عندما كان "حزب البعث" برئاسة صدام حسين يحكم العراق، دوّن تقريباً كل شيء عن المجتمع والسياسة والفن والأحزاب في وثائق وصل عددها إلى أكثر من خمسة ملايين صفحة.
تتضمن هذه الوثائق صفحات قادرة على إثارة روح الانتقام في المجتمع العراقي، إذ كان حزب البعث على سبيل المثال يطلب تقارير من المواطنين عن أقاربهم وجيرانهم، وكله موثّق بالاسم والتاريخ وخط يد كل شخص.
الأخطر أن هذه الوثائق تتضمن أسماء شخصيات سياسية وحزبية يقول محللون إن منهم من لا يزال في السلطة حالياً، وكانوا مُجندين من قبل حزب البعث والأمن العراقي ويتظاهرون على أنهم من المعارضة.
وقد تعيد الوثائق لكثيرين فتح جراح الماضي، إذ يعتقد عراقيون أن أقاربهم الذين اختفوا سواء خلال معارضتهم لصدام حسين أو مشاركتهم في حرب خارجية، قد كتب مصيرهم وما تعرضوا له في تلك الحقبة القاسية من تاريخ العراق.
عودة الوثائق
في 31 آب/أغسطس الماضي، استعادت الحكومة العراقية أرشيف القيادة القطرية لحزب البعث الذي كان يرأسه صدام حسين، وذلك وفقاً لاتفاق مسبق بين واشنطن وبغداد.
وأفرجت مؤسسة الذاكرة العراقية في 11 أيلول/سبتمبر الحالي عن صور لبعض هذه الوثائق والتي أثارت رؤيتها مخاوف من فتح جراح قديمة وكشف أسرار خطيرة.
بحسب وكالة "فرانس برس"، فإن الولايات المتحدة عثرت عام 2003 على خمسة ملايين صفحة من رسائل بين حزب البعث ووزارات تتعلق بأمور إدارية، وتقارير كُتبت من عراقيين يتهمون جيرانهم بانتقاد صدام حسين، وأخرى تتحدث عن شكوك حول خيانة جنود عراقيين تعرضوا للأسر خلال الحرب العراقية الإيرانية.
استدعت القوات الأمريكية في ذلك الوقت رجُلين لفك تشفير الملفات العربية. الأول كنعان مكية وكان أمين أرشيف معارض منذ فترة طويلة لصدام حسين، والثاني تلميذ الأول وكان مصطفى الكاظمي، الكاتب الصحافي والناشط المعارض في ذلك الوقت، ورئيس وزراء العراق حالياً.
بعد استعادة العراق من أمريكا أرشيف القيادة القطرية لحزب البعث، والذي يتضمن وثائق بأسماء قيادات، ومراسلات قيادة الحزب والأجهزة الأمنية، وتقارير مواطنين عن أقاربهم وجيرانهم، وأدوار رجال دين في تلك المرحلة... مخاوف حول مصير هذا الأرشيف، وتداعيات الكشف عنه
وقال مسؤول عراقي إن الوثائق التي يبلغ وزنها 48 طناً، وصلت إلى بغداد في 31 آب/أغسطس، وخُزّنت على الفور في موقع مجهول، بينما لا توجد حالياً خطط لدى الحكومة لإتاحتها أمام الجمهور.
ما أهمية أرشيف حزب البعث؟
يرى الباحث العراقي والأكاديمي فراس إلياس أن الأرشيف الذي سلمته الإدارة الأمريكية للعراق، أثناء زيارة الكاظمي لواشنطن الشهر الماضي، هو الجزء الثالث من أرشيف قامت الإدارة الأمريكية بتسليمه للعراق تباعاً.
ويلفت، في حديثه لرصيف22، إلى أن الأرشيف الأول كان يشمل الملف الحكومي والاستخباراتي، والثاني كان يشمل الملف الكردي، والثالث والأخير كان الأرشيف الخاص بالقيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.
ويعتبر إلياس أن الأرشيف الأخير مهم لاحتوائه المحاضر الداخلية الخاصة بقيادة حزب البعث، وأسماء القيادات، والمراسلات التي كانت تجري بين قيادة الحزب والأجهزة الأمنية في ذلك الوقت، كما أنه يشتمل على الأدوار التي كان يقوم بها الحزب، في مراقبة وتتبع أنشطة الأحزاب التي كانت معارضة في ذلك الوقت، والتي يقود جزء منها العراق اليوم، فضلاً عن أسماء الأشخاص التي تمكّن الحزب من تجنيدهم.
وينتظر العديد من العراقيين السماح لهم بالاطلاع على الأرشيف وذلك في محاولة لمعرفة مصير عدد كبير من المجندين الذين اختفوا خلال المشاركة في غزو الكويت أو المعتقلين الذين أُلقي القبض عليهم على خلفية معارضتهم صدام حسين واختفوا بعدها ولم يعرف أحد مصيرهم.
في حديث للوكالة الفرنسية، قالت سيدة عراقية تدعى حسنية وتبلغ من العمر 51 عاماً أن هذه الوثائق يمكن أن تكون أول الخيط حتى تعرف إذا كان زوجها الذي شارك في غزو الكويت ضمن الجيش العراقي عام 1991، لا يزال على قيد الحياة. وتقول حسنية متخوفة من مصير الأرشيف: "سأموت قبل أن يكشفوا الأرشيف للعامة".
يستبعد إلياس بدوره أن يتم السماح للعامة بالاطلاع على هذا الأرشيف من قبل الحكومة العراقية، زاعماً أنه تم نقل جزء من هذا الأرشيف لإيران بعد وصوله لبغداد، وهو ما وضع العديد من علامات الاستفهام.
ويقول إلياس: "من غير المتوقع أن يتم كشفه للرأي العام والباحثين وغيرهم، لما فيه من معلومات تخص العديد من الأحزاب والشخصيات المتواجدة في العراق اليوم، والتي قد تكشف الكثير عنهم وعن أدوارهم، ما قد يحرك الشارع ضدهم مرة أخرى".
في تغريدة له على موقع تويتر، قال المعارض العراقي علي فاضل وهو رئيس "المنظمة الأمريكية - العراقية": "من ضمن وثائق الأرشيف أن هناك بعض رجال الدين المعروفين عند السنة والشيعة كانوا يعملون وكلاء في الأمن العراقي".
وأضاف: "بعض العمائم (رجال دين) الموجودة الآن في السلطة كانوا يكتبون تقارير شهرية للأمن العراقي وبعضهم قريب جداً من المراجع ويعاهدون صدام حسين على أن يبقوا سيوف مشرعة بيده".
بدوره، رأى مدير مبادرة "العراقية في المجلس الأطلسي" عباس كاظم الذي اطلع على الوثائق لكتابة مؤلفات أكاديمية حول تاريخ العراق ومجتمعه أن "العراق غير جاهز، ولم يبدأ عملية المصالحة التي تسمح لهذا الأرشيف بلعب دور إيجابي".
وأضاف: "البعثيون وثقوا كل شيء من النكتة إلى الإعدام. إذا تم كشف ذلك، سيبدأ السياسيون وزعماء العشائر والناس في الشارع باستخدامه ضد بعضهم البعض".
وعلى الرغم من تأكيدات محللين ومسؤولين عراقيين أنه لن يتم الكشف عن الأرشيف للعامة، فإن آخرين أشاروا إلى أن الجانب الأمريكي وثّق هذا الأرشيف من خلال جامعة "ستانفورد"، والتي قامت بعمل نسخة إلكترونية منه، خشية التلف أو التلاعب به، وبعد الانتهاء منه تمّ تسليمه للجانب العراقي.
لذلك، إن أُثبت توثيق "ستانفورد" للأرشيف، لا يزال أمام أهالي المفقودين من العراقيين اللجوء إلى القضاء الأمريكي للمطالبة بفحص الوثائق لمعرفة مصير أقاربهم.
يشير متابعون إلى أهمية أرشيف"البعث" المُستعاد من أمريكا حديثاً باعتباره ثروة معرفية، لكن في بلد كالعراق، حيث التاريخ لم يصبح تاريخاً بعد ولم يحصل قطع مع المرحلة السابقة، من الصعب رؤية الأرشيف في إطار علمي بحت بقدر رؤيته أداة انقسام تعيد تعزيز الخلافات
اللافت أن أنصار حزب البعث العراقي يرون أن الحكومة الحالية لن تسمح للعامة بالاطلاع على الأرشيف لأنه يكشف وطنية نظام صدام حسين، وهو ما أشار إليه عضو سابق في الحزب رفض الكشف عن هويته للوكالة الفرنسية قائلاً: "كشف الأرشيف للعامة سيثبت وطنية حزب البعث".
هل يستفيد الكاظمي من الأرشيف؟
يرى إلياس أن الكاظمي كان قد اطلع على الكثير من الملفات التي يحتويها الأرشيف المُسلّم للعراق، عندما كان يعمل في مؤسسة الذاكرة العراقية التي تشكلت بعد عام 2003، واختصت بتوثيق فترة حكم حزب البعث.
ويلفت إلى أن الكاظمي استفاد من هذه الوثائق أثناء توليه رئاسة جهاز الاستخبارات العراقي، مشيراً إلى أن توقيت تسليم الأرشيف للكاظمي خلال زيارته لواشنطن كان مرتبطاً بالإجراءات الفنية، وليس بحسابات سياسية دقيقة، كون الجانب الأمريكي كان قد تفاهم مع الجانب العراقي بهذا الخصوص مسبقاً.
في سياق متصل، يرى الكاتب العراقي أحمد الذواق أن إعادة هذه الوثائق للعراق ليست كما صرّح الجانب الأمريكي بأنها "بادرة حسن نية" من واشنطن تجاه بغداد، وإنما جاءت لاستهداف شخصيات أو جهات معينة قبل الانتخابات. ويقول الذواق في حديثه لرصيف22 موضحاً رأيه: "هذه الوثائق تمس شخصيات سياسية وعشائرية ودينية وإعلامية تتصدر المشهد اليوم باعتبارها طبقة معادية لإرث صدام حسين وللأمريكيين، وهو ما قد يدفع قوى سياسية للبحث في هذا الأرشيف واستغلاله انتخابياً".
"ثروة معرفية"
على الرغم من تصاعد الجدل حول المخاوف من استخدام بعض الأطراف هذا الأرشيف في الانتقام من خصومهم وإثارة العداء بين أطياف المجتمع بل بين أبناء العائلة الواحدة، فإن كثيرين طالبوا بضرورة السماح للباحثين بالاطلاع عليه لأغراض علمية ولتوثيق تاريخ العراق خلال حكم البعث.
وتقول مارسين الشمري التي استخدمت هذا الأرشيف لكتابة رسالة دكتوراه، وهي عضو في معهد "بروكينغز" في الولايات المتحدة، إن "أقل ما نستطيع فعله هو إتاحته للباحثين العراقيين بالطريقة نفسها التي أتيح بها للباحثين الأمريكيين".
وفي هذا السياق، يشير متابعون إلى أهمية الأرشيف باعتباره ثروة معرفية، فضلاً عن إمكانية لعبه دوراً علاجياً في التخلص من الإرث الديكتاتوري مع الأخذ بالاعتبار الحرص على عدم توظيفه سياسياً. لكن في بلد كالعراق، حيث التاريخ لم يصبح تاريخاً بعد ولم يحصل قطع تام مع المرحلة السابقة، من الصعب رؤية أرشيف حزب البعث العراقي في إطار علمي بحت بقدر رؤيته أداة انقسام قد تعيد تعزيز الخلافات التي لا تكاد تخمد حتى تشتعل مجدداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون