شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
جسّدت المرأة المصرية العادية... الطريق المميّز لعبلة كامل

جسّدت المرأة المصرية العادية... الطريق المميّز لعبلة كامل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 17 سبتمبر 202003:26 م

"أنا بحب التمثيل جداً، وشايفة أن الفن دا مهم جداً للأمم، وفي ضرورة ليه؟ مساءلة الموهبة مقدرش أتكلم فيها، مش أنا اللي أقول إذا كان في موهبة عندي ولا لأ".

قالت عبلة كامل هذه الكلمات في إحدى المقابلات التليفزيونية النادرة لها في بداياتها، مصحوبة بضحكات خجولة وارتباك واضح، ينم عن ممثلة شغوفة لم تعتد بعد على الظهور الإعلامي والحوارات الفنية، وكأنها امرأة عادية توترت بعد توجيه عدسة الكاميرا والميكروفون نحوها دون سابق إنذار.

اليوم 17 سبتمبر ذكرى مولد عبلة كامل، رغم سنوات عمرها الطويلة 60 عاما إلا أن علاقتها بالصحفيين لم تتغير، بل على العكس، ابتعدت عن التواصل معهم بعد فترة قليلة من هذه المقابلة، وفي المقابل، زاد التشابه بينها وبين النساء العاديات، سواء في شكل أو مضمون الأدوار التي تؤديها على شاشات السينما والتليفزيون، وقد كان هذا سر تميزها الذي منحها مكانة كبيرة في قلوب المشاهدين، منذ أدوارها الأولى وحتى اليوم.

فرضت عبلة مجموعة من الالتزامات "الأخلاقية" على تجربتها التمثيلية، دون أن تظلم موهبتها أو تخلّ بقواعد الفن الذي تحترمه وتحبه.

يبدو أن هذا هو العهد الذي قطعته على نفسها أمام عائلتها المحافظة ذات الأصول الريفية، التي عارضت بشدة أن تكون ابنتها ممثلة، وقد نال ذلك إعجاب قطاع كبير من الجمهور، تأثر بموجة التزمّت التي سادت في ثمانينيات القرن الماضي. وتوطدت علاقتها مع جمهورها، وتحولت إلى محبة خالصة، بعد العديد من الأعمال المميزة التي يصعب حصرها، لذا سنركز على رحلتها السينمائية التي يمكن تقسيمها إلى عدة مراحل، وكأنها تعكس المسار الطبيعي الذي تسلكه غالبية النساء العربيات، من الشباب إلى الشيخوخة.

فتاة تبحث عن صوتها

في عروض المونودراما، يمتلك ممثل واحد خشبة المسرح ليستعرض قدراته أمام الجمهور بأدائه الفردي. في هذا النوع من المسرحيات لا يمكن تحمل أنصاف الموهوبين، فإما أن يكون ممثلاً متميزاً أو يفشل في إمتاع الحضور. في هذا السياق، تعرف المخرج يوسف شاهين على الممثلة الشابة عبلة كامل التي كانت تقدم عرضاً منفرداً على مسرح الطليعة، فأعجب بموهبتها، وقرر على الفور منحها دوراً صغيراً في فيلمه (الوداع يا بونابرت، 1985). ولم تكن هذه المرة الأخيرة، بل اختارها لدور الطبيبة الصارمة في "اليوم السادس" واستعان بها في "إسكندرية كمان وكمان".

في سنواتها الأولى، قدمت عبلة الكثير من الأدوار المتنوعة في السينما، متحمسة لخوض تجارب مختلفة تساعدها على اكتشاف بصمتها الخاصة، وصوتها الذي يميزها عن باقي أبناء جيلها.

تمردت عبلة كامل على أدوارها السابقة في فيلم "عرق البلح"، وجسدت دور "سليمة" التي تقهرها شهوتها، وتدفعها إلى محاولة اغتصاب الشاب الوحيد في القرية، وعندما يصدها تجد في السجائر لذة تستغني بها عن الجنس

وقد لفتت ملامحها الهادئة، وبشرتها القمحية، وشعرها المموج انتباه المخرجين الذين كانوا يبحثون دوماً عن وجوه مصرية خالصة، فجسدت شخصية "آمال"، الزوجة التي تصاب بالجنون تدريجياً بسبب هوسها بالمال في "الطوفان"، ولعبت دور "سامية"، الطالبة الجامعية التي تدخل السجن على خلفية اعتقالات عام 1968، وتخرج منه أكثر تمسكاً بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان في "قانون إيكا". وهي أيضاً "سميحة"، الفتاة غير المتعلمة التي تجبرها الظروف الاقتصادية الصعبة على الزواج من ثري عربي في "البنات والمجهول".

في هذه المرحلة، الثمانينيات، ظهر جيل جديد من المخرجين يسعون إلى إحداث تغيير في السينما، وقد جاءت للممثلة الشابة فرصة المشاركة في أفلامهم، حيث وقفت أمام فاتن حمامة في فيلم المخرج خيري بشارة الأول "يوم مر ويوم حلو"، لتجسد شخصية فتاة شعبية ترفض أن تكون ضحية لعائلتها الفقيرة، وتحدد مصيرها بنفسها. وقد شبهتها سيدة الشاشة العربية بنفسها، قائلة: "عبلة معجونة بماء الموهبة، وقد تنبأت لها أن تكون نجمة كبيرة منذ المشهد الأول الذي أديته أمامها... تلقائية بنسبة 100%، وهي المدرسة التي اتبعها في أدائي التمثيلي".

كما قدمت مع المخرج رأفت الميهي دوراً صغيراً في فيلمه الرومانسي "للحب قصة أخيرة"، ثم حصلت على دور أكبر في فيلمه الكوميدي "سيداتي آنساتي"، إلى جانب مشاركتها في أول أفلام سعيد حامد وأكثرها جرأة "حب في الثلاجة"، الذي يرثي حال جيل أحلامه كلها مجمدة ومؤجلة إلى ما لا نهاية.

المرأة المحبة المضحية

في كتابها "فن التمثيل السينمائي"، توضح كاثي هاس أن الممثل المحترف عليه أن يتدرب باستمرار على إتقان آلته مثلما يفعل عازف الموسيقى، والآلة هنا هي ذاته، جسده وعقله وروحه، التي يحاول تطوير مهاراتها في البداية بشكل واع، لكن شيئاً فشيئاً تصبح بالنسبة له "طبيعة ثانية"، بعد مرحلة طويلة من العمل الشاق. هذا بالضبط ما فعلته عبلة كامل: استغرق الأمر عدة سنوات حتى أصبحت متمكنة من العزف على آلتها بمنتهى السلاسة، بعدما وجدت أسلوبها الخاص، الذي يميزها في التسعينيات.

يمكن أن نعتبر المخرج يسري نصر الله هو كلمة السر في هذه المرحلة، لأنها تبدأ وتنتهي عنده. تعاونت عبلة معه في بدايتها من خلال فيلم "سرقات صيفية"، لكن بعدما فرغت من مرحلة البحث عن صوتها كان فيلم "مرسيدس، 1993" نقطة انطلاق المرحلة الثانية التي استطاعت خلالها ترك بصمتها في الأفلام مهما كان حجم الدور. في هذا الفيلم تلعب "روحية" الراقصة المصابة بشلل الأطفال، وعرافة المستقبل التي تنُبئ البطل بما سيحدث له. تبدو عبلة في هذا الدور صغير الحجم كبير التأثير على الشاشة واثقة من نفسها وقدراتها التمثيلية أكثر من أعمالها السابقة، كما يحمل الأداء لمحة عما ستقدمه فيما بعد في المسلسل المميز "حديث الصباح والمساء"، وتنتهي هذه المرحلة بفيلم "المدينة، 2000" الذي تجسد فيه دور أم البطل البسيطة الحنونة، الشخصية التي ستظهر بها بشكل أكثر كوميدية وشعبوية في السنوات اللاحقة.

في هذه المرحلة مرت عبلة بما تمر به غالبية النساء في منتصف الثلاثينيات، حيث اكتسبت بضع كيلوجرامات زائدة، وتخلت عن لعب دور الفتاة الصغيرة واختارت أن تشرع في تقديم دور المرأة المحبة الولهانة خفيفة الظل، التي تضحي بكل شيء من أجل حبها بأريحية شديدة وسلامة نية، فعيناها لا تريان أحداً أجمل من رجلها، وقلبها لا يفرح ولا يحزن إلا من أجله، لأنه الدنيا وما فيها. ظهرت ملامح هذا الأداء في فيلم "سواق الهانم"، وتطورت مع لعب دور البائعة المتجولة التي تعترف على نفسها كذباً لتنقذ حبيبها في "قشر البندق"، وفتاة الليل التي تتخلى عن أموالها لتساعد حبيبها في الزواج بغيرها في "سارق الفرح"، حتى اكتملت في "هيستريا" مع شخصية "وداد"، الصبورة القنوعة التي لا تطمح في شيء سوى أن يحنو عليها حبيبها بعد يوم طويل من العمل الشاق.

لكن فجأة تخلت عن دورها المعتاد الذي أتقنته بشدة وتمردت على كل شيء مع المخرج رضوان الكاشف في "عرق البلح"، حيث جسدت ببراعة وجدية تامة شخصية امرأة صعيدية في قرية هجرها رجالها بحثاً عن سبل أفضل للعيش. فهي "سليمة" التي تقهرها شهوتها وتدفعها إلى محاولة اغتصاب الشاب الوحيد في القرية، وعندما يصدها تجد في السجائر لذة تستغني بها عن الجنس. تثبت هنا عبلة أنها قادرة على تحدي ذاتها كممثلة في دور جريء شكلاً ومضموناً عنها، يقودها لاكتشاف قدراتها من جديد.

الأم الداعمة لجيل الشباب

"أفُضل الكوميديا على الأدوار الحزينة... من خلالها يقال كلام عظيم بطريقة مرحة... محدش ناقص نكد"، هكذا تقول عبلة كامل في بدايتها خلال أحد الحوارات الصحفية. الأمر الذي سيصبح عنوان مرحلتها الثالثة التي لم تقدم خلالها سوى الأدوار الكوميدية. وعلى الرغم من أنها كانت لا تزال في عمر يسمح لها بتقديم أدوار متنوعة مثل بقية الممثلات، اختارت وهي في بداية الأربعينيات من عمرها أن تكون أماً لجيل كامل من شباب يتحسسون خطواتهم السينمائية، في ظل أجواء مرحّبة بتيار المضحكين الجدد.

لعبت دور "سامية"، الطالبة التي تدخل السجن، وتخرج منه أكثر تمسكاً بالدفاع عن حقوق الإنسان في "قانون إيكا". وهي أيضاً "سميحة"، الفتاة غير المتعلمة التي تجبرها الظروف الاقتصادية على الزواج من ثري عربي في "البنات والمجهول"

كانت البداية مدوية مع فيلم "اللمبي، 2002"، الذي صدمت به الجمهور والنقاد، نظراً لاختلافه التام عن كل ما قدمته. حيث جسدت سيدة من الطبقات الشعبية تساعد ابنها الفاشل على النجاح في حياته، غير آبهة بمشروعية أفعالها من عدمها. فاق الجمهور سريعاً من الصدمة واستمتع بتجربتها الجديدة، لكن النقاد لم يغفروا لها أبداً واعتبروا أنها تكتب نهايتها بيدها، أما هي فلم تتراجع، واستمرت في استثمار نجاحها، مكونة ثنائياً مع الكاتب بلال فضل، في أفلام مثل "خالتي فرنسا" و"بلطية العايمة".

لطالما وظفت عبلة كامل حركات جسدها وصوتها في أدائها التمثيلي بمهارة وعفوية شديدة، كما كانت تغني إذا تطلب الأمر ذلك. لكن في مرحلة الكوميديا الخالصة أكثرت من استخدام لغة الجسد، وزادت جرعة الغناء في أفلامها بطريقة تتناسب مع القالب الشعبي، فكانت هي البطلة أخيراً التي تكتب لها الأفلام لتستعرض كافة مواهبها، ويحجز الجمهور التذاكر لمشاهدتها تفعل كل هذا باستمتاع شديد.

تمردت عبلة في النهاية وشاركت في فيلم متواضع فنياً عام 2010، بعيد كل البعد عن الكوميديا، ثم هجرت السينما وركزت على نجاحاتها التليفزيونية. لكن مسيرتها السينمائية باقية لتؤكد أن الممثلة التي لم تكن يوماً فتاة أحلام بالمعني التقليدي، كانت أكثر من ذلك بكثير، عندما تمكنت من اختيار أدوار تتماس مع حياة النساء العاديات في كافة مراحل حياتهن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image