"يكبلون بالسلاسل ستة أو سبعة منا معاً. أحياناً يجبروننا على الجري بسرعة (مكبّلين) ويضربوننا بالسوط إن سقطنا على الأرض… يقولون إن هذا يفيدنا".
هذا ما قاله أحد الطلاب -الأطفال- في مدرسة إسلامية بالسودان في تحقيق استقصائي أجرته "بي بي سي عربية" بالتعاون مع شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج).
التحقيق الذي استمر 18 شهراً رصد الإساءات الممنهجة والتعذيب والعنف البدني والجنسي الذي مورس بحق أطفال لم يتجاوز بعضهم الخامسة من العمر، كالجلد بالسياط والتكبيل كالحيوانات والإجبار على النوم عراة فوق أسطح حديدية شديدة السخونة والحبس في غرف مظلمة مع الحرمان من الطعام والشراب، والاعتداء الجنسي.
في السودان نحو 30 من هذه المدارس الدينية التي تعرف بـ"الخلوات" والتي يفترض أنها تُعلّم الأطفال القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وتمتاز بأنها تقدم تعليماً مجانياً وكذلك الطعام والشراب والمأوى. وغالباً ما ترسل الأسر الفقيرة أطفالها إلى الخلوات بدلاً من المدارس العامة.
"يكبِّلون بالسلاسل ستة أو سبعة منا معاً، أحياناً يجبروننا على الجري بسرعة (مكبلين) ويضربوننا إن سقطنا على الأرض"... ما الذي يحدث في مدارس "الخلوة" الإسلامية في السودان؟
ضرب قد يفضي إلى موت
مراسل "بي بي سي عربية" في السودان، فتح الرحمن الحمداني، دخل سراً وصور الانتهاكات في 23 خلوة في جميع أنحاء البلاد. ووجد أدلة على وقوع "اعتداءات جنسية" على بعض الطلاب. ورصد قيام المعلمين في هذه المدارس الدينية بتكبيل الأطفال وضربهم بوحشية.
إلى ذلك، وثّق التحقيق معاناة العديد من أطفال "الخلوات" سوء التغذية وظروف المعيشة المزرية إذ أُجبر بعضهم على النوم على الأرض في الحر الشديد، في حين تُرك المرضى منهم بلا علاج.
حصلت المحطة أيضاً على أدلة على تعرض بالغين في إحدى مدارس وسط السودان للاعتداء البدني، بعد تقييدهم في أسرّتهم، زعماً بأن ذلك لعلاجهم من الإدمان وأمراض عقلية. قال أحدهم: "يقيدونك بالسلاسل ويضربونك بعصا كالحمار... نحن عبيدهم".
تعرض محمد نادر (14 عاماً) -الذي يظهر جسده منتهكاً في الفيديو- لضرب مبرح في خلوته القريبة من العاصمة السودانية الخرطوم. بالإضافة إلى سجنه وتعذيبه وحرمانه من الطعام والماء خمسة أيام. لم تُعالَج جراحه، بعد الجلد، بل دُهنت بالقار (القطران) حتى أوشك أن يموت متأثراً بجراحه. كان زميله إسماعيل (14 عاماً أيضاً) رفيقه في مراحل التعذيب كافة.
قبل جلده وتعذيبه، كُمم فم محمد حتى لا يتمكن من الصراخ أو التوسل لتركه. وهو يخشى حتى الآن العودة إلى المدرسة.
"اعتداءات جنسية، وجلد بالسياط، وتقييد كالحيوانات، وإجبار على النوم عراة على أسطح حديدية شديدة السخونة، وحبس في غرف مظلمة مع الحرمان من الطعام والشراب لأيام"... تحقيق استقصائي يرصد إساءات ممنهجة ضد أطفال لم يبلغ بعضهم الخامسة في 23 مدرسة إسلامية بالسودان
تتبع التحقيق رحلة تعافي محمد وكفاح أسرته لنيل العدالة في مواجهة "شيوخ" المدرسة الذين يتمتعون بسطوة كبيرة ونفوذ هائل، وهو السبب وراء ندرة شكاوى الأهالي ضدهم برغم تكرار حوادث الاعتداء على الأطفال.
قال والده: "ما حقدر أنسى الموضوع دا، وأنا عاوز العالم كله يشوف ما يكون مخفي". أما والدته، فاطمة، فتساءلت: "هل يجب أن نضحي بأطفالنا لحماية رجال الدين؟".
أُجلت محاكمة الرجال المتهمين بالاعتداء على محمد عدة مرات، فيما عائلته عازمة على استكمال القضية. أوضحت والدته: "إذا بقينا صامتين فقد يتعرض الآلاف للتعذيب مثل محمد".
وقت الحادثة، وُجِّهت تهم بالاعتداء وعرقلة سير العدالة إلى الشيخ المسؤول عن المدرسة وثلاثة معلمين آخرين، لكنهم أطلقوا لاحقاً بكفالة.
"الضرب والتقييد مليئان بالمنافع"
علمت "بي بي سي عربية" بوجود ادعاءات بوقوع اعتداءات جنسية في الخلوات. الطالب محمد نادر نفسه شهد تعرض صبيّة للاغتصاب داخل المدرسة من قبل طلاب أكبر سناً. وأشار إلى أن الطلاب الأصغر والأضعف كانوا عرضة للإيذاء من الطلاب الأكبر سناً.
الشيخ حسين، الذي أدار خلوة محمد نادر وإسماعيل، قال إنه من الخطأ حبس الأطفال، لكنه ذكر أن الضرب والتقييد بالسلاسل "مليئان بالمنافع". وأضاف: "معظم الخلوات تستخدم السلاسل، وليس أنا فقط. أنا كُبلت في خلوة، وابني كبّلته". وقال معلم آخر: "لا يحفظون (الطلاب) دروسهم إن لم أضربهم".
محمد نادر (14 عاماً) تعرض للضرب المبرح في خلوته. عوضاً عن تطبيبه، سُجن وعُذب وحرم من الطعام والماء خمسة أيام. تكافح أسرته لنيل العدالة في مواجهة "شيوخ" المدرسة الذين يتمتعون بسطوة كبيرة ونفوذ هائل
لدى سؤاله عن المزاعم المتعلقة بالانتهاكات الجنسية، أنكر الشيخ حسين ذلك تماماً واتهم معد التقرير بـ"مهاجمة القرآن". توفي الشيخ حسين في حادث سيارة في وقت سابق من العام الجاري، ويدير شقيقه الخلوة حالياً. وقد أبلغ "بي بي سي عربية" أنه لن يسمح بضرب الأطفال في المدرسة في ظل إدارته، منكراً تماماً وقوع حوادث اغتصاب في المدرسة.
في الأثناء، قال وزير الشؤون الدينية والأوقاف السوداني نصر الدين مفرح للمحطة إن الحكومة "تُقيّم" أوضاع الخلوات في عموم البلاد، معتبراً أنه من المستحيل "حل مشكلة سببها 30 عاماً (عمر نظام الرئيس السابق، المخلوع عمر البشير) بين عشية وضحاها".
وأشار إلى أنه كُلّف إجراء إصلاحات عدة، من بينها وقف جميع أشكال "الضرب والتعذيب وانتهاك أي حق من حقوق الإنسان أو حقوق الطفل"، مبرزاً أن كل خلوة تخالف هذه النظم الجديدة ستُغلق.
لكن، برغم الإبلاغ عن الانتهاكات في العديد من الخلوات، لم تُغلق أيٌّ منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...