كيف يمكن أن تفهم كمسيحي يعاني الاحتلال والقتل والتشريد والاستيطان وتقييد الحركة والأسر في فلسطين قراءة "وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لأعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (إنجيل متى 5: 44)؟ ما معنى أن تكون مسيحياً ومؤمناً في إطار كهذا؟ أحاول في هذه العجالة الربط بين التنظير اللاهوتي للعرب والفلسطينيين المسيحيين، والتصريحات الإعلامية لبعض الوجوه المسيحية الفلسطينية في فلسطين.
يشير وليم سيدهم اليسوعي في ندوة لاهوت التحرير في القاهرة عام 2003 إلى أن الله هو المحبة عندما يقبل المؤمن المسيحي ما يجرب له على أيدي الإسرائيلي اليهودي الذي بدوره يستعمل نصوص العهد القديم لدعم الظلم أيضاً، ويزيد أن ما صعّب من المسألة هو أن الكنيسة كانت عاجزة عن تقديم إجابات للمتسائلين من المسيحيين الفلسطينيين.
للخروج من هذه المسألة، يحاول اللاهوت التحريري الفلسطيني حل هذه المسألة عن طريق الدعوة لقراءة النصوص التوراتية في سياقها التاريخي، والتي تعكس مفهوماً بشرياً لفترة تاريخية معينة، وبهذا المفهوم استطاع المسيحي الفلسطيني أن يعرف كيف كان ينظر الله وكيف تغير هذا المفهوم بمجيء المسيح. وذلك عبر التساؤل هل كان الله موافقاً عليه أم لا من خلال سؤال أنفسنا هل هذا الفعل يوافق طبيعة الله التي عرفناها في المسيح (اليسوعي، وليم سيدهم. لاهوت التحرير: رؤية عربية اسلامية مسيحية - ندوة لاهوت التحرير (القاهرة: 2003). تحرير وليم سيدهم اليسوعي. القاهرة. دار مصر المحروسة. 2005. ص.154.). هذه الدعوة تلتقي مع ما دعا له سبينوزا: "يجب أن يربط هذا الفحص التاريخي كتب الأنبياء بجميع الملابسات الخاصة التي حفظتها لنا الذاكرة، أعني سيرة مؤلف كل كتاب وأخلاقه والغاية التي كان يرمي إليها ومن هو وفي أي مناسبة كتب كتابه وفي أي وقت ولمن وبأية لغة كتبه" (سبينوزا، باروخ. رسالة في اللاهوت والسياسة. ترجمة حسن حنفي. بيروت. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. 2005. ص 245.)، أي وجوب دراسة الكتب الدينية على أساس أنها تراث بشري.
في هذا السياق يشير متري الراهب إلى أن الحركة اللاهوتية الفلسطينية بدأت كمسؤولية مسيحية فلسطينية، وكانت قد تشكلت رداً على لاهوت غربي يحاكي إسرائيل سياسياً ولاهوتياً، وإلى أن هذا اللاهوت خلق لجلب الانتباه عالمياً وليرتبط بالهوية العربية الفلسطينية الوطنية (الراهب، متري. المسيحيون العرب وقضايا الأمة - متغيرات السياق والأدوار. بيت لحم. ديار للنشر. 2013. ص.29 – 43.) ، وإلى أن على الإيمان والسياسة ألا يفصلا، خصوصاً في الشرق الأوسط، لا سيّما أن الناس تخلط بينهما ( Mitri Raheb, I am a Palestinian Christian. Minneapolis: Fortress Press, 1995. P. 43).
كيف يمكن أن تفهم كمسيحي يعاني الاحتلال والقتل والتشريد والاستيطان وتقييد الحركة والأسر في فلسطين قراءة "وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لأعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"؟
وهنا يدلل الراهب على أن السياسة هي جانب من الإيمان في فلسطين، لذا فمن المهم لفت النظر إلى عمل الراهب والعديد من الرموز الفلسطينية المسيحية على وثيقة كايروس فلسطين، وهي تختص باللاهوت الفلسطيني الذي يعلن الإيمان والأمل والمحبة، المبادئ الثلاثة للاعتقاد المسيحي، باستنادها بقوة في جذور الكتاب المقدس. اختصت الوثيقة بوضع أسس اللاهوت المسيحي الفلسطيني فكانت وثيقة "وقفة حق" – كايروس "لتؤكد أن الكلمة الأبدية من الله الثالوث، الآب والابن والروح القدس هي دائماً موجودة خصوصاً في سياق فلسطين، في هذا الوضع الخاص من الظلم والمعاناة؛ الله هو الأمر الحسن والعادل وكلمة الله تؤكد الحياة والاحترام والمساواة لجميع الشعوب التي أنشئت في الصورة الإلهية من الله". لذا فوثيقة كايروس دعت لمشاركة الأنشطة في صنع العدالة والسلام بدءاً من أرض فلسطين.
وكانت الوثيقة دليلاً هاماً بل الأهم في السياق المسيحي الفلسطيني، إذ لفتت إلى أن السياسة جزء من إيمان المسيحي في فلسطين، وتبنت أن الاحتلال العسكري هو خطيئة ضد الله والإنسان، وأن اللاهوت الذي يبرر احتلالاً كهذا هو لاهوت تحريفي وبعيد عن التعاليم المسيحية التي بالأساس تمثل الحق والمحبة والتضامن مع المظلوم وإحقاق العدل والمساواة بين الشعوب. وقد اثبتت الوثيقة ارتباط اللاهوت المسيحي بالواقع الفلسطيني المعيوش، فهي ليست وثيقة وليدة الصدفة، بل دراسة لاهوتية فكرية وورقة سياسية، كما أنها وثيقة إيمان وعمل تعبر عن هموم شعب فلسطين، وهدفها إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وكل أنواع التمييز العنصري، كما أنها نداء لإسرائيل لتعي الظلم الذي تفرضه، وتنادي العالم كله ليأخذ موقف مع الحق ضد الظلم، ودعوة للنظر إلى أي لاهوت يبرر الجرائم المرتكبة ضد الفلسطيني وقتله وطرده من وطنه وسرقة أرضه.
وهذا ما يعطي رجل الدين المسيحي والفلسطيني بشكل خاص أهمية كونه يدعو إلى الله العدل والداعي للوقوف مع المقهورين والمظلومين، ولعل أبرز هؤلاء الأب عطا الله حنا، وهو المطران ثيودوسيوس، رئيس أساقفة سبسطية من الأرثوذكسيين اليونانيين، وهو ثاني فلسطيني يشغل منصب رئيس أساقفة في تاريخ الأبرشية لكنيسة القيامة (كنيسة القبر المقدس). يقول: "لا أفصل بين خدمة الكنيسة وخدمة الشعب، فالدين لا ينظم العلاقات بين الإنسان والخالق فحسب، بل كذلك بينه وبين أخيه، والصوم والصلاة لا يكفيان وخدمة اللاجئين الفلسطينيين عن عدالة قضيتهم هي جزء من رسالتي، فالدين عبادات ومعاملات". عُرف الأب عطا الله حنا بين عموم الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين بمواقفه الداعية إلى الجمع بين دور الأب الديني والأب للمجتمع الفلسطيني كله، فقد دعا أيضاً إلى محاسبة أي رجل دين متورط بصفقات بيع عقارات وأراض أرثوذكسية لإسرائيل بقوله إن هؤلاء يلبسون الثوب الديني وسلوكهم وفكرهم وأعمالهم وتصرفاتهم لا علاقة لها بالدين "لا من قريب ولا من بعيد"، واشتراكه بتشكيل لجنة إسلامية -مسيحية أرثوذكسية للوقوف على الكشف عن المتورطين، وهذا ما يشير إلى كون المقدسات تشگّل أهمية وطنية فلسطينية.
توحدت دعوات الرموز الدينية المسيحية المذكورة هُنا، على اختلاف طوائفهم ومناطق خدمتهم، إلى لاهوت ينصف المظلومين، إلى لاهوت فلسطيني يجمع المسيحيين والمسلمين في وطن فلسطيني لا يرى تمييزاً عنصرياً، كلهم دعوا إلى مواجهة اللاهوت الداعم لإسرائيل
لا يفرّق القسيس نعيم عتيق بين المحنة التي أصابت الفلسطينيين، فهو مراراً أشار إلى أن النكبة أصابت الشعب الفلسطيني بأكمله من مسيحيين ومسلمين، وهم أيضاً من تعرضوا لحكم عسكري بين عامي 1948 و1966، خصوصاً أن إسرائيل لم تميز بين أهل البلاد، واعتبرت المسيحيين والمسلمين غرباء وغير مرغوب بهم. ويقول: "المشكلة الرئيسية لإسرائيل لم تتعلق بالانتماء الديني بل تتعلق بالهوية الفلسطينية. وكلّي أمل أن يتمكن شعبنا بوعيه وبمقدرته على المقاومة، أن يتصدى لأهداف إسرائيل الماكرة. وهذا يتحقق فقط بوحدتنا وتكاتفنا معاً من أجل العمل على تحقيق سلام عادل في ظل نظام ديمقراطي شموليّ يضمن حقوق وكرامة كل أبناء هذا البلد". وهذا ما يعني أن التحرير الذي يراه عتيق وإحقاق العدالة لا يقتصران على المسيحيين فحسب، بل كذلك على وحدتهم مع المسلمين في فلسطين، ووعيهم مجتمعين لهذا المشروع الاستعماري.
اختلفت آراء الرموز المسيحية المذكورة أعلاه في أشكال المقاومة، تميل أغلبها إلى المقاومة السلمية والرمزية والتي تعزز وجود الفلسطيني المسيحي والمسلم في الأرض، أما الأب مانويل مسلم فقد كان الأكثر استخداماً لألفاظ القوة، ففي أزمة منع أذان المسجد الأقصى، قال: "إذا أسكتوا مآذنكم فاعتمدوا أجراسنا تدعوكم للصلاة". ويزيد: "إسرائيل تلعب بدمها فإن لم تردعوها سيردعها العرب والمسلمون وتبدأ لعبة الدم القذرة والحرب الدينية التي لن ترحم العالم كله، فكونوا أيها المسيحيون في العالم حكماء كالحيات، وهذه هي نصيحة المسيح لكم لكي ترحموا العالم كله من حرب كونية دينية". ومع أن الأب مسلم لم يوقع على كايروس فلسطين، فإن أفكاره متشابهة إلى حد ما. والمهم في أقوال الأب مسلم أمران: يرى أن على أساليب المقاومة ألا تتخذ فقط الأسلوب السلمي، وأن الحرب والصراع على الدين، وأن السياسة هي وجه دين إسرائيل الدولة التي تظلم وتبطش وتمنع وتحد من حرية الأديان كلها على السواء.
خدم كل فرد من الرموز الدينية المسيحية السابقة في العديد من الكنائس المنتشرة في أنحاء فلسطين، في القدس والضفة الغربية والداخل الفلسطيني وقطاع غزة، توحدت دعواتهم على اختلاف طوائفهم ومناطق خدمتهم إلى لاهوت ينصف المظلومين، إلى لاهوت فلسطيني يجمع المسيحيين والمسلمين في وطن فلسطيني لا يرى تمييزاً عنصرياً، كلهم دعوا إلى مواجهة اللاهوت الداعم لإسرائيل، وإلى الوقوف بوجه هذا اللاهوت والداعين إليه، واهتموا بأن ما يخص الإنسان الفلسطيني في الأرض "فلسطين" هو العدالة والحق لأن الله مع المظلومين. وكلهم دعوا إلى الأمل في ظل غياب الأمل، لأنهم بالعدل وانتصار الخير يغلبون الشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون