في صيف عام 1949، تقدم رجل يدعى بشير كمال، بترشحه لرئاسة الجمهورية في سورية، منافساً للزعيم حسني الزعيم، مهندس الانقلاب الأول الذي أطاح بحكم شكري القوتلي، رئيس سورية الشرعي والمنتخب. وصفه مدير مكتب الزعيم، نذير فنصة، في مذكراته بأنه "أحد مهابيل الشوارع في دمشق"، وبذلك اعتُبر الرجل مجنوناً وتم اعتقاله وسوقه إلى سجن المزة العسكري.
شُطب اسم بشير كمال طبعاً من قوائم الانتخابات التي قادها حسني الزعيم منفرداً، وفاز بنسبة %116 من الأصوات. كانت تهمة الجنون حاضرة دوماً في بلدان المشرق، تلصق فوراً بأي شخص يهدد مشاريع الآخرين في بلاده، ابتداء من السلطان مراد الخامس وصولاً إلى ملك الأردن طلال بن عبد الله... مروراً ببشير كمال.
وُصف بأنه أحد "مهابيل" دمشق، وسُجن بتهمة الجنون، لنتعرف إلى بشير كمال الذي أسس حزب الله السوري في عشرينيات القرن الماضي ونافس حسني الزعيم على رئاسة الجمهورية في سورية عام 1949
في عام 2003، قابلت نذير فنصة في باريس، وسألته عن بشير كمال، ذلك الرجل "الانتحاري" الذي تحدى حسني الزعيم وسقط - أو أًسقط - من كتب التاريخ كافة، كان جوابه: "لم يكن مجنوناً ولكن هذه التهمة... تهمة الجنون... استُخدمت للتخلص منه ومن أفكاره. كان لطيفاً دمثاً ولكنه غريب الأطوار. كان يكره حسني الزعيم والشعور كان متبادلاً بينهما".
توفي بشير كمال في مدينة حلب يوم 20 آب 1951، بعد سنتين فقط من مقتل حسني الزعيم، وقد وصفته جريدة الفيحاء الدمشقية أنه كان من الظرفاء ومن أصحاب الظلّ الخفيف والنكتة الحاضرة.
حزب بشير كمال
لعل القصة المنسية لبشير كمال تزداد غرابة بسبب الحزب الذي أنشأه هذا الرجل في حلب نهاية العشرينيات، واسمه "حزب الله". القارئ المعاصر قد يربط مباشرة بين حزب الله "السوري" والحزب اللبناني الذي ظهر عام 1982، بعد واحد وثلاثين سنة من وفاة بشير كمال. وقد يتخيل القارئ أن حزب الله السوري كان حزباً جهادياً وعقائدياً مثل حزب الله اللبناني، شعاره البندقية، ولكنه ظهر قبل احتلال فلسطين بسنوات طويلة، وقبل عقود من ثورة الخميني.
أسس بشير كمال "حزب الله" السوري في عشرينيات القرن الماضي، وبعيداً عن أي برنامج جهادي أو عقائدي، كان سلميًا متأثراً بحركة اللاعنف وزعيمها المهاتما غاندي في الهند.
في الحقيقة، كان حزب الله "السوري" نقيضاً لكل ذلك، فهو حزب سلمي بامتياز ومتأثر بحركة اللاعنف وزعيمها المهاتما غاندي في الهند. كان بشير كمال يلفظ العنف بكل أشكاله، ويدعو لنضال سلمي ضد الاحتلال الفرنسي في سورية، على الطريقة "الغاندية". مع العلم أن خلفية بشير كمال كانت عسكرية، فهو ضابط متقاعد من الحرس السلطاني في إسطنبول، خدم مع السلطان وحيد الدين، وعاد إلى سورية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وحاول جاهداً دخول المعترك السياسي ولكن من دون أي جدوى.
وفي برنامج حزب الله "السوري" نجد الكثير من الأفكار التقدمية التي طبقت في أوروبا في سنوات لاحقة، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة. في أبو ظبي أوجدت "وزارة السعادة" عام 2016، وفي حزب الله السوري كان هناك سعي لإنشاء "وزارة المحبة" في دمشق، هدفها تعزيز الروابط العائلية داخل بيوت السوريين، ومن ثمّ في كل مفاصل المجتمع.
وقد طالب بشير كمال بوزارة متخصصة بالنساء، لتمكينهم سياسياً واجتماعياً وتحريرهم من سطوة المجتمع الذكوري، كما طالب بوزارة للإنسانية، ووزارة للتأديب ووزارة لحقوق الحيوانات، وربما كان هذا الطلب الأخير وراء اتهامه بالجنون وخفة العقل. وبدلاً من وزارة الصحة التي ظهرت عام 1946، طالب بشير كمال بإنشاء وزارة للحياة، هدفها المدّ بعمر الإنسان قدر المستطاع عبر اتباع نظام غذائي وصحي، يأكل فيه المواطن مما تنتجه الأرض السورية الخصبة من خضار وفواكه.
نشأ "حزب الله" السوري في نهاية عشرينيات القرن الماضي بأجندة سلميّة، فكان ضمن برنامجه دعوة لإنشاء عدد من الوزارات كوزارة النساء، ووزارة مكافحة الجهل ووزارة حقوق الحيوانات الأمر الذي أدى إلى اتهام مؤسسه بالجنون
ومن أبرز مطالباته كان إنشاء وزارة لمكافحة الجهل، بالتعاون مع زعيم دمشق، فخري البارودي، الذي تشارك مع بشير كمال في إطلاق "الحملة الوطنية لمكافحة التقليد" سنة 1937، هدفها إجهاض أي مشروع سوري يفتقد إلى روح الابتكار والريادة. ولم يتوقف حزب الله السوري عند هذا الحد، وقد نادى بوزارة لشؤون الأمم المتحدة، معتبراً أن تطبيق أهداف المنظمة الدولية يجب أن يكون نقطة ارتكاز في السياسة الخارجية السورية، تحديداً بعد مشاركة سورية في تأسيسها عام 1945. وأرسل بشير كمال كتاباً بهذا الأمر إلى ممثل سورية الدائم في نيويورك، الرئيس فارس الخوري.
وأخيراً، كان هناك بند في دستور حزبه لوزارة حماية المهن والحرف اليدوية خوفاً عليها من الانقراض التدريجي بسبب الحداثة.
يبقى السؤال: هل كان هذا الرجل مجنوناً بالفعل، كما وصفه حسني الزعيم، أم أنه عبقري سابق لعصره وأوانه، كان يتوجب على سورية الاستفادة منه؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين