"لمدة 15 عاماً، تولّيت تغطية الأزمات والصراعات في جميع أنحاء العالم. خلال هذه المدة، كنت مذهولة في كثير من الأحيان من المرونة الخاصة للنساء. لديهن قدرة غير عادية على توحيد المجتمعات في أكثر الأوقات دماراً. أرى هذه القوة حتى الآن".
هذا ما أشارت إليه الصحافية الأمريكية كلاريسا وارد، أبرز المراسلين الدوليين في شبكة "سي أن أن"، في تقرير خاص لشركة "شوندا لاند"، عما تعلمته من "القدرة الاستثنائية للنساء على توحيد المجتمعات معاً في أكثر الأوقات دماراً".
في تقريرها، روت وارد قصصاً من واقع معايشتها نساء عربيات في أوقات القصف والأزمات المتعلقة بالحروب ونقص الموارد الطبيعية وشح الماء والغذاء وغيرها.
أولى القصص كانت من سوريا، تحديداً من أكبر مدنها، حلب (شمال غربي البلاد). ذات مساء، في آب/ أغسطس عام 2012، اشتد القصف، وكانت هي في غرفة النساء حيث راقبت إحداهن وهي تتأرجح ذهاباً وإياباً في وضع الجنين ممسكةً بوسادة. قبل أن تسأل، أخبرتها امرأة أخرى، تدعى ندى: "تفعل ذلك عندما يبدأ القصف".
"مع النساء، لا توتر"
كان هذا بعدما شنت قوات المتمردين هجوماً مفاجئاً، واستولت على الجزء الشرقي من المدينة. أما عن القصف الشديد فهو الرد العنيف من قوات الرئيس السوري بشار الأسد.
كانت الصحافية الأمريكية وفريقها يسكنان مع عائلة في إحدى ضواحي المدينة بينما تثير نيران المدفعية الرعب في صفوف الجميع.
"يواصلن المضي قدماً، حتى عندما تنهار عوالمهن"... صحافية أمريكية مخضرمة تروي قصصاً عن "المرونة الخاصة" و"القوة الاستثنائية" لنساء عربيات عايشت معهن أصعب أوقات الحروب والمِحَن
لم تكن هناك طريقة لتخمين المكان الذي يُقصف بالضبط، ولا توجد طريقة لتوقع أفضل مكان للاختباء. في تلك الظروف سألت وارد النساء: "هل اعتدتن ذلك من قبل؟".
ردت عليها ندى: "لا، لا يمكنك اعتياد ذلك. في بعض الأيام، لا أستطيع مغادرة المنزل. حتى عندما لا تكونين خائفةً من الموت، لأنه يدمر أعصابك". سقطت قذيفة أخرى في مكان قريب وقفزنا جميعاً. وبدأت فتاة في سن المراهقة تتلو آيات من القرآن.
كان رجال المنزل يجتمعون في غرفة أمامية. كانت وارد قد جلست معهم بعض الوقت. لكنها لم تشعر بالارتياح لأن الجو كان "متوتراً" ومشحوناً في غمرة دخان السجائر. برغم أن الجميع كانوا على علم تام بالقصف لم يتحدثوا عن الأمر. وكأنما كانوا يعتقدون أن الاعتراف بالخوف سيجعله حقيقياً. عوضاً عن ذلك، تشاجروا وألقوا النكات.
لكن "الطاقة في غرفة النساء كانت مختلفة تماماً"، قالت وارد وأكملت: "كان الخوف ملموساً. لم يحاول أحد قمعه أو تجنبه، لذلك كان التوتر أقل بكثير. لم أكن أرغب في إخبار زملائي كم كنت خائفة، ولكن هنا مع هؤلاء النساء شعرت بمزيد من الانفتاح. يمكننا أن نكون خائفات معاً. وهنا تكمن قوة تلك التجربة المشتركة".
وتابعت: "لمدة 15 عاماً، تولّيت تغطية الأزمات والصراعات في جميع أنحاء العالم. خلال تلك المدة، كنت مندهشةً في كثير من الأحيان من مرونة النساء. لديهن قدرة غير عادية على توحيد المجتمعات في أكثر الأوقات دماراً. أرى هذه القوة حتى الآن، في لحظتنا الحالية المؤلمة".
"القوة في الدين والعطاء"
تعتقد وارد أن هذه القوة الاستثنائية للنساء متعددة المصادر، إذ قالت: "تجدها بعض النساء في الدين. وأخريات في الأخوة أو الأمومة. ويجدها بعض ثالث في العطاء وفي بناء المجتمع. وغيرهن يكافحن للعثور عليها". وأضافت: "مع ذلك، وبطريقة ما، فإن النساء اللواتي لاحظتهن في الأزمات حول العالم يواصلن المضي قدماً حتى عندما تنهار عوالمهن".
عندما كانت حاملاً في الأشهر الأخيرة بطفلها الأول، سافرت وارد إلى اليمن لتغطية الحرب الأهلية التي كانت تعصف بالبلاد، وظروف المجاعة الوشيكة التي ترتبت على الصراع. قضت بعض الوقت في منزل صغير في إحدى قرى محافظة لحج (جنوب شرقي العاصمة صنعاء)، حيث رأت أحمد حلمي (خمس سنوات)، ملقى على ملاءة رقيقة على أرضية خرسانية.
أبلغتها والدته سمية: "إنه أحسن مكان في المنزل. نحن نفعل كل ما في وسعنا لجعله مرتاحاً". كان جسد الطفل نحيفاً للغاية، عظامه هشة يغطيها جلد رقيق، وعيناه جاحظتان.
بحسب والدته، كان أحمد يعاني سوء تغذية حاد على مدى أربع سنوات. قتل هذا المرض طفلها الثاني قبل شهرين فقط.
كانت وارد مذهولة من قدرة سمية على التعايش والتفكير في احتمال فقدان طفل ثان.
قالت سمية وكأنما قرأت الحيرة في عيني الصحافية الأمريكية: "الحياة صعبة ولكن عندما تسلكين طريق الله فإنه يرعاك". وضعت وارد يدها على رأس الطفل قبل أن تدخل في نوبة بكاء شديد.
"استولى عليّ بكاء شديد. وضعت سمية يدها على ذراعي. شعرت بالخجل الشديد لأنها كانت تعمل على تهدئتي عندما كان ابنها يحتضر. وجدت مراراً وتكراراً أن النساء قادرات أحياناً على تقديم أكبر قدر من القوة والرحمة، على وجه التحديد عندما يعانين بشدة"، قالت.
"استولى عليّ بكاء شديد. وضعت سمية يدها على ذراعي. شعرت بالخجل الشديد لأنها كانت تعمل على تهدئتي عندما كان ابنها يحتضر. وجدت مراراً وتكراراً أن النساء قادرات أحياناً على تقديم أكبر قدر من القوة والرحمة، على وجه التحديد عندما يعانين بشدة"
الدرس
اعتبرت وارد أن جائحة فيروس كورونا كانت "نوعاً مختلفاً تماماً عن الحروب" التي قامت بتغطيتها. لكنها رأت فيها أيضاً كيف تتحمل النساء الكثير من العبء.
في سياق منفصل، أوضحت الدراسات والتقارير الحديثة أن النساء تقوم بمعظم الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، بينما تستمر الكثيرات منهن في ممارسة وظائفهن بدوام كامل أثناء الجائحة.
علاوةً على ذلك، عندما يمرض أحد ذويهن، فإنهن غالباً هنّ اللواتي يتولين الرعاية الصحية. وتتعهد ملايين النساء تدريس أطفالهن في المنزل مع تفشي الإصابات وتصاعد الوفيات واستمرار إغلاق المدارس.
تعلمت وارد من تجاربها وخبراتها في تغطية الأزمات أن "المرونة" في التعامل في مثل هذه المواقف ليست تعني "القوة" على الدوام، بل قد تتجسد بوضوح في الخوف وإظهار القلق أو اللجوء إلى الدين أو دعم الآخرين.
وتابعت: "في بعض الأحيان، تتعلق المرونة بترك نفسك تنهار، ثم تعاودين جمع نفسك عندما يحتاجك الآخرون. وتستمرين في الاعتناء بالآخرين عندما لا تكون لديك الطاقة لرعاية نفسك. هذا ليس دائماً جيداً لكنه كريم".
وتذكرت وارد عندما كانت في حلب ذات ليلة تخللها قصف عنيف: "نهضت النساء وصنعن القهوة والفطور. شاهدت إحداهن تمشط شعور فتيات صغيرات، وتجدله ضفائر. كان وجهها يظهر عليه قلة النوم والتوتر. لكنّ يوماً آخر بدأ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...