شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الاحتلال الإسرائيلي... العلاقة المباشرة وغير المباشرة بين العسكرة والعلاقات الجنسية

الاحتلال الإسرائيلي... العلاقة المباشرة وغير المباشرة بين العسكرة والعلاقات الجنسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 13 أكتوبر 202003:29 م

حتى يومنا هذا، يسود التعاطي مع الجنسانية كما لو كانت أمراً فطرياً، عفوياً، عاماً، عالمياً وعابراً للزمن وللجغرافيا، تماماً كما تعاطينا مع الإحساس بالجوع. وفقاً لهذا التصور، فإن سلوكنا الجنسي البشري يتأثر بالغرائز وبدوافع نفسية لا واعية، مثلما جاء في نظرية علم النفس التحليلي.

على النقيض من ذلك، تقوّض مدرسة "البناء الاجتماعي" الافتراض بأن الظواهر الاجتماعية تلقائية وغرائزية. حيث يدّعي هذا النهج بأن العملية الاجتماعية قد خلقت تصوراً لهذه الظواهر على أنها طبيعية. هكذا على سبيل المثال تم تفسير الأديان، تصوراتنا عن دور الذكر والأنثى في المجتمع، وكذلك أيضاً الجنسانية. 

تناول ميشيل فوكو موضوع الجنسانية بكتابه "الجنسانية"، باعتبارها بناءً اجتماعياً متأثراً بالعديد من العوامل، فضلاً عن الرأسمالية التي نعايشها في زماننا. وهو يشترط أن سلوكنا الجنسي قابل للتبدل وفقاً لتغير الزمان والمكان، فجنسانيتنا تتشكّل، يتم التحكم بها وتتعرض للتطورات بناء على الظروف السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.

في الواقع، في عصر ما بعد الحداثة، يُنظر إلى الجنس على أنه أيديولوجيا سياسية تعكس عصرها، بناء أدائي للجسم داخل الثقافة، يكون فيه الجسد الجنسي جسماً رمزياً "نتحدثه" و"نكتبه" داخل الثقافة التي تحكمها علاقات قوة. هكذا تم نزع ملكية الجسد الشهواني من علم الأحياء ليصبح جسماً تفسيرياً، من خلاله يفسّر الشخص نفسه للآخر في سياق تاريخي ثقافي معين، لتصبح الجنسانية أداة معرفية. عليه، أصبحنا نفرط في الحديث عن الجنس في إطار أكاديمي، ندرسه في المعاهد ونعالجه في العيادات التخصصية بدل ممارسته فحسب.

بافتراض أن الجنس هو منتج يتم إنتاجه داخل الثقافة، فإن مسألة تعريفه تصبح جزءاً لا يتجزأ من السياسة الحيوية للثقافة، حيث ينظر إلى الجسد كشيء تتحكم فيه أنظمة السلطة وسيادتها، تراقبه وتحاول "الوصول إليه" لتحديد حياته أو موته. من خلال التحكم في الجنس، تحدد قواعد السلوك، تتاح "الكتابة السوية" ويتم التمييز بين خطاب الجسد المعياري وخطاب الجسد المنحرف. عملياً يصبح الجنس أداة للسيطرة والإشراف، يتم من خلاله التحكم بالآخر المختلف.

 الرجل الإسرائيلي النموذجي يغازل المرأة ويقيم معها علاقة كما لو كان داخل ساحة قتال، هكذا عملياً يبقى حبيس الخطاب واللغة العسكرية التي نشأ عليها. نظرة سريعة لاستخداماته اللغوية: "قمت باحتلالها" إشارة إلى الأنثى، "غزوتها"، "صادرتها"

الصهيونية كمشروع لتنظيم النشاط الجنسي

في السياق الإسرائيلي، لم تكن الصهيونية مشروعاً سياسياً وأيديولوجياً حصرياً، بل كانت أيضاً مشروعاً لتنظيم النشاط الجنسي الذي تعامل بهوس مع خلق جنسانية ذكورية يهودية مغايرة جنسياً. تضمنت المهمة الصهيونية لتحرير الشعب اليهودي وجعله أمة مثل بقية شعوب العالم، تضمنت فانتازيا تشمل خلاصاً جنسياً لجسد الرجل اليهودي، الذي اقترن جسده في الخطاب الأوروبي المعادي لليهود، بالمرض والجنون والانحطاط والانحرافات الجنسية و"الأنوثة" والمثلية الجنسية. 

على هذه الفكرة نشأ مجتمع كامل من الذكور الذين حملوا إرثاً مشبعاً بالعار والدونية، وقدموا لبقعة مُنحت لهم كتعويض مادي عما تكبدوه من ملاحقات شرسة ومميتة في أوطانهم، ليقوموا هم بدورهم، وبتماهٍ كامل مع المستبد الأبيض، باستعادة تلك الممارسات لإثبات ذواتهم المنهزمة.

إن المجتمع الإسرائيلي مجتمع استعماري وعسكري يستمد كيانه الاضطراري وقوته من خلال قضية يحاربها منذ أن "خُلق". الاحتلال حاضر، متغلغل وراسخ في كل تفاصيل الحياة، أحياناً بشكل صارخ وأحياناً بهيئة متخفية. 

 السفر عبر شبكة القطارات الإسرائيلية يعكس لنا صورة عن هذا المجتمع الذي يتواجد فيه الجنود المسلحون في كل مكان، فكما أن البندقية ماثلة حسياً في المشهد اليومي، كذلك هي حاضرة في اللغة والخطاب الإسرائيلي. وهي تفصح عن شعور دائم بالتهديد وبعدم الأمان، كإسقاط لحقيقة تاريخية عايشها اليهودي في أوروبا الفاشية، وكأسطورة يتم تداولها عبر الخطاب المرتهن لأصحاب النفوذ، من خلال مختلف مؤسسات الدولة، وبالذات المؤسسة العسكرية التي تسعى عبر ثنائية الضحية والبطولة إلى إبراز مكانتها ووجوب بقائها، تارة من خلال الحفاظ على الإحساس الدائم بالتهديد، وتارة أخرى من خلال إضفاء صفة البطولة على مقاتليها. 

يقوم الجهاز العسكري الإسرائيلي، والذي هو ذكوري بامتياز، بالتحري عن جنوده وأجسادهم، ومن ثم يعيد بناء هذا الجسد فيما يتوافق مع احتياجاته. هو ينتج جنوداً مقاتلين، بشراً ميكانيكيين، مسيئين للآخر بشكل مروع وقادرين على التحكم بمشاعرهم، وكذلك يتبنون العنف ويمارسونه في مؤسسة تحتكر العنف. تلك هي الذكورة التي تتوق إلى الأداة العسكرية، بل ويُنظر إليها بعين الشوق والاثارة. 

الذكر الإسرائيلي ينشأ في بيئة تمجد جيشها، وتتوقع منه أن يأخذ منحى أجداده في الانتساب إلى المؤسسة العسكرية. إن الالتحاق بوحدة قتالية هو مراد ومدعاة للفخر، ليس فقط عند المراهق الإسرائيلي بل عند محيطه بالكامل. إنهم "ملح الأرض" كما هو رائج في الحديث عن أولئك الأفراد الذين اتبعوا مساراً يتوافق مع السرديات القومية الإسرائيلية، كالانتساب إلى وحدات مرموقة في الجيش. هذا المراهق الذكوري يريد أن يصبح مقاتلاً شرساً، أن يحمل سلاحاً ويحمي نفسه وشعبه. يخرج من ساحة المعركة المضرجة بانتفاخ الأنا، المحمي مؤسساتياً، الذي لا يحاسب قانونياً على أفعاله والذي يقابل بتمجيد مجتمعي وإعلامي لا رقابة فيه ولا مساءلة. هذا الذكر الذي يساق مبكراً نحو رجولة لا تقر بمشاعر الخوف بل وتسخر منها، مهيأ الآن للقاء أنثاه، الآخر الضعيف والمقهور.

لم تكن الصهيونية مشروعاً سياسياً وأيديولوجياً حصرياً، بل كانت أيضاً مشروعاً لتنظيم النشاط الجنسي الذي تعامل بهوس مع خلق جنسانية ذكورية يهودية مغايرة جنسياً

كلا الجنسين محكومان بمنظومة أبوية 

الأدوار الجندرية تشير إلى ممارسات، اهتمامات، قدرات، قيم وأدوار تنسب لشخص وفق جنسه البيولوجي، من خلال الافتراض أن الأفراد الذين لديهم نفس الجنس البيولوجي يتشاركون نفس القيم التي تتلاءم مع مجتمعهم.

يتعلم الرجال والنساء من خلال التنشئة الاجتماعية أي تلك الممارسات يتوافق مع جنسهم بواسطة نظام من المكافأة والعقاب. بهذه الطريقة يتم الحفاظ على الأفكار النمطية تلك، فهنالك ألوان محددة للذكر وأخرى للأنثى، من المتوقع أن يحمي الذكر الأنثى وليس عكس ذلك، على الذكر أن يكون المعيل الأساس لعائلته، من المتوقع أن يتماهى الذكر مع مشاعر الغضب بينما الأنثى مع الحزن والبكاء، يتباهى الذكر بعلاقاته الجنسية بينما يفترض أن تكون الانثى أكثر حرصاً واحتشاماً فيما يتعلق بجسدها ورغبتها الجنسية، وما إلى ذلك من فروقات تتسع فجوتها كلما كان المجتمع أكثر تقليدية ومحافظة. 

في مقابل ذلك، فإن الأفراد الذين يحاولون التمرد على هذه القوالب النمطية تتم معاقبتهم من خلال النبذ، التنمر، الاعتداء الجسدي وأحياناً قد يكون مصير هؤلاء القتل، كما في قضايا شرف العائلة، حيث يتوقع من الأنثى الاحتشام والتصرف بطريقة تلائم المجتمع، بينما يتوقع من الذكر معاقبة الأنثى "مِلْك العائلة" حينما تتمادى وتتصرف على النقيض من التوقعات. كلا الجنسين محكومان بمنظومة أبوية قررت ما هو لائق وغير لائق لنا جميعاً. 

حرب داخل نظام من القهر

إن معايير النظام الأبوي السائدة التي تميز "الذكوري" تدفع المرأة إلى دور "الآخر": الهامشي، المحروم، التافه والنكرة، بينما تنسب صفات التفوق إلى القيم الذكورية: فبالإضافة الى القوة الجسدية "الطبيعية" هنالك القوة الرمزية التي تم إنشاؤها من خلال تعريف الذكورة بالبطولة، البأس، الأسبقية والأصالة.

إنها حرب داخل نظام من القهر، بموجبها يكون الرجل مقياساً أولياً للواقع، والمرأة ليست سوى حصيلة أو فرع ثانوي لـ "قانون الذكور". هكذا يبني الخطاب المهيمن انقساماً واضحاً وفقاً لما تحمله الصفات التي تحدد ما هو المذكر: عملي وحازم ونشط وأكثر قيمة اجتماعياً، مقابل ذلك يُنظر إلى كل ما هو أنثوي على عكس ذلك. هذه الصور النمطية تنتج وتديم السلوك الجنسي المغاير الذي يعبر عن هيمنة الذكور وعن المبنى الهرمي غير المتساوي.

في سياق الممارسات الجنسية، تتملك الرغبة هيمنة ذكورية من خلال سطوة الذكر وإخضاع الأنثى. هكذا تمسي الجنسانية مسمار أساس في تنظيم علاقات السلطة بين الجنسين، ملعباً سياسياً ومساحة يتم من خلالها إعادة إنتاج الهرمية. الشاغل الوحيد للرجل هو الاهتمام بالأداء وتطويع الأنثى عبر السيطرة عليها، أما المرأة التي يتم اقتحامها، فلا تكون قادرة على فرض نفسها إلا كمستجيبة أو مراوغة. في الواقع، إنها حياة الذكور الجنسية، تحاول فيها النساء التكيف مع متطلبات الرجال.

إن ظواهر مثل الشوفينية والتمييز على أساس الجنس التي تؤكد على إذلال المرأة، لا تنفصل عن الرغبة في احتقار العرق الآخر والسيطرة عليه: كلاهما وجهان لعملة واحدة

من الميدان الحربي إلى العلاقات الجنسية

إن لغة الاحتلال بطابعها العنيف والتي تلغي الآخر، وفي أفضل حالاتها تعامله بفوقية يتم استنساخها كما هي، من الميدان الحربي إلى ميدان العلاقات الجنسية، إذ يحل محل المقهور المختلف عرقياً، مقهور مختلف جنسياً أمام الذكر/ الجندي، الذي استغل وطُوّع بدوره من قبل نظام عسكري استعماري يحكم قبضته على الجميع.

 إنها ترمنولوجيا العسكرة، مكررة في الحياة اليومية الإسرائيلية، فالرجل الإسرائيلي النموذجي يغازل المرأة ويقيم معها علاقة كما لو كان داخل ساحة قتال، هكذا عملياً يبقى حبيس الخطاب واللغة العسكرية التي نشأ عليها. نظرة سريعة لاستخداماته اللغوية تبين لنا ذلك: "قمت باحتلالها" إشارة إلى الأنثى، "غزوتها"، "صادرتها"، "قمت بمسح جسدها"، "استوليت عليها"...  لغة الاستعمار والاحتلال تلك تفاخر بانحيازها لنوع عرقي وجنسي بشكل علني ورسمي. هكذا يقوم النظام العسكري بتكرار التقسيم الجنساني وببقائه، ويكون المعيار المزدوج مثالاً على نهج تفاضلي اجتماعي تجاه الحياة الجنسية لكلا الجنسين.

الذكر الإسرائيلي، الجندي الباسل، المقاتل الشرس، المخضع، صاحب البزة العسكرية، حامل الـ F16، سائق الدبابة المتفوقة عسكرياً، المقتحم لمناطق الخضوع الفلسطينية الشكلية، صاحب السيادة والذي يوفر الحماية لشعبه، يقحم سلاحه، عدته، صاروخه، في فرج الأنثى التابعة والمستضعفة والأقل شأناً، يغتصبها إذا لزم الأمر، ويعنّفها من منطلق أنه يحق له كسيد أن يفعل ما يشاء دون رادع. 

عند المحاسبة على الفعل الجنسي الخارق قانونياً وبعكس المسائلات العرقية، تستنفر المؤسسات جميعها، ومن ضمنها الإعلامية، لتبحث في سبب العنف الجنسي المتفشي بين أفراد مجتمعها، لكنها لن تخوض إطلاقاً في العلاقة المباشرة أو غير المباشرة للعسكرة في صقل نفوس رجالها المضطربين.

هكذا تتطابق علاقات القوى ويتقاطع الاستغلال "الأبوي" مع تجربة السيطرة العرقية. بعبارة أخرى، إن ظواهر مثل الشوفينية والتمييز على أساس الجنس التي تؤكد على إذلال المرأة، لا تنفصل عن الرغبة في احتقار العرق الآخر والسيطرة عليه: كلاهما وجهان لعملة واحدة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard