النص مستوحى من الفيلم القصير "فساتين" للكاتبة تغريد دوّاس ومن إخراج براءة إسماعيل
ما بين الوعي واللاوعي بماهيّة جديدٍ ما، تقبعُ ساعة رملية تعمل حيناً وتتعطل حيناً.
ليس للوعي خواص الوحي. الوعي لا يهبط.
للوعي مزاج الثلج، يهطل بطيئاً، خفيفاً، يتراكم حتى تطلع عليه شمس جديدة تُحيلهُ ماءً سلساً يتسرب داخل مسام لا تُرى.
لا يأتي الوعي على غفلة. يطلب حلوله استعداداً ودعوة.
-"ما عاد تلعب كاميليا معنا، هي كبرت ونحنا بعدنا صغار".
- "لا كاميليا ما كبرت".
- "ونحنا بكرة رح نكبر، ونبطّل نلعب".
- "أنا ما رح إكبر".
كان يوماً تذكره كاميليا جيداً، يوم تنكّر لها جسدها، وثار عليها، وبدء بإعادة تشكيل نفسه على غير استعداد منها وبدون موافقتها.
كان هذا الجسد مطواعاً، صغيراً. صغيرٌ نعم، لكنه يتسع لأحلامها. هزيلٌ، لكنه يطير بها بخفّة. مسطح خال من التضاريس، لكنه يحمل على امتداد رقعته أشجاراً تتفرع جذورها من أصابع قدميها المفتوحة مساماتها على التراب والماء.
"جسدك أعلن أنك امرأة الآن يا كاميليا، لم يعد بإمكانه أن يركض بك إلى باحات اللعب، أو يطير معك على مراجيح الحي الصدئة. لم يعد له أن يتمرغ بالتراب والطين وتطير عنه الفساتين محلّقة كلما هبّت ريح مشاغبة"
كاميليا وجسدها كلاهما في الرابعة عشرة. البارحة كان جسدها يشبهها ويكبر معها فكرةً فكرة، لماذا تغيّر مناخه، وتبدّلت درجة حرارته، وفاضت ينابيعه، وخرج نموّ أشجاره عن سيطرتها؟
منذ اليوم على كاميليا أن تعيد التعرّف بهذا الجسد وفقاً لدستور الكبار، فهذه الأرض الطيّبة التي لا تعرف حدوداً، ولا تحظُر تجوالاً، ولا تُبنى عليها المقدسات، باتت "شرف" فلان و"عرض" فلان.
"جسدك أعلن أنك امرأة الآن يا كاميليا، لم يعد بإمكانه أن يركض بك إلى باحات اللعب، أو يطير معك على مراجيح الحي الصدئة. لم يعد له أن يتمرغ بالتراب والطين وتطير عنه الفساتين محلّقة كلما هبّت ريح مشاغبة".
"الفساتين تظهر الكثير منه، الركض خلف الكرة يترك فيه ندوباً غير مستحبة، أشعة الشمس تحيله أدكن، ركوب الدراجة يعرضه للعطب، مشاركته تلغي صلاحيته".
"كاميليا صارت صبيّة."
يبدو أن الجميع لديه وعي مسبق بجسد كاميليا. كيف هذا؟
لماذا أصبح محط حديث الجميع، يفكرون فيه، يقلقون عليه، يعظون بالحفاظ عليه، وفي الوقت نفسه يحاصرونه بالمحرّمّات؟
إن كانوا يعلمون كل هذا عنه وعنها، فلماذا تلك القدسية في الحديث عنه والتعامل معه؟
"كاميليا صارت صبية، هذا عنوان جيد للمسرحية"، تقول كاميليا.
تتفرج على هذه المسرحية من خلف جدران الجسد نفسه، وتضحك.
كيف لأحد أن يستشعر طفولة أحد أو صباه أو شبابه أو شيخوخته بالنيابة عنه؟
"كاميليا صارت صبية، هذا عنوان جيد للمسرحية"، تقول كاميليا.
جسد أمي آخذ بالانكماش، هل عادت أمي طفلة؟
هل تتزوج النساء وتنجب لأنهن أصبحن صبايا؟
ماذا عن هالة؟ لقد صارت صبية، وتجاوزت الخمسين، وما زالت الريح تطيّر فستانها كلما مرت في الحي، ألهذا لم تتزوج ولم تصبح أمّاَ؟
كيف تلعب الصبايا؟
مي تضع طلاء الأظافر على الشرفة وتبتسم لـ علي، العامل في محل الحلويات.
نور تذهب يومياً إلى السوق لتستكمل لوازم عرسها.
ليلى وريم وأمينة يذهبن صباحاً إلى العمل ويعدن بعد الظهر متعبات محملات بأكياس الخضر، ما عدا أمينة تتأبط كيس البلاستيك، تضع فيه حذاءها ذا الكعب العالي تنتعله صباحاً للعمل وتعود مساءً وفي قدميها حذاء رياضة أبيض خفيف وجميل.
لم أر أيّاً منهن تركض خلف الكرة مع أبناء الحي كما نفعل، أو ترتشف بقايا القهوة من فنجان أمها لتخطّ شنباً خفيفاً وسط وجهها يحولها لصبي بعض الوقت.
"تبدو الصبايا سعيدات، لماذا تؤرقني كل تلك الأسئلة؟"
هل سألن مثلي أنفسهن الأسئلة نفسها؟ هل نظرن مثلي للكبار بعين الخوف؟ هل تجنّبن النظر في المرآة ومواجهة الجسد الجديد؟ هل تجنّبن استكشافه؟
تطاردني الأسئلة وعليّ أن أهرب منها ومن هذا الجسد الغريب.
أهرب من الجسد الغريب بالنظر إلى الأعلى، وكلما أطلتُ التحديق إلى أعلى كثُرت الأسئلة.
أجلس بثقل على أرجوحة الحي، الأسئلة تحوم فوق رأسي كذباب الصيف، وجسدي يشدني إلى الأسفل.
"المراجيح تحب الصبايا" تقول لي هالة.
لماذا أصبح محط حديث الجميع، يفكرون فيه، يقلقون عليه، يعظون بالحفاظ عليه، وفي الوقت نفسه يحاصرونه بالمحرّمّات؟ إن كانوا يعلمون كل هذا عنه وعنها، فلماذا تلك القدسية في الحديث عنه والتعامل معه؟
جلست على الأرجوحة المجاورة وراحت تطير. ارتفعت هالة وفستانها وجسدها وصوت ضحكتها.
"كيف لا تشبه هالة أحد؟ لا الفتيات الصغيرات ولا الصبايا ولا باقي نساء الحي؟ كيف تبدو طفلة وصبية ومسنّة؟ كيف تطير بها المراجيح؟"
"لا تخافي الأسئلة ولا تهربي منها، سلّمي نفسك لها، اركضي خلفها، واتبعيها إلى حيث تختبئ الإجابات، وإن لم تجديها، اصنعيها بنفسك." قالت هالة وكأنها سمعت سؤالي.
هل سمعت هالة سؤالي؟
هل تهيّأ لي هذا؟
هل كانت هالة هنا قبل قليل؟
هل أعرف أحداً بهذا الاسم؟ أم كان لها اسم آخر؟
"لي الكثير من الأسماء." أجابت ودفعت أرجوحتي بخفّة وابتعدَت تراقبني أطير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين