في شارع ضيق يعج بالمارة ويزدحم بمحال صغيرة متراصة وبأصوات الباعة المختلطة بأحاديث الزبائن، يجلس جمع من الرجال في قهوة شعبية، يقول أحدهم: دعونا نتخيل أننا في بغداد، ويبدأ الجميع بغناء أغنية “خدري الشاي” وهي من عيون التراث الغنائي العراقي، ومن لحن الموسيقار العراقي اليهودي الشهير صالح الكويتي. إنها بغداد التي حملها يهود العراق معهم إلى حيث اضطرتهم الظروف أن يذهبوا، هناك في تل أبيب حيث استقروا منذ أكثر من ستة عقود، ليأسسوا حياً أسموه “بغداد الصغيرة”، وهو بمثابة مزار لذكريات ليالي بغداد التي تأبى أن تموت.
أعاد موضوع التراث اليهودي العراقي، الذي تزمع الحكومة الأميركية إعادته إلى العراق، تسليط الضوء على تاريخ هذه الطائفة المهمة من اليهود الشرقيين والتي لعبت دوراً بارزاً في الحياة العراقية حتى أربعينات القرن العشرين. بعد الغزو الأمريكي للعراق، اكتشف الأميركيون أرشيفاً يعود ليهود العراق طافياً على بركة من المياه في قبو للمخابرات العراقية. سجلات مدرسية، نسخ قديمة من كتب للصلاة، صور شخصية لعراقيين يهود، ونسخة قديمة من التوراة تعود للقرن السابع عشر، هي بعض من محتويات هذا الكنز التاريخي. نقلت الوثائق في مايو 2003 إلى الولايات المتحدة وتمت معالجتها بأحدث الطرق الفنية لتدارك الضرر الذي أصابها.
وبعد إصلاح ما أمكن إصلاحه ودفن ما تلف في مراسم يهودية خاصة، قام الأمريكيون بتبويب الأرشيف، وحفظه بصورة رقمية، ثم قاموا بعرضه في العاصمة واشنطن تمهيداً لإرجاعه إلى العراق حسب الاتفاق المبرم مع حكومته. وهنا بدأت الجالية اليهودية في الولايات المتحدة ودول أخرى في العالم حملة ترمي إلى منع تسليم هذه الوثائق إلى العراق بحجة أن النظام السابق أخذها عنوة من معبد يهودي في بغداد عام 1984 وأن ملكيتها تعود بالفعل إلى الطائفة اليهودية، وليس إلى بلد لم يعد فيه من سكانه اليهود سوى ستة أشخاص يخفون ديانتهم. في المقابل، يصر العراقيون على أن هذا التراث جزء من تاريخ البلد ولا بد أن يعاد إليه.
يهود العراق- عراقيو إسرائيل
لم يكن اليهود يوماً أقلية منعزلة في غيتو خاص بهم في العراق، بل كانوا أقلية فاعلة ومتفاعلة. في أول حكومة عراقية بعد الغزو البريطاني (حكومة نقيب الأشراف عبد الرحمن النقيب 1918- 1919) كان اليهودي العراقي ذائع الصيت ساسون حسقيل وزيراً للمالية. استمر في هذا المنصب لأربع حكومات متعاقبة، وكان له الفضل الأول في وضع النظام الاقتصادي والمالي للدولة العراقية الناشئة. كما قدم اليهود في عالم المال والأعمال أفضل ما لديهم من خبرات، واحتلوا نسبة كبيرة من مقاعد غرفة تجارة بغداد وأغلبية أعمال الصيرفة والتحويلات المالية. أما في عالم الفنون، فقد نبغ من اليهود الأخوان صالح وداود الكويتي في التأليف الموسيقي والغناء وملأت مطربة العراق الأولى سليمة مراد (الفنانة الوحيدة التي حملت لقب باشا) أسماع العراقيين غناء وطرباً. وفي عالم التجارة، كان رجال الأعمال اليهود من أشهر أصحاب الأعمال وأكثرهم ديناميكية وحركة.
بعد تصاعد الصراع العربي- الاسرائيلي في فلسطين أوائل القرن العشرين، بدأ يهود العراق يشعرون بتبعات هذا الصراع الثقيلة تلقي بظلالها على حياتهم، فمن مظاهرات مناهضة لليهودية والصهيونية، إلى تغلغل للدعاية النازية في أواخر الثلاثينات وصولاً إلى أعمال القتل والنهب الواسعة التي استباحت منازل اليهود في بغداد عام 1941 بعد سقوط حكومة رشيد عالي المؤيدة لألمانيا النازية، وهو ما عرف بالفرهود أي السلب، حيث استبيحت محلات ومنازل اليهود ليومين متتالين وقتل منهم حوالي 175 بين رجل وطفل وامرأة، ودمر 900 منزل. ثم جاءت الضربة القاضية عام 1950 بصدور قانون إسقاط الجنسية الذي دفع ما يقرب من 130 ألف يهودي عراقي هم معظم الطائفة اليهودية إلى مغادرة البلد.
ربما تختصر قصة الأخوين صالح وداود الكويتي مأساة اليهود العراقيين. فبعد موهبة موسيقية متفردة دفعت أم كلثوم للتغني بأول وآخر أغنية عراقية في حياتها، أغنية سليمة مراد (قلبك صخر جلمود)، حين زارت بغداد عام 1932، وأثمرت علاقة صداقة وزمالة موسيقية مع محمد عبد الوهاب. اضطر الأخوان عام 1951 لمغادرة العراق، وتمت مصادرة كل نوتاتهم الموسيقية في مطار بغداد، فذهبا إلى بلد لا يعرفهما وعملا كعازفين في الإذاعة الاسرائيلية بأجر زهيد. يصف شلومو الكويتي، ابن صالح الكويتي، كيف ذهب الموسيقي حسقيل قوجمان ليلتقي بعمه ووالده في شخونات هتكفا – الحي العراقي في تل أبيب: “في عمق السوق رأى قوجمان الأخوين يجلسان في متجر للأدوات المنزلية حيث كانا يعملان، وفجأة وقف هناك يبكي. لم يذهب حتى ليتحدث إليهما. عبر قوجمان لي عن تلك اللحظة: “في العراق، لمقابلة والدك وعمك، كان عليك أن تحصل على دعم وزير حكومي ليرتب اللقاء، هذا إذا حالفك الحظ”.
حين ذكرت موضوع هذا المقال أمام والدتي، ابتسمت وعادت بالزمن إلى الوراء وقالت: “أذكر يوماً اصطحبني فيه والداي لرؤية منزل عائلة يهودية معروض للبيع في بغداد. كنت طفلة صغيرة ولكنني أذكر أن صاحبة المنزل قالت لوالديّ بعد أن أنهت الجولة في أرجاء منزلها بصوت فيه الكثير من الرجاء والأمل: هل يمكن أن أعيد لكم المال وأسترجع المنزل إذا عدنا لاحقاً؟ بعد أن غادرنا المنزل قالت أمي لأبي: لن أشتري هذا المنزل بأي ثمن كان، هذه المرأة مغصوبة على البيع وحرام أن اشتري منها”. تضيف قصة أخرى وتتذكر يوماً كانت عائدة فيه برفقة عمها، ورأت أبناء العوائل اليهودية يفترشون الأرض ويعرضون ممتلكاتهم للبيع، أعجبها فانوس ملون، “ورآني عمي حين توقفت أمام هذا الفانوس فاشتراه لي، وحين عدنا للمنزل دخلت راكضة لأريه لأمي، وحين عرفت من أين اشتراه عمي ألقت به خارج البيت غاضبة وهي تقول: لن أدخل أغراضاً مغصوبة إلى بيتي. يومها لم أفهم وبكيت على الفانوس الملون. الآن وبعد أن خسرت ما أملكه في بغداد أقول إنني لا أفهم فقط ولكنني أشعر بنفس الحرقة أيضاً”.
لا تزال الهوية المزدوجة أمراً حاضراً في حياة اليهود العراقيين في إسرائيل إلى اليوم، رغم أن الزمن قد غادر بغداد، والبصرة والموصل حيث كان يعيش أغلبهم. ولا يزال الجدل حول تسميتهم “باليهود العرب” دائراً، منذ أن كتب المبعوثون الصهاينة للعراق الذين زاروا بغداد في أوائل الأربعينات أن اليهودي العراقي “يعيش كالعربي، وتراثه عربي، ويستعمل أمثلة عربية في كلامه”. بل إن القاص الإسرائيلي- العراقي المعروف سمير نقاش (1938-2004) استمر يكتب بالعربية حتى وفاته رغم أن هذا قلص من مساحة قرائه كثيراً في إسرائيل، ولكونه يحمل الجنسية الاسرائيلية فقد التواصل مع القارئ العربي أيضاً. كان سمير يفتخر بأن جده، والذي اكتسب لقب النقاش بسبب عمله، هو من قام بتذهيب قباب مرقد الإمامين الكاظم والجواد في بغداد. وكان يقول: “العربية هي لغتي ولا أعرف من اللغات سواها”. يؤيده في هذا د.شموئيل موريه الذي قال في لقاء تلفزيوني وبنبرة مثقلة بالشجن: “أنا عندما أكتب بالعربية أكتب بدم القلب، العبرية هي صديقة أو زوجة وليست أماً، ولا يبلغ حب الزوجة حب الأم، أكتب بها ولكنها لا تستطيع أن تلعب بنياط قلبي”.
ماذا عن الشباب؟
ربما لا تكون صورة بغداد في أذهان أبناء الأجيال اللاحقة من اليهود العراقيين في إسرائيل حية وملونة وناطقة كما هي في عقول وقلوب أبناء الجيل الأول، بل هي في الواقع ذاكرة مركبة من قصص الأهل وأحاديث المساء التي كان الآباء والأجداد ينفسون بها عن حنينهم لسالف الأيام البغدادية. مع ذلك نرى محاولات من بعض الشباب العراقيين هناك لإعادة تلك الظلال الباهتة إلى الحياة. دودو تاسا Dudu Tassa حفيد الموسيقار داود الكويتي، فنان إسرائيلي شاب من الجيل الثالث من اليهود العراقيين، بدأ يعيد تراث جديه الأخوين الكويتي بلباس عصري يلائم ذوق الشباب الحالي في الموسيقى.
وقد تعكس لهجته العبرية المختلطة بالعربية شيئاً من وطأة السنين على ما تبقى من العراق في عقول الأجيال الشابة من يهود العراق في إسرائيل، وهو أمر متوقع بالنسبة لمن وجد وطناً بعد أن ُطُرد، وبطاقة هوية بعد أن أسقطت عنه الجنسية. لكن الجذور الشرقية لا يبدو أنها ستتلاشى تماماً، على الاقل في الوقت الحاضر. فالذاكرة الجماعية لليهود الشرقيين (المزراحيم) لا زالت حية كما ظهرت في أحاديث الجيل الأول منهم في الفيلم الوثائقي “إنسَ بغداد Forget Baghdad”، حيث يتذكرون وطأة الهجرة وسوء الاستقبال في إسرائيل. يقول أحد الشخصيات الأربع التي ظهرت في الفيلم إنه لا يزال يذكر كيف استقبلوهم في مطار بن غوريون برش مبيد الدي دي تي، ويعلق “أحسسنا أنفسنا وكأننا حشرات”. في الوقت ذاته، فإن ذكريات التهجير والطرد ومرارة السنوات الأخيرة من حياة اليهود في العراق لا تزال تترك مرارتها في القلوب.
اجتماعياً، لا تزال بعض العادات العراقية حية في ممارسات الشباب العراقيين اليهود. فلا تزال ليلة الحنة مثلاً ما قبل ليلة الزفاف عادة محببة يحرص يهود العراق عليها، كما يتم إحياء الأعراس بالآلات الشرقية والموسيقى العراقية. وقد ورث العديد من العراقيين اليهود مهن آبائهم التي كانوا يمارسونها في بغداد، فنرى في منطقة هاتكفا في تل أبيب، والمعروفة بكثرة قاطنيها من العراقيين، أصحاب محلات لبيع التوابل تشبه محلات الشورجة في وسط بغداد، ومخابز تخبز الخبز والمعجنات بالطريقة العراقية وغيرها مما أعاد الجيل الأول بناءه ليصبح تذكاراً لحياة مضت.
مع كل هذا فإن النظرة الواقعية تقول إنه لا يمكن لهوية تعد ميراثاً قديماً أن تحل محل المواطنة الحالية، أضف إلى هذا مرارة ذكريات الخروج القسري، وتقادم الزمن الذي أحال العراق إلى ظل باهت في أذهان الجيل الثالث من يهوده. لكن اليهود الشرقيين الذين يعيشون في إسرائيل التي تعرف بهيمنة اليهود الغربيين (الإشكناز) على مشاهدها السياسية والاقتصادية والثقافية، قد يرون أن إعادة اكتشاف جذورهم وهضمها ثقافياً وفنياً داخل المجتمع الاسرائيلي هي إعادة اعتبار لمن يُنظر إليهم على أنهم يهود أتوا من بلاد أقل تحضراً وثقافة، وهي رصيد حضاري متميز يوازن التعالي الإشكنازي ويخلق لهم حضوراً حاول الإشكناز تقليصه بافتراض التضاد بين الهوية الوطنية وأي انتماء للعدو، حتى لو كان ثقافياً أو موسيقياً. يكتسب هذا الأمر عمقاً أكبر لدى اليهود العراقيين الذين يفخرون بأنهم أتوا من أرض الرافدين التي اكتملت فيها “التوراة البابلية” وكانت حاضنة لتراث يهودي غني.
من الصعب علينا أن نتخيل عودة اليهود العراقيين اليوم إلى العراق، ليس بسبب الوضع الأمني فقط، ولكن بسبب غياب تلك الروح الاجتماعية التي كانت تتقبل الآخر والتي حلت محلها روح التخندق المذهبي، لا الديني فقط. لكن نظرة عميقة هادئة لتراثنا وتاريخنا يمكن أن تشكل أرضية لتفاعل أكثر إنسانية بين من كانوا سابقاً أبناء وطن واحد. إن انتزاع أي شعب من جذوره خطيئة يجب ألا تتكرر، وهي نفس الخطيئة التي اكتوى الفلسطينيون بنارها. إن إعادة الأرشيف اليهودي إلى العراق يمكن له، إذا توفرت النية الصادقة والأفق والواسع، أن يكون بداية لاكتشاف الأخطاء التي ارتكبناها بحقهم، وإرساء مفهوم قبول الآخر عند أجيال جديدة تقزمت عندهم الهوية إلى حدود المذهب والقبيلة. يمكن للتاريخ أن يكون أداة لبناء مستقبل يتجاوز عثرات الماضي إن نحن أحسنّا قراءته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...