع ما لم يكن شيئاً مثل تجارة المخدرات، فأنا لا أقول إنه يدعم كل شيء، ولكن أي شيء مفيد وإيجابي للأولاد.
بصفتك "نسوية معتدلة"، ذكرت أن الطهي كان "مكافئاً للخضوع والتملك"، هل يمكنك إخبارنا عن الوصفة التي غيرت هذا الاعتقاد؟
لا أعتقد أن ما غير رأيي هو وصفة. في البداية لم أرغب في الطهي على الإطلاق، وحتى عندما جئت إلى لندن لم أطبخ أبداً باستثناء طبق اللوبيا بزيت، الذي تعلمته عندما طبخته لأخوتي مرة وأنا صغيرة. بدأت بالتعلم بدون قصد، كوني أمضيت الكثير من الوقت بمشاهدة والدتي وجدتي في المطبخ.
لكن ما غير نظرتي لهذا الأمر هو شيء لا علاقة له بالنسوية. كنت أعيش مع رجل في ذلك الوقت، ولم يمانع عدم قيامي بأعمال الطبخ حينها. ثم دعا صديقة أمريكية وسألني عن العشاء، لكنني أخبرته أن يضع ببساطة ما يوجد في الثلاجة. لكنها عندما جاءت تطوعت لطهي العشاء بنفسها، وبينما كنت أشاهده يقدّر عشاءها وأراقبها في المطبخ، كنت أفكر ربما يجب أن أراجع رأيي في عدم الطهي.
لم أراجع الأمر من وجهة نظر أعمال المطبخ الإجبارية للمرأة، لكن ربما اعتقدت أنه يجب عليّ أن أطبخ للتباهي فقط. لذلك قررت أن أقوم بطهي حفل عشاء لبناني ضخم في لندن في السبعينيات، في ذروة الحرب الأهلية، وبالرغم من عدم المقدرة على التواصل مع والدتي. عندها لم أستطع شراء أي شيء أحتاجه في لندن بسهولة. ذهبت إلى جميع أنواع المتاجر للحصول على ما أحتاجه، وظننت أنني أستطيع طهي ما كنت أرى أمي وجدتي تفعلان في ذاكرتي.
وقد تمكنت من صنع حفل عشاء تراثي ولذيذ لثلاثين شخصاً تقريباً، كالكبة والحمص والتبولة وما إلى ذلك. الشيء المثير للاهتمام هو أنني تمكنت من إنتاج الطعام اللبناني وكان التقديم والطاولة رائعين. منذ ذلك اليوم، لم أطبخ لأتباهى بل لأستقبل الآراء وأتعلم. بدأت بالطبخ من حين لآخر، وقد استمتعت كثيراً. لطالما أحببت الطعام وعملية الطهي ومشاهدة أمي وجدتي، ولكن ربما لم أر نفسي أفعل ذلك في بيئة منزلية. ولكن بعد ذلك عندما أصبح نوعاً من الترفيه ثم بعد ذلك مهنة، كان الأمر مرضياً جداً.
أنيسة الحلو: "أحب جمع السكاكين، ولهذا وقعت في حب الساطور، هذه السكين الضخمة المخيفة. هي ترمز لما أفعله... وتعكس شخصيتي التي أعتبرها مخيفة نوعاً ما"
هناك خط رفيع بين أن يكون الشخص مغروراً وأن يكون نموذجاً يحتذى به، كيف تبقين متواضعة وقريبة من الجمهور؟
في الواقع لا أحب الأشخاص المغرورين. أعتقد أنه شكل من أشكال عدم الأمان في شخصية الإنسان، لذا فهي ليست خاصية أقدرها. قد أكون متعجرفة بعض الشيء، فأنا لا أقول إنني نموذج التواضع، وأنا أدرك ما حققته، لذا فأنا لا أحبط نفسي أو أي شيء. ولكن يوجد فرق بين التفكير في نفسك كمتفوق على الآخرين، ومعرفة ما أنت قادر عليه وكيف يمكنك مساعدة الآخرين، إما من خلال توجيههم أو إلهامهم، أو أن تكون نموذجاً يحتذى به.
نظريتي أو فلسفتي هي أنه لا يوجد أحد أفضل من أحد. نحن جميعاً بشر ولدينا أماكن مختلفة في مكان العمل في العالم، ولكننا جميعاً متساوون. أحاول أن أعامل الجميع بالطريقة نفسها وأحرص على معاملتهم بالطريقة التي أود أن أعامل بها. لا أعتقد أنني متواضعة بشكل خاص، لكنني أعتقد أنني واقعية ولدي حس التعاطف، لذا فالأمر مختلف. أهم شيء بالنسبة لي هو عدم وضع أي شخص في موقف صعب، أو جعله يشعر بعدم الارتياح معي، بغض النظر عن الاختلاف في الإنجاز أو المنصب أو الوضع المالي أو أي شيء آخر.
كونك مختلطة الهوية السورية واللبنانية، كيف تنظرين إلى الصور النمطية التي يرسمها شعبا البلدين عن بعضهما البعض؟ كيف تنعكس عادة في حديث أي منهم بشكل سلبي عن الآخر؟
أعتقد أن هذا السؤال مثير للاهتمام. في البداية لبنان وسوريا كانا بلداً واحداً نوعاً ما. كانت توجد دولة سوريا الكبرى وجبل لبنان وكان البلدان تحت الحكم العثماني حينها. أنا أحب سوريا والشعب السوري، وأعتبرها واحدة من أعظم دول العالم ومهد الحضارة مع أطلال مذهلة. وأنا حزينة جداً لما حدث هناك.
أنيسة الحلو: "لست بامرأة ضعيفة كما تُصوَّر النساء في الشرق الأوسط، لا أحتاج لغطاء أبوي أو زوجي. أنا امرأة مستقلّة ترفض تقاليد الشرق الأوسط"
وشخصياً أجد أن لبنان بلد مثير للاهتمام، ولدي علاقة حب وكره مع بلدي لبنان. أعتقد أن الاستخفاف بسوريا واستهزاء اللبنانيين بالسوريين أمر سخيف. لقد فعلوا ذلك أيضاً قبل أزمة اللاجئين وبسبب الاحتلال عندما احتلت سوريا لبنان، لكن يبدو أنهم نسوا أن سوريا احتلت لبنان بسبب الحرب الأهلية اللبنانية والرئيس السوري.
لا يوجد سبب لذلك. لماذا يكون اللبنانيون أفضل من السوريين ولماذا يكون السوريون أفضل من اللبنانيين. لكل دولة مشاكلها. لدى سوريا حكومة رهيبة، لكن ليس لدينا حكومة أفضل بكثير في لبنان. أنا شخصياً أرفض هذه الطريقة في التعامل بين الشعبين. لا ينبغي إجبار الناس على المعاناة بسبب ما تفعله حكوماتهم أو بسبب نزوحهم. إن هذا الأمر مؤسف ومأساوي للغاية في الواقع.
برأيك، ما الذي يمكننا فعله للبنانيين أو السوريين حتى لا يكون لديهم هذا السلوك السيئ تجاه بعضهم البعض. ماذا يمكننا أن نفعل لتقليل علاقة الكراهية هذه؟
ضع علامة عليها في كل مرة تراها، ولا تتجاهلها. حتى أبناء إخوتي يتحدثون أحياناً عن السوريين وأقول: "اسمع، أنت ربع سوري، لذا اصمت". فوالداه لبنانيان لكن والدته نصف سورية ونصف لبنانية. أن تكون صامتاً يعني أن تتغاضى إلى حد معين. موقفي هو ألا أصمت أبداً حتى عندما لا أعرف الناس.
أحياناً أرى شخصاً في بيروت يسيء معاملة طفل. أقفز فوراً وأقول: ما الذي تفعله لماذا تضرب الطفل؟ برأيي كلما رأيت سلوكاً مشيناً يجب أن تضيء عليه وتوضح أنه ليس صحيحاً. أنا لا أقول إنني أتدخل دائماً، وأحياناً يجد المرء نفسه يفضل التراجع لعدم خلق مشاكل، لكن كلما أمكنك فعل شيء حيال أي ظلم فعليك بذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...