أنهيت قبل فترة رواية "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" للكاتبة إليف شافاق، وهي المدة الزمنية التي ظل فيها عقل ليلى التكيلا، بطلة الرواية، متيقّظاً بعد موت جسدها، مستدعياً موجات من الذكريات التي شكلت حياتها المأسوية، منذ أن انتزعها والدها المتزمت من حضن والدتها وهي رضيعة لتربيها زوجته الأولى التي لا تنجب، إلى اعتداء عمها المتكرر عليها وحتى حملها منه وتبرئة أبيها لأخيه، لتجد نفسها وحيدة تماماً لا ملاذ لها سوى إسطنبول التي مثلت لها حلمها الوحيد وهي طفلة، أن تحيا حياة مختلفة عن والدتها ونساء قريتها، تهرب ليلى إلى إسطنبول لتخذلها المدينة القاسية وترميها في شوارعها الخلفية كعاملة جنس إلى جوار نساء يشبهنها أنكرتهن اسطنبول وجردتهن من حقوقهن.
هناك ليلى وصديقاتها في كل مكان، بين النساء الواقفات على نواصي الشوارع المظلمة بانتظار مبلغ زهيد لقاء ليلة مع عابر، في شوارع الملاهي الليلية، في مخيمات النزوح، في المدارس التي تحولت إلى مأوى للمهجرين اليوم، حيث يزوج الناس بناتهن المراهقات لرجال في الخمسين والستين للخلاص من لقمتهن وضمان "السترة " وفقاً للمفاهيم السائدة عن الشرف، والتي لا تخرج عن كونها صكوك قبول مجتمعي واتفاقاً غير معلن بين الجميع لتكريس اضطهاد النساء والفئات غير المرغوبة التي يعتبرها المجتمع جالبة للعار.
في كل يوم عدد هائل من زيجات القاصرات، نسمع قصصهن مصادفة، لا يصنف المجتمع هذه الزيجات شذوذاً ولا يعتبر من يتزوج طفلة في الثالثة عشرة مثلاً، كأحدث قصة سمعتها، كائناً غير سوي، لا عقاب بانتظاره، ولا إثم مجتمعياً، بل العقاب هو ما يطبع مصير هذه الطفلة إما في زواج يقارب الموت أو في الموت المبكر جراء نزيف أو ولادة لا يحتملها جسدها الغض أو في الهرب من وحشية أهلها لتنتهي ضحية لإحدى شبكات الدعارة والاتجار بالبشر.
تختلف حكايات النساء المقهورات اللواتي يتعرضن كل يوم للاضطهاد والأذى الجسدي والنفسي، ولكنها جميعاً تدور حول نساء وحيدات باحثات عن الأمان وضحايا أسر ومجتمعات قاسية
تختلف حكايات النساء المقهورات اللواتي يتعرضن كل يوم للاضطهاد والأذى الجسدي والنفسي، ولكنها جميعاً تدور حول نساء وحيدات باحثات عن الأمان وضحايا أسر ومجتمعات قاسية، فمنهن من هربت من زوج معنِف ترك ندوباً دائمة في جسدها، ومنهن من طردها زوجها من المنزل لصالح زوجة جديدة صغيرة في السن. كما لم تحصل الكثير منهن على التعليم، ومن كنّ أوفر حظاً وتعلمن مهنة ما، يعانين استغلالاً مادياً وتحرشاً من أصحاب العمل. إحدى العاملات في مركز تجميل بأجر زهيد جداً لقاء إزالة الشعر بالسكّر، المهنة الوحيدة التي تعرفها، أخبرتني مرة عن اضطرارها لترك عملها السابق في مركز تجميل تابع لأحد الفنادق الفخمة هرباً من تحرش مديرها ومضايقاته المستمرة لها، وعن تحرشه بكل عاملة في المركز وإجبارها على تقديم خدمات جنسية، وإلا فهي معرضة لجميع أنواع الإهانات لدفعها إلى الاستقالة، وبالتالي عدم حصولها على أي تعويض مالي. كذلك تتكرر دائماً قصص العاملات المنزليات اللواتي يتعرضن مراراً لتحرش أصحاب المنازل ويجدن أنفسهن مذنبات عند أي محاولة لفضح المتحرش لأنهن الحلقة الأضعف التي لا يريد أحد تصديقها.
هنالك نساء يعتبرن أنفسهن في عالم آمن نسبياً تعد فيه النجاة الفردية شيئاً ممكناً، ولكن إن خرجنا قليلاً من دائرتنا الضيقة، فنحن محاطات بمئات القصص، لنساء يتعرضن للاغتصاب، للتحرش، للاستغلال الجنسي، والانتهاك، ليست غالبيتهن قادرات على البدء بحياة جديدة، هنّ نساء منسيات، يُدفعن إلى الهامش، ويتم تجاهلهن وإقصاؤهن، لا يعترف أحد بحقوقهن والجميع يريد التبرؤ منهن.
ما ترويه شافاق هو حكاية المضطهدات والمنبوذات في كل مكان، اللواتي يريد الجميع التملص منهن، وينتهي بهن المطاف إلى ما يسمى "مقبرة الغرباء" في اسطنبول، حيث يتم اختزالهن بلوحات خشبية وأرقام، بلا أسماء ولا حتى القليل من الأزهار.
عالمنا الغريب الذي تروي قصصه إليف شافاق هو عالم لا يرحم النساء، يحولهن من ضحايا إلى مذنبات، تدان فيه الطفلة المغتصبة ويبرّأ الرجل المتحرش، تجد فيه النساء الضحايا أنفسهن وحيدات، لا تريدهن أسرهن ويعتبرهن المجتمع عاراً عليه، لا يعاملن معاملة إنسانية ولا يمتلكن أية حقوق
يدفن في هذه المقبرة الموتى غير المرغوب بهم وبهن: المومسات، المهاجرون الذين لم يجدوا ملاذاً سوى البحر الذي غدر بهم بعد بلادهم، المنتحرون الذين لم يتحملوا قسوة الحياة، مجهولو الهوية، من عاشوا غرباء وماتوا غرباء، تشبه مقبرة الغرباء هذه كل البلاد العربية، حيث يحكم على المختلفين بالموت وهم أحياء من دون الحاجة إلى مقبرة.
عالمنا الغريب الذي تروي قصصه إليف شافاق هو عالم لا يرحم النساء، يحولهن من ضحايا إلى مذنبات، تدان فيه الطفلة المغتصبة ويبرّأ الرجل المتحرش، تجد فيه النساء الضحايا أنفسهن وحيدات، لا تريدهن أسرهن ويعتبرهن المجتمع عاراً عليه، لا يعاملن معاملة إنسانية ولا يمتلكن أية حقوق، هو عالم لا تحيا فيه معظم النساء، لكن للأسف، لا يكن فيه حرّات إلا يوم يمتن كما حصل لليلى بطلة الرواية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع